الشعور بالخضة كلما أخطرت أحدًا من المقربين بوفاة الملكة إليزابيث أثار استغرابي؛ "الملكة إليزابيث ماتت؟ بجد؟!" وسط معالم دهشة طاغية واتساع في حدقة العين. لم تمت الملكة رحمها الله في حادث مؤلم أو بعد مرض عضال، ولم تكن أيضًا صغيرة في السن يا عيني.
توفاها الله كما نعلم جميعًا عن 96 سنة بالتمام والكمال، أصغر بسنوات ثلاث من زوجها الراحل الأمير فيليب، الذي صعدت روحه للسماء العام الماضي في التاسعة والتسعين.
أغلب الظن أنّنا أصحبنا نعتقد أن الملكة إليزابيث جزءٌ دائمٌ لا ينتهي من الحياة، وأنّها باقية معنا إلى الأبد كما الأهرامات وأبو الهول، بعد أن قضت سبعين سنة كاملة ملكة لبلادها، الإمبراطورية العظمى السابقة التي كانت "لا تغيب عنها الشمس".
وما الحياة من دون الملكة إليزابيث؟ فبريطانيا هي إليزابيث وإليزابيث هي بريطانيا.
وفي الواقع، فإن تولي الملكة إليزابيث العرش عام 1952 كان متزامنًا مع غروب الشمس عن الإمبراطورية السابقة التي احتلت واستغلت وقسمت بلادنا العربية ودولًا أخرى كثيرة في آسيا وإفريقيا. وبوفاتها قد لا يتذكر أحد بعد ذلك أن بريطانيا كانت إمبراطورية من الأساس.
فبريطانيا شاخت وهرمت منذ زمن بعيد، مع بزوغ نجم الإمبراطورية الأمريكية والدور البارز الذي لعبته الولايات المتحدة عسكريًا في إنقاذ أوروبا بأكملها من جنون هتلر والرايخ الألماني الثالث، ولاحقًا إعادة بناء اقتصاد القارة العجوز التي دمرتها الحرب عبر مشروع مارشال الشهير.
منذ ذلك الوقت، تحولت بريطانيا إلى دولة متوسطة النفوذ، تؤيد وتدعم كل ما تريده واشنطن تقريبًا، لدرجة أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير فاز بلقب "الكلب المدلل" للرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، عندما كان الوحيد تقريبًا الذي دعم قراره الأحمق بغزو واحتلال العراق.
وعمليًا لم يعد هناك شيء عظيم في بريطانيا سوى اللقب الذي تضيفه لاسمها الرسمي "بريطانيا العظمى"، التي هي جزء من المملكة المتحدة، وتضم اسكتلندا وأيرلندا الشمالية وويلز.
طبعًا كل بلد حر أن يطلق على نفسه ما يريد. فالعقيد القذافي رحمه الله كان يسمي بلاده "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى". وإذا كانت بريطانيا عظمى، فليبيا أيضًا عظمى، واللي مش عاجبه يشرب من البحر.
لكن الحقيقة أن المَلكية في بريطانيا ومنذ الحرب العالمية الثانية تحولت إلى طقوس واحتفالات وكرنفالات تعبر عن الماضي المأسوف عليه، أكثر من أن يكون لها أي دور حقيقي في الحياة السياسية البريطانية.
الملكيات عمومًا لم تعد تحظى بشعبية كبيرة في أوروبا، رغم استمرار الاحتفاظ بالمنصب في عدة دول
كل سائح يزور بريطانيا يذهب لزيارة قصر باكنجهام، باعتباره متحفًا أكثر منه مقرًا لإدارة شؤون الحكم، ويلتقط الصور بجوار حراس القصر الملكي بزيهم العجيب، ويختبر تصميمهم على عدم إبداء أي رد فعل مهما بلغت درجة استفزاز السائحين.
وبالفعل توسع القصر الملكي في فتح الأماكن المسموح للسائحين بدخولها، وذلك مقابل تذاكر تساهم في تغطية النفقات الباهظة للحفاظ على طقوس الملكية، من استعراضات بعربات الأحصنة والتيجان والأزياء التي تعود للعصور الوسطى، والأهم للإنفاق على أفراد العائلة المالكة.
الملكيات عمومًا لم تعد تحظى بشعبية كبيرة في أوروبا، رغم استمرار الاحتفاظ بالمنصب في عدة دول مثل إسبانيا وهولندا والدنمارك والنرويج وبلجيكا. لكنهم جميعًا رموز لماضٍ عتيد وسعي للحفاظ على مجد زال ولسان حالهم: ذات يوم كنا مملكة مزدهرة.
وبينما يعتز الكثير من البريطانيين بالملكية ويرونها تعبيرًا عن هويتهم الوطنية وتاريخهم وتميزهم، فإن قطاعًا واسعًا منهم يرى في قضية الملكية هذه برمتها أضحوكة وهدرًا للمال العام، خاصة مع تواصل مسلسل لا ينتهي من فضائح العائلة المالكة البريطانية.
كان أشهر هذه الفضائح بالطبع قضية الأميرة ديانا "ملكة القلوب" طليقة الملك تشارلز الثالث، بينما آخرها قرار الأمير هاري وزوجته الأمريكية ميجان التخلي عن كل الألقاب الملكية والانتقال للعيش في كندا، ثم لوس أنجلوس بالولايات المتحدة، اعتراضًا على قيود المؤسسة الملكية، التي بلغت حد أن ميجان شكت أن البلاط كان يعاملها بعنصرية بسبب لون بشرتها الداكن قليلًا مقارنة بالبريطانيين البيض العظماء.
وغالبًا فإن الصحف البريطانية الصفراء ذات الشعبية هي الأكثر تمسكًا ببقاء الملكية في بريطانيا، لأنهم يوفرون لهم على نحو دائم مصدرًا ثريًا للقصص المثيرة والفضائح الجنسية وحكاوي الطلاق والزواج.
ورغم سلسلة الفضائح التي لا تنتهي لأفراد العائلة المالكة، بما في ذلك الأمير فيليب نفسه الذي كان يصر على قيادة سيارته الخاصة رغم تجاوزه السابعة والتسعين، وهو ما أدى لتورطه في حادث سير، يحسب للملكة إليزابيث أنها بقيت متماسكة ولم تسمح بانهيار مؤسسة الملكية البريطانية.
وربما كان طول بقائها في الحكم والتعامل معها كجدة لكل البريطانيين بملامحها الطيبة وأخلاقها الدمثة، هو ما ساعد في ذلك.
وسيكون هذا هو التحدي الأكبر غالبًا الذي سيواجهه الملك الجديد تشارلز، غير المعروف عنه من الأساس التمتع بأي كاريزما أو شعبية، هو وزوجته كاميلا باركر التي لا يكن لها غالبية البريطانيين الكثير من الود، باعتبارها خطافة الرجالة التي حرمتهم من الأميرة الجميلة ديانا.
كما أن وحدة المملكة المتحدة نفسها مهددة، وقد لا يشهد تشارلز فقط تراجعًا أكبر في أهمية ودور المؤسسة الملكية البريطانية، لكنه قد يكون الشاهد والموقع على التفكك الرسمي للمملكة مع الرغبة المتزايدة في الاستقلال لدى سكان اسكتلندا، وطبعا أيرلندا الشمالية، ذات التاريخ الطويل في مقاومة الاحتلال الإنجليزي لأراضيها.
وعلى عكس قرار الغالبية من الإنجليز بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فإن غالبية سكان اسكتلندا وأيرلندا لم يرغبوا مغادرة الاتحاد. فاسكتلندا تريد الاستقلال التام أو الموت الزؤام، بينما ترغب أيرلندا الشمالية في الاتحاد مع جمهورية أيرلندا والبقاء في التكتل الأوروبي.
عمومًا، لن يتغير العالم كثيرًا بعد وفاة إليزابيث، لكنها نهاية لحقبة كانت الملكة الراحلة شاهدة فيها على تراجع وتآكل نفوذ امبراطوريتها عامًا تلو الآخر. وربما ستكون هذه هي المرة الأخيرة التي يحتفي بها العالم بوفاة شخصية بريطانية بارزة، لأنه من الناحية العملية لم تعد هناك شخصية بريطانية تحظى بهذا الكم من الشعبية على المستوى العالمي.
وإذا كانت طيبة الملكة إليزابيث رحمها الله وملامحها كجدة، قد منعتنا من ملاحقة البريطانيين على الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعوب التي احتلوا أراضيها واستغلوها، كما كان حال مصر على مدى 74 عامًا تقريبًا، فربما يكون التفاهم ممكنًا بشكل أكبر مع الملك تشارلز الثاني، الذي أبدى اهتمامًا أكبر من الملكة الراحلة بالقضايا الدولية وحقوق الإنسان.
وفاة الملكة إليزابيث قد تكون تذكرة بآخر معالم "العظمة" البريطانية، لكن شعوب العالم لن تنسى أن جزءًا كبيرًا من تلك "العظمة" جاء على حساب دماء شعوبها وأموالهم التي نهبها الاحتلال الإنجليزي، بالتقاسم مع فرنسا التي لم تقل دموية ونهبًا لأموال شعوب العالم العربي والإفريقي.
ولأننا نحن المصريين أبناء نكتة ودمنا خفيف، فلم يفتنا أن نشارك العالم في حزنه وعزائه للبريطانيين في وفاة الملكة الغالية إليزابيث. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة للافتة التالية "الحاج زينو حمود – الخرايب .. يعزي الأخ العزيز الملك تشارلز وعموم أهالي لندن بوفاة فقيدتنا الغالية المرحومة الملكة اليزابيت الثانية"، ربنا يرحمك يا إليزابيث يختي.