"عندي حالة يأس ومتضايق ومش هاقدر أتكلم"، قالها بركات المصري العامل في شركة النصر للكوك، بعد ساعات من صدور قرار تصفية الشركة الأسبوع الماضي، ولكنه في الواقع لم يكن قادرًا على السكوت.
بركات واحد من 1150 عاملًا فقدوا وظائفهم نتيجة القرار الحكومي الذي أثار الكثير من الجدل بتصفية الشركة، ولكنَّ صخب ذلك الجدل لم يكن كافيًا لمنع الصدمة التي شعر بها عمال الشركة، حيث فقدت أكثر من ألف أسرة مورد زرقها مع كثير من الشكوك في أنَّ التعويضات ستوفر مستوى المعيشة اللائق نفسه.
وبينما اعتبر رئيس شركة النصر الكوك سيد الطيب أن الشركة لا تنطبق عليها الشروط اللازمة للتصفية، على أساس أنها تحقق أرباحًا سنوية تقدّر بنحو 40 مليون جنيه، ولديها منافذ متعددة لتسويق منتجاتها، فإن محمد سعداوي رئيس الشركة القابضة للصناعات المعدنية التي تتبعها الكوك يرى أن موازنة الشركة التي تتحدث عن الأرباح لم تكن دقيقة، وأنها حققت خسارة قدرها 30 مليون جنيه.
تأسست النصر الكوك عام 1960، وتضم 4 مصانع هي الكوك والأقسام الكيماوية، وتقطير القطران، والنترات، والوحدة متعددة الأغراض. وتنتج فحم الكوك الذي يستخدم في تشغيل الأفران العالية لإنتاج الصلب بالإضافة إلى البنزول، وكبريتات الأمونيوم، والنترات، والنيتروجين.
نهاية حزينة لرحلة شاقة
يعمل بركات في الشركة منذ عام 2005 عندما كان عمره 22 سنةً "كانت اليومية 8 جنيه، وظروف الشغل صعبة بس كنا متحملينها علشان التعيين. واتعيينا في 2010". منح العمل في شركة الكوك بركات شعورًا بالعزّة "مش بس عشان شغل مستمر ومرتب كويس، مش كتير بس معقول. الأهم إن كان عندنا إحساس بالانتماء لصرح وطني". قبل أن يضيف "مش شعارات، منتجات شركة الكوك موجودة في كل بيت مصري".
كانت شركة الكوك توفر الخل الخام للمصانع، والفنيك لشركات المنظفات "وعشرات المنتجات اللي بتخش في صناعات تانية في بيوت المصريين، غير إنتاجها الرئيسي من فحم الكوك اللي كان بيغذي شركة الحديد والصلب، كنا نعمل ونشعر بأن عملنا يضيف للبلد، ولكن كل هذا توقف مع مرور الزمن".
إلى جانب مشاعر الفخر التي ميّزت سنوات عمل بركات في الشركة، كانت هناك العديد من المصاعب أيضًا، لعل أبرزها الاعتصامات والاحتجاجات التي قام بها العمال من أجل التعيين عام 2010. بالإضافة إلى مشقة العمل اليومي في البطارية "بسبب الحرارة العالية والتلوث وتأثيره على الصحة، عمال البطاريات اتحملوا كتير، وكانوا بيتصابوا بأمراض مزمنة، قلب وغضروف ورئة وضغط، كلها أمراض منتشرة بين عمال الشركة".
يبدي أحمد مخاوف من الظروف الاقتصادية الراهنة التي تجعل من "أي مشروع مالوش جدوى. وأخاف أغامر وأحط فلوس التعويض في السوق"
لم يكن هذا حجم العمالة بالشركة طوال الوقت، وفقًا للنقابي السابق بالشركة صبحي بدير الذي قال للمنصة إن "عدد العمال وصل في التسعينات 6000 عامل، بس وقفوا التعيين لفترة طويلة فالعدد نزل بالتدريج لما العمال بيطلعوا معاش عادي أو مرضي. 5000 ثم 4000 وهكذا. استعانت الشركة بعمال تابعين لمقاول لسد النقص. وكان عمال المقاول بيشتغلوا زي عمال الشركة".
وتابع صبحي "في 2010 نظمنا اعتصام 3 أيام طالبنا بتعديل الأجر الأساسي وتثبيت العمالة. نفذوا مطالبنا وثبتوا أكتر من 500 عامل، النهاردا هم قوام الشركة، وللأسف سنوات خدمتهم أقل من إنهم ياخدوا معاش".
ويشترط القانون أن يقضي الموظف 15 سنة في الخدمة ليصبح مستحقًا للمعاش، وهو ما لا ينطبق على جميع من تمت إجراءات تعيينهم في الشركة عام 2010 دون أن يسبق لهم العمل في أماكن أخرى.
مستقبل غائم
من بين هؤلاء كان بركات، الذي انتزعه غموض المستقبل من حديث الذكريات "أنا في سن العمل، عندي 39 سنة، ومعرفش هعمل إيه بعد التصفية، حياتي من أول ما اشتغلت في الشركة لحد التصفية كأنها اتبخرت. الكلام عن مشروع بقيمة التعويض ملوش معنى، إحنا شايفين الحال، وأنا مليش في البيع والشرا والتجارة".
يحمل بركات دبلوم صيانة سيارات، ولكنه لم يعمل طيلة حياته إلا في شركة الكوك "عندي 3 ولاد، هاضطر أشتغل باليومية في أي مكان، ومعرفش هيحصل إيه لي ولأولادي. اللي ممكن ينقذني إني أتوزع على شركة تانية من شركات قطاع الأعمال، أي شركة وأي شغل، المهم أأمن مرتب، وتأمين اجتماعي حتى يكون لي ولأولادي معاش".
لا يتعلق الأمر ببركات وحده، بل يواجه الكثيرون المصير ذاته، مثلما يشرح النقابي بالشركة إبراهيم عادل للمنصة قائلًا "عمال الشركة حوالي 1150، أكتر من نصهم عمالة شابة أقل من 40 سنة. أنا مثلًا خدمتي في الشركة 12 سنة، بدأت في 2008 واتثبت في 2010، وسني 41 سنة، دي الفئة الأكبر من العمال".
ويؤكد إبراهيم ما قاله بركات "أمراض المهنة متفشية في الشركة، الشركة كلها أمراض مزمنة، عدد كبير من عمال الشركة عملوا قلب مفتوح، وأمراض الرئة والسرطان منتشرة".
يرى إبراهيم حلًا واحدًا لإنقاذ مستقبل العمال وهو "التوزيع على شركات أخرى، مفيش خيار تاني، العمال لا ملهمش في التجارة والاستثمار، والتعويضات اللي هياخدوها مش هتكفي مشروع حقيقي، وجزء كبير من العمال الشباب ملهمش معاش".
أحد هؤلاء العمال الذين سيفقدون عملهم دون الحصول على معاش أحمد الراوي، الذي يبلغ من العمر 42 سنةً ويعمل في الشركة منذ عام 2005 باليومية، وعُيّن ضمن من عُيّنوا عام 2010 في قطاع الأمن حتى أصبح الآن مكلفًا بمهام مدير إدارة براتب شهري يبلغ نحو 4500 جنيه.
يبدي أحمد مخاوف من الظروف الاقتصادية الراهنة التي تجعل من "أي مشروع مالوش جدوى. وأخاف أغامر وأحط فلوس التعويض في السوق. معرفش، أشتري سنين المعاش بالتعويض ولا أصرفه على بيتي ولا أدور على شغل؟ الخريجين مش لاقيين فرصة. التصفية دمرت نص شباب الشركة وأسرهم".
شباب الشركة الذين لم يتجاوز حلمهم إتمام سنوات الخدمة والحصول على تقاعد كريم، يرون مستقبلهم يتبدد
يؤكد أحمد أن الشركة "مش بس مرتب، كانت مستقبل، أنا بشتغل في الأمن وشغلي فيه مخاطر وسرقات، بس كنت بربي ولادي لحد ما يكملوا تعليمهم. كنا راضين بالمرتب القليل الدائم، ولكنه لم يدم".
لدى أحمد أربعة أبناء أكبرهم في الثانوية العامة "عاوز أشتغل علشان أصرف عليهم، أنا بكالوريوس مراقبة جودة، واتعينت في قطاع الأمن، هعمل إيه بعد كدا؟ اللي ممكن ينقذنا التوزيع على شركات قطاع الأعمال الأخرى".
يدعم أحمد الاقتراح نفسه بتوزيع العمال على شركات أخرى "يشتغلوا ويكسبوا وتكسب الشركة اللي هيروحوها. إحنا مش السبب في تصفية الشركة، اشتغلنا على المعدات اللي كانت موجودة والشركة كانت بتكسب. ذنبنا إيه في السياسة اللي خلتهم يصفوا الشركة؟".
صفحة انطوت
حتى من غادروا الشركة أصابتهم الصدمة من قرار التصفية، مثل صبحي بدير، الذي أحيل للمعاش قبل أربع سنوات، بعد 35 سنة خدمة، وكان أحد النقابيين البارزين بها.
يعتبر صبحي الذي عمل بالشركة من عام 1991 وتقاعد عام 2018، ومر بتجربة طويلة من العمل النقابي فيها، أن "خروجي من الشركة منذ أربع سنوات ميخلنيش لا أشعر بزملائي ولا أشعر بالشركة، الشركة دي كبرنا بيها وكبرت بينا، وخيرها علينا وعلى ولادنا. كافحنا فيها وهي فيها بطارية واحدة ويوم تصفيتها كان فيها أربع بطاريات".
ويتابع صبحي "كانت بتصدر بحوالي ربع مليون جنيه وصلت صادراتها أكتر من 100 مليون، دي نتيجة عمل العمال وكفاحهم في الشركة".
ويعتبر صبحي أن تصفية الكوك جزء من سياسة تستهدف قطاع الأعمال قائلًا "قرار التصفية قرار ظالم للعمال ومجحف، شهدنا تصفية أربع شركات في فترة وجيزة، المصرية للملاحة والقومية للأسمنت والحديد والصلب والكوك، أكثر من 10 آلاف وظيفة أغلقت في تلك الفترة بتصفية الشركات الأربع".
ويشير صبحي إلى جانب يدركه بحسه النقابي "تصفية شركة الكوك تعني تصفية تجربة نقابية فريدة من نوعها، فالشركة كانت مدرسة حقيقية في العمل النقابي، وأنجبت قادة نقابيين تعلمنا على أيديهم وتركوا أثرًا كبيرًا في الحركة النقابية في مصر، وتصفية الشركة اليوم يمحو صفحة هامة من تاريخ الحركة النقابية في مصر".
بين البحث عن مستقبل وإنقاذ الماضي ترك قرار تصفية شركة الكوك 1150 عاملًا في صدمة، شباب الشركة الذين لم يتجاوز حلمهم إتمام سنوات الخدمة والحصول على تقاعد كريم، يرون مستقبلهم يتبدد، وشيوخ الشركة الذين عاشوا أغلب سنوات عمرهم فيها يرونها تتبخر ولا يبقى سوى آثارها على رئاتهم وقلوبهم التي اعتلّت من العمل فيها.