خرجت من محطة مترو التحرير في اتجاه المتحف المصري، الذي صار قديمًا، فرأيت التجديدات التي حدثت في الميدان. أعجبتني المسلَّة التي تتوسط "الكعكة الحجرية"، فأردت أن أصورها، لكنَّ الأرض انشقَّت عن شخص يرتدي زيًا مدنيًا، قال لي بحسم "التصوير هنا ممنوع يا أستاذ". وأردت أن أكون مطيعًا فسمعت الكلام، ومشيت قليلًا في اتجاه المتحف.
رأيت مقاعد حجرية لطيفة، حيث أردت أن أجلس قليلًا لأستمتع بمشهد الميدان الجديد. ولكنَّ الأرض انشقَّت عن شخص يرتدي زيًا مدنيًا، بخلاف الشخص الأول، قال لي بحسم "الجلوس هنا ممنوع يا أستاذ". لا مفر، سأمشي وأتفرج، على أمل ألا تكون الفرجة ممنوعة أيضًا.
أدهشني هذا العدد الهائل من أشجار الزيتون الموضوعة في أحواض، والمنتشرة في كلِّ أنحاء الميدان. من الذي اقتلع شجرة الزيتون من تربتها، وألقاها هكذا، محبوسة في صندوق على الأسفلت؟ كيف فكر في الأمر؟ ما هي وجهة نظره؟ ماذا يعرف عن الزيتون وثقافته؟
كنت عائدًا من هولندا بعد غياب طويل فرضته إجراءات السفر في زمن كورونا، مُحمَّلًا بعطش كبير للقاهرة وشوارعها وأهلها وحياتها الصاخبة. صدمتني أشجار الزيتون الأسيرة في صناديق، وأعادتني فورًا إلى هولندا، حيث يحدث الشيء نفسه، ليس في هولندا فقط، ولكن في الكثير من الدول الأوروبية.
مع التغير المناخي الذي شهدته أوروبا في السنوات الأخيرة، انتشرت أشجار كثيرة لم تكن قابلةً للحياة والنمو هناك، لولا الزيادة الواضحة في معدلات درجات الحرارة. في حديقة البيت الذي كنت أعيش فيه كانت هناك شجرة تين "مهاجرة" لم تتمكن مطلقًا من "الاندماج" مع التربة والمناخ الجديدين، لكي تنضج ثمارها.
لم تخطئ شجرة التين، لأن مواعيدها مضبوطة على مواقيت بلادها، وهو ما يجعلها تشبه بطلًا تراجيديًا دخل عن الطريق الخطأ في مسرحية كوميدية. في أغسطس/ آب، كما يحدث في بلاد التين البعيدة، تنمو الثمار، وتستلقي في الشمس على فروعها إلى أن تنضج تمامًا في بدايات سبتمبر/ أيلول، وتصبح قابلةً للأكل، ولكنَّ هذا لا يحدث في هولندا أبدًا.
قبل نهاية أغسطس، الذي هو ذروة الصيف في بلاد التين، يعلن الخريف الهولندي عن حضوره بقوة، فتشتد الرياح التي قد يتحول بعضها إلى عواصف، وتمطر السماء لأيام متواصلة، ليلًا ونهارًا في الكثير من الأحيان.
سيكون على شجرة التين أن تندمج في المناخ الجديد، لكنها تعجز دائمًا عن فعل ذلك، وتتخلى قسرًا عن أوراقها ورقةً ورقةً، لتبقى ثمارها عالقةً في الفروع؛ خضراءَ فجةً إلى أن يطالها الخريف الحقيقي في سبتمبر، ويتبعه الشتاء الثلجي القارس. لا تسقط ثمار التين أبدًا، لأنها لا تنضج أبدًا، وتبقى إلى أن يدركها الربيع في مايو، لتبدأ محاولة جديدة فاشلة.
يمكنك أن تعتبر شجرة التين في ذلك البيت محظوظةً، فهي -على الأقل- مغروسة في الأرض، على عكس شقيقاتها أشجار التين والزيتون المحبوسة في صناديق -مقصوصة الأطراف- أمام المطاعم أو في مداخل البارات. تحولت أشجار الزيتون الحبيسة إلى موضة تُستخدم للزينة، ليس في هولندا فقط، ولكن في الكثير من البلدان الأوروبية، التي طالها التغير المناخي.
أصبح بإمكانك أن ترى شجرتي زيتون في صندوقين خشبيين أمام الكثير من الأماكن التي تدخلها، تلتف حول فروعها خيوط من الإضاءة، لكي تبدو أجمل في ليل يلقي بظلامه على الحياة في الرابعة والنصف عصرًا، عندما يأتي الشتاء.
في بلادها الأصلية، تحظى شجرة الزيتون بنوع من القداسة يجعلها رمزًا للحياة ذاتها، ويمنحها "الزيتونيون" المعاملة التي تستحقها. تحتاج كل شجرة زيتون إلى مساحة تبلغ حوالي 10 أمتار مربعة أحيانًا، لكي تمدَّ غصونها بدون أن تشتبك مع شقيقاتها. وتتحول شجرة الزيتون، في وطنها، إلى محور الحياة، فهي معروفة بكرمها الشديد، وعطائها السخي غير المحدود لسنوات عابرة للأجيال.
وتتخطى مكانة شجرة الزيتون في تونس مثلًا فكرتي العطاء والكرم، لدرجة أن مساحة الأرض تقاس بعدد أشجار الزيتون المزروعة فيها. إذا أردت أن تبيع قطعة أرض لا تحتاج أن تخبر المشتري المحتمل بمساحتها، ولكن بعدد أشجار الزيتون المزروعة فيها وأعمارها.
لو كنتُ شجرة زيتون في هولندا لشعرت بإهانة شديدة، وأصبت بما يمكن أن أسميه "اكتئاب الجذور المختنقة". ولكن، ألم يحدث لي ذلك فعلًا؟ ألا يحدث الأمر نفسه للكثير من المهاجرين واللاجئين؟ ألا نتحول -نحن الوافدين من غير أبناء البلد الأصليين- من أشجار مثمرة إلى أشجار للزينة، يشكل وجودها مكونات لصورة أوروبا المتسامحة، القابلة للآخر، المتنوعة ثقافيًا، والحريصة على تغذية هذا التنوع؟
في زيارتي الأولى لفرنسا في يناير/ كانون الثاني 2013، دخلت إلى سوبر ماركت وتحدثت إلى البائعة باللغة الإنجليزية، فأجابتني بالفرنسية. وكررت ما قلت بالإنجليزية، فعاودت الرد بالفرنسية. لا يستطيع أغلب الفرنسيين التخلي عن ذلك الحس القومي، فيظهر في الكثير من تعاملاتهم مع الغرباء. وليس الغريب في فرنسا هو السائح الذي لا يجيد الفرنسية مثلي، ولكنه كل من ليس فرنسيًا، حتى لو كان مهاجرًا من الجيل الثالث أو الرابع.
لم يندمج المهاجرون من دول شمال إفريقيا في المجتمع الفرنسي إلى الآن، رغم مرور عشرات السنوات على هجرة آبائهم أو أجدادهم. يشعر الكثير من المهاجرين من تلك الدول بأنهم فرنسيون، لأنهم ولدوا وتربوا وتعلموا وعملوا هناك، ومنهم من لا يجيد العربية أصلًا، لكنهم يشعرون بأن الفرنسيين لا يعتبرونهم فرنسيين تمامًا.
ما الذي يمكن للمهاجر أن يفعله سوى الاندماج في "جيتو" بلده الأصلي كردٍّ فعل على ما بدا رفضًا له من جماعته الثقافية الفعلية التي لا يعرف غير ثقافتها، ولا يتحدث إلا لغتها؟ وفي "الجيتو" لا توجد اختيارات كثيرة، فعليك أن تحظى باعتراف جماعتك الثقافية المغلقة، وأن تتبع قوانينها، ما دمت تتبع قوانين جماعتك الثقافية الفعلية بدون أن تحظى باعترافها.
"لن تكون فرنسيًا خالصا أبدًا، لا أنت ولا أحفادك"، يقول لك المجتمع الفرنسي، ومثله يقول المجتمع الألماني المعتز بالطريقة ذاتها بقوميته ولغته، رغم ظهور أجيال ألمانية جديدة تحرص على تعلم الإنجليزية ولغات أخرى، في طريقها للانفتاح على ثقافات مختلفة في العالم.
ولكنَّ الأمر في هولندا مختلف إلى حد بعيد، فالهولنديون من أكثر شعوب غرب أوروبا انفتاحًا على العالم، وعلى اللغات والأفكار والثقافات المختلفة، بحكم مصالحهم التجارية الضخمة المتشعبة. مما يبهج في هولندا أن تضغط على زر التحدث باللغة الإنجليزية لدى الشخص الهولندي، فتنقلب لغته في لحظة إلى الإنجليزية بدون أي غضاضة.
يتحدث 95% من الهولنديين اللغة الإنجليزية بمستويات متفاوتة، لكنها كافية لإقامة حوار مطول، ومنهم نسبة كبيرة تتحدثها كأهلها. عندما يحصل الطالب الهولندي على شهادة الثانوية يكون قادرًا على التحدث بالإنجليزية والفرنسية والألمانية، وقد يضيف إليها الإسبانية أو الإيطالية أو البرتغالية، وربما الصينية، بنهاية دراسته الجامعية.
سألت صديقًا هولنديًا عن السر وراء ذلك، فأجاب "نحن بلد صغير جدًا، وتعدادنا 17 مليون نسمة، ولنا مصالح تجارية كبيرة في كل أنحاء العالم، وليس منطقيًا أن نجبر العالم على تعلم لغتنا لكي نحقق مصالحنا". ولكنَّ الهولنديين، الذين تتحدث أغلبيتهم الإنجليزية، يفرضون عليك أن تتحدث لغتهم كأحد شروط الاندماج المطلوبة للحصول على الجنسية. هذا منطقي جدًا طبعًا، فأنا لا أتخيل نفسي واقفًا أمام ضابط الجوازات، مادًّا يدي بجواز سفر هولندي بدون أن أحدثه بلغته، لأن هذا مخجل ببساطة.
من المنطقي أيضًا أن تعيش في البلد الذي منحك جنسيته متوافقًا مع ثقافته، ومتعايشًا معها، ومتفهمًا لها، مهما تكن ثقافتك الأصلية، لكنهم يستخدمون تعبير "الاندماج" بدلًا من "التعايش"، رغم أن تجاربَ كثيرةً أثبتت صعوبة فكرة الاندماج، حتى لدى الأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين.
لا يبدو ذلك واضحًا ولا مباشرًا في تعاملات الهولنديين، ولا يذكرك أحد بأصولك أبدًا، لأن هذا فعل عنصري مجرم قانونًا، لكن يبقى شيء ما، شيء ما في الهواء ربما، يذكرك بأنك لست هولنديًا تمامًا.
ومع ذلك فإن هولندا حريصة على صورتها المتنوعة ثقافيًا، وعلى دعمها، وعلى تقديم نماذج قيادية من أصول غير هولندية، فعُمدتا اثنتين من أكبر المدن، هما آرنم وروتردام، من أصول مغربية، ورئيسة البرلمان من أصول مغربية أيضًا. ولكنَّ الجالية المغربية -رغم ذلك- تعيش في "جيتو" يفرض شروطه على أبنائه، ويقاوم فكرة الاندماج، وربما يعتبرها تهديدًا لثقافته.
ببساطة، يشعر المغاربة بأنهم مغاربة أكثر من شعورهم بكونهم هولنديين، ربما لأنهم يدركون أن جذورهم لن تنمو أبدًا في الأرض الهولندية، تمامًا كشجرة الزيتون المحبوسة في صندوق، مقصوصة الأطراف، وظيفتها الزينة وليس الإثمار.
عندما رأيت نخلةً مسجونةً في صندوق أمام أحد الفنادق، للزينة، قلت لنفسي "هذا أنا. لن تلمس جذوري هذه الأرض أبدًا. أنا جزء من صورة التنوع البهية المبهرة التي يحب الهولنديون أن يروا أنفسهم عليها". قلت لنفسي "لن تكون هولنديًا أبدًا".