"المشكلة في الحياة إن فيه معاني اتغذت بيها النفوس خلال السنين اللي فاتت.. معاني بقى تنمية بشرية على دعوة ماركتنج إسلامي على دعاة جدد على مفاهيم كلها بتمحور الكون حول الإنسان، وده الوهم اللي كان بيتباع"، هكذا وصف الشيخ علاء عبد الحميد، واحد من أبرز المعلمين الجدد، ما تسببت فيه أنماط التدين المرتبطة بالدعاة الجدد من مفاهيم مغلوطة، في رأيه، حول الإله والكون والحياة، مبررًا نشاطه ومحاضراته بالعمل على تصحيح هذه المفاهيم.
أُطلق وصف الدعاة الجدد على مجموعات من شباب الدعاة، بدأت في الظهور وتزايد نفوذها خلال العقد الأول من القرن الحالي؛ لتستحوذ على نفوذ كبير في المجال الديني، وتجذب إليها قطاعات واسعة من الشباب المقبلين على التدين، خاصة من المنتمين للطبقات المتوسطة والعليا، ليس في مصر وحدها، لكن في بلدان عدّة من العالم الإسلامي.
ويرى باتريك هايني في كتابه إسلام السوق، أن صعود ظاهرة الدعاة الجدد ارتبط بسياق من سيادة الروح الرأسمالية، وبزوغ أفكار التنمية البشرية والتركيز على النجاح الفردي وتحقيق الثروة. وباتت الدعوة عملًا تسويقيًّا إعلاميًّا، يعتمد منطق "السوق" الرأسمالي، وأصبح نتاجها نمطًا من التدين الفردي، يتضمن القيم الحداثية الفردانية، وما يرتبط بها من تفتيت للقيم الدينية المركزية الكبرى التي تُصيبها السيولة، مثل مفهوم الجهاد، والطموحات الكبرى التي قامت عليها "الصحوة الإسلامية".
بفعل أحداث ثورة يناير، فقدَ الدعاةُ الجدد قدرتهم على الحفاظ على نفوذهم في المجال العام؛ خاصة بعد مواقفهم المتحفظة من الثورة، التي انخرط فيها قطاعاتٌ واسعة من الشباب. كما أن التنظيمات الإسلامية التقليدية لم تعد بعد الثورة بذات الجاذبية للشباب؛ نتيجة الخلافات السياسية بينها والتيارات الثورية، واجتمعت هذه التطورات لتُفسح الطريق أمام "المعلمين الجدد".
تُعبر هذه الظاهرة عن صعود نجم مجموعات من المعلمين الأزهريين المستقلين، الذين بدأ نفوذهم في المجال العام يحلُّ محلَّ كلٍّ من الدعاة الجدد وجماعات الإسلام السياسي، ليعودوا لدراسة التراث والفقه كضرورة مهمة لتجاوز الأزمات الراهنة، ما يجعل منهم رؤية سلفية، أي تعتمد على السلف في المقام اﻷول، وإن اختلف سلفهم عن سلف "التيارات السلفية".
ومن بين هؤلاء من شاركوا الشباب في الثورة وأحداثها، وتمايزت مواقفهم السياسية عن مواقف مجموعات الإسلام السياسي التقليدية، ونشطوا في تدريس العلوم الشرعية وفق المنهج الأزهري في أوساط الشباب، فأقبلت عليهم قطاعات من المتدينين الراغبين في المعرفة، وفي الوقت نفسه غير الراغبين في الانخراط في التنظيمات الإسلامية أو متابعة الدعاة الجدد.
تُعتبر مدرسة شيخ العمود أولى فعاليات المعلمين الجدد، التي انبثقت عنها فعاليات أخرى جماعية وفردية، تتبنى الأهداف ذاتها، وتُحدث نفس التأثيرات في المجال الديني، وفي أنماط التدين. وإذا اعتبرنا أن عمرو خالد هو أول الدعاة الجدد في مصر، فإن أنس السلطان يُمكن اعتباره أول أولئك المعلمين الجدد؛ باعتباره مؤسس ومدير مدرسة شيخ العمود.
بداية المعلمين الجدد
وُلدت مدرسة شيخ العمود من رحم الأحداث التي أعقبت ثورة يناير من صراعات سياسية وأيديولوجية وتحولات في الفكر وفي أنماط التدين داخل المجتمع، ونجحت في استقطاب العديد من طلاب الجامعات والشباب المقبلين على التدين الذي تتمايز معالمه عن تيارات الإسلام السياسي والجماعات السلفية، وعن التدين الأزهري الرسمي، وعن أسلوب الدعاة الجدد.
واستهدفت هذه المدرسة إعادة علماء الشريعة إلى مركز التفاعلات السياسية والاجتماعية في مصر، عن طريق إحياء الصورة الذهنية عن المدارس الإسلامية القديمة مثل السلطان حسن والمدرسة النظامية والأروقة الأزهرية، وعن العالِم المتخصص في العلوم الشرعية الذي يجلس مستندًا إلى أحد الأعمدة ويلتف حوله طلابه "يأخذون عنه العلم والأخلاق معًا"؛ ولهذا سُميت المدرسة بـ"شيخ العمود" بحسب موقعها الرسمي.
ويعد الشيخ عماد عفت، أمين الفتوى بدار الإفتاء سابقًا، والذي توفي في العام 2011 إثر إصابته بطلق ناري فيما عٌرف بـ أحداث مجلس الوزاء، من الرموز التي تتبناها مدرسة شيخ العمود. ويعتبر مؤسسي المدرسة أنفسهم من طلاب عفت وأصدقائه، ويعلن الفيديو التعريفي للمدرسة أن استشهاده كان من أهم دوافعهم لاستكمال مشروع المدرسة.
وبدأت شيخ العمود أولى دوراتها التعليمية داخل جامعة الأزهر في مارس/آذار 2012، بعد شهور من الاجتماعات التحضيرية التي بدأت في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وذلك في سياق سياسي مليء بالاضطرابات والتحولات الهامة بعد ثورة يناير.
وعن علاقة مدرسة شيخ العمود بالسياسة، يقول أنس السلطان في مقابلة بحثية أجريتها معه أثناء إعدادي لرسالة الماجستير "مدرسة شيخ العمود لا تتجاهل السياسة؛ بل هي مهمومة بها بمعناها العام، الذي هو إصلاح الأمور، وليس بالسياسة بمعنى الدعوة إلى أحزاب أو مرشحين دون غيرهم، ولكن نريد أن نكون ساحة آمنة لاستقبال المختلفين سياسيًّا والمختلفين مذهبيًّا والراغبين في التعلم بمنهجية تراثية فقط.. فكان ظهور المدرسة ضرورة من أجل الخروج بالحالة الإسلامية من الاستقطاب السياسي والأيديولوجي الحاد الذي شهدته مصر في مرحلة ما بعد الثورة"(1).
يذكر "دليل الدراسة بمسارات وأنظمة مدرسة شيخ العمود" أن من أهداف المدرسة "التصالحية، والتعاون قدر الإمكان مع كافة المؤسسات والأنشطة المناظرة"، وأن "لا عمل بالسياسة، ولا استحضار لأي تصنيف فقهي أو حركي أو مذهبي". كما يؤكد الدليل أهمية إحياء التعليم "كوظيفة أساسية للمجتمع والأمة، قبل أن يكون من وظائف الحكومة والدولة"(2).
وتعلن المدرسة أن من أهم أهدافها "إعادة التواصل المفقود بين علماء الأمة وشبابها"؛ وفي سبيل ذلك فهي تسعى لنشر الثقافة الشرعية بين الشباب، من خلال تدريس العلوم الشرعية واللغوية؛ كالفقه وأصوله والعقيدة والتزكية والمنطق وعلوم القرآن والنحو والصرف والبلاغة لغير المتخصصين من أبناء التعليم المدني الحديث.
وتمثل مدرسة شيخ العمود، وكل أنشطة المعلمين الجدد، امتدادًا وعودة جديدة للتدين الأزهري، بحسب السلطان الذي يوضح معالم التمايز بين التدين الأزهري ونظيره السلفي "أهم فارق بين المدرسة التراثية والمدرسة الحداثية التي يسمونها خطأً بالسلفية، وهي ليست من السلفية في شيء، يتمثل في مسألة الجمود والسعة؛ فالمدرسة التراثية عندها قبول لفكرة الخلاف المذهبي، ويمكن أن تتعدد الآراء تجاه المسألة الواحدة.. بخلاف المدرسة الأخرى التي عندها قدر كبير من أحادية الرأي؛ إما أن تكون معي وإما أن تكون على الباطل والضلال"(3).
التصوف الثورة
تحتوي قائمة المعلمين الجدد على أسماء عدّة خلاف أنس السلطان، منهم من شق طريقه داخل الأوساط الشبابية كالشيخ أحمد الدمنهوري، وهو حاصل على الدكتوراه من قسم التفسير بجامعة الأزهر، والذي يتسم بحماسته الشديدة للمنهج الأزهري، وحده نقده للتيار السلفي، وتأييده للتصوف وضرورة إحياء دوره في المجتمع، مُعتقدًا أن فيه حلًّا للكثير من أزماته.
ويرى الدمنهوري أن الكثير من الشباب، والإسلاميين منهم خاصة، "حُجبوا عن واحة التصوف، وبدونه يتحول الإسلام إلى أيديولوجيا يُنتصر لها بكل طريق، فيظهر الغر الصبي لينتصر لدين الله بالسب والشتم"(4).
كما يرى أن التصوف أكثر انتشارًا عند جيل الألفية، الذي بات أكثر روحانية كرد فعل على انتشار الوهابية والسلفية خلال العقود الماضية، "ببساطة يعودون إلى جوهر الدين؛ لأنهم وجدوا أن جيل الآراء الدينية التي يروج لها لا تملأ الفراغ الموجود في قلوبهم".
ويخوض الدمنهوري معارك مع تيارات الإسلام السياسي دفاعًا عن الأزهر وعن التصوف، رغم كونه محسوبًا ضمن المعارضين لسلطة ما بعد الثلاثين من يونيو في مصر، وسبق أن كتب على فيسبوك موجهًا كلامه للتيار الإسلامي "إلى أي دين تدعون؟ وأي شريعة كنتم ستطبقون إن لم تحترموا الأزهر وعلماءه، وقد رميتموهم جميعًا بخيانة الدين كأنكم أوصياؤه الأوحدون؟! أي شريعة ستطبقون بعد أن ركبت الوهابية ظهوركم ودلدلت أرجلها؟! أي دين كنتم ستطبقون وقد ابتُلعت جماعتكم لصالح مجموعة من المهندسين والأطباء، الذين غاية علمهم في الدين ما يعلمه أدنى طالب علم فاشل في الأزهر؟! أي دين كنتم ستطبقون وشبابكم بذيء اللسان، تحول الدين بالنسبة له إلى أيديولوجيا؟"(5).
درَّس الدمنهوري بمدرسة شيخ العمود لفترة، قبل أن يتجه لتأسيس "أكاديمية وحي"، التي تتقارب مع أهداف ومنهجيات مدرسة الشيخ العمود.
موضة العلم الشرعي
من أهم نماذج المعلمين الجدد أيضًا الشيخ الأزهري علاء عبد الحميد، الذي يُدرّس العلوم الشرعية مستهدفًا غير المتخصصين؛ فيقول عن نفسه "دروسي تخاطب، بشكل أساسي، المصريين غير المتفرغين لطلب العلم الشرعي، وتهدف لتأسيس عقلية منهجية علمية لفهم التراث وعلومه الأساسية. بالنسبة لطلبة العلم فقد يجدون فائدة في الدرس، فأهلًا وسهلًا بهم، وربما لا يستفيدون بسبب حرصي على تبسيط الدرس للمصريين باللغة العامية"(6).
وينتقد عبد الحميد أسلوب الدعاة الجدد والتنمية البشرية؛ وذلك لتمحوره حول الإنسان وقدرته، والإيهام بأنه قادر على إسعاد نفسه، وأن له استحقاقًا ما في هذه الحياة، بينما الرؤى الإسلامية تؤكد أن الأمر كله بيد الله، وعلى ضعف الإنسان، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله.
كما ينتقد موجة الإقبال على دراسة العلوم الشرعية، مُعتبرًا إياها "موضة" لن تستمر طويلًا، ولن تُسفر عن أي تجديد حقيقي في فكر الأمة وعلومها، وأن السبب فيها هو الصدمة التي نتجت عن انكشاف الإفلاس المعرفي لدى التيارات الإسلامية بعد الثورة.
بين عامي 2018 و2019 كنت أعد أطروحة الماجستير، في وقت كان إقبال طلاب الجامعات على دراسة العلوم الشرعية لدى من أسميهم بالمعلمين الجدد في غاية عنفوانه ونشاطه. ولكن بحلول خريف 2022، توقف نشاط مدرسة شيخ العمود بسبب سجن مديرها ومؤسسها، واعتزل عبد الحميد السوشيال ميديا، أما الدمنهوري فرحل خارج البلاد يمارس نشاطه الكتابي والتعليمي عبر المنصات دون تأثير كبير. في إشارة على ما يبدو إلى تحقق نبوءة عبد الحميد بشأن تراجع "موضة" دراسة العلوم الشرعية وخبوّها.
(1)حوار مع الشيخ أنس السلطان، من خلال مراسلات صوتية عبر واتسآب، نوفمبر 2018.
(2)مجلس أمناء شيخ العمود: دليل الدراسة بمسارات وأنظمة مدرسة شيخ العمود (التعريفي - الأروقة - المجالس - الكتاب - التثقيفي - الندوات)، ربيع الآخر 1439هـ / يناير 2018م، ص 11،9،8.
(3)حوار مع الشيخ أنس السلطان، مرجع سابق.
(4)بوست للشيخ أحمد الدمنهوري، فيسبوك، 11 ديسمبر 2018.
(5)بوست للشيخ أحمد الدمنهوري بصفحته على فيسبوك، 13 ديسمبر 2013.
(6)بوست للشيخ علاء بمجموعة خاصة بطلابه ودروسه، فيسبوك، 5 أبريل 2019.