أصبح الوزير الأول في اسكتلندا، حمزة يوسف، أول مسلم من أصل باكستاني يشغل هذا المنصب في تاريخ البلاد، نتيجة حسابات داخل حزبه؛ الحزب الوطني الاسكتلندي. بعد معركة سياسية خاضها تياران داخل الحزب أحدهما يدعم يوسف لاعتبارات لا علاقة لها بديانته، في مواجهة تيار آخر يدعم منافسته، كيت فوربس. وحُسم التصويت داخل البرلمان بفارق بسيط في الأصوات بين المتنافسين.
منصب الوزير الأول في اسكتلندا هو المعادل لمنصب رئيس الوزراء في بريطانيا، الذي يشغله اليوم ريشي سوناك الهندوسي ذو الأصول الهندية، في سابقتين تاريخيتين سيتوقف الباحثون أمامهما طويلًا لتحليل الآليات الاجتماعية التي آلت إليهما. كما شكل حمزة يوسف حكومة هي الأولى من نوعها أيضًا؛ عدد النساء فيها أكبر من عدد الرجال، مع عدد من الوزراء تحت سن الأربعين، كحال يوسف نفسه الذي يبلغ من العمر 37 عامًا.
ولد كل من حمزة يوسف وريشي سوناك لعائلتين تعود أصولهما إلى إقليم البنجاب بشقيه الباكستاني والهندي. عاشا ودرسا في إنجلترا واسكتلندا، واختارا حزبين محافظين في البلدين ليتبنيا مبادئهما، على عكس ما قد يتبادر إلى الذهن بأن أبناء المهاجرين يميلون أكثر إلى التيارات الأكثر انفتاحًا.
حرص سوناك يوم دخوله إلى مقر رئاسة الوزراء في 10 داونينج ستريت على أداء بعض الطقوس الدينية الخاصة به عند مدخل مقر الوزارة. كذلك فعل يوسف الذي نشر صورته وهو يؤم الصلاة مع أفراد عائلته في المقر الرسمي لإقامته، في مشهدين غير مألوفين على المجتمع في إنجلترا.
لكن الناس لم يتوقفوا أمام المشهدين طويلًا، فالاعتراضات على يوسف لم تأت بسبب ديانته، بل تركزت على أدائه في الحقائب الوزارية التي تولاها سابقًا في فترات مختلفة؛ المواصلات والصحة والعدل. فبحسب معارضيه؛ لم ينجح في حل المشاكل التي واجهها في مناصبه السابقة، فكيف له أن يتعامل اليوم مع الوضع في اسكتلندا التي تعيش أزمات سياسية واقتصادية كبيرة؟
كما أبدت بعض الجمعيات الحقوقية تخوفها على الحريات العامة التي يكفلها القانون في اسكتلندا، كالحق في الإجهاض أو زواج المثليين، وإن امتدت المخاوف ذاتها إلى منافسة يوسف، كيت فوربس، المعروفة بمواقفها المحافظة وبمعارضتها للقوانين الضامنة لحقوق المثليين أو العابرين جنسيًا.
يكفي أن تضع القوانين قائمة بالمحظورات التي تدعو إلى العنف والكراهية كي تكون سيفًا مسلطًا على رقاب المتجاوزين
لكن أيًا كانت مواقفهما الشخصية من القضايا الحقوقية، فلن يكون ليوسف أو فوربس مطلق الصلاحية في تغيير القوانين وتعديلها لتتناسب مع معتقداته. وعلى المستوى الاجتماعي، في بلد يجري فيه تداول السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية، لن يخشى الناخب على امتيازاته التي تحصَّل عليها بشكل ديمقراطي من خلال التصويت والاستفتاءات العامة، التي تحول تلك الامتيازات إلى حق قانوني مكتسب. وأي تعديل عليها لا بد أن يخضع لنفس معايير اختيارها، من خلال العودة إلى الناخبين أنفسهم لتقرير مصيرهم.
لا أريد أن أصوّر إنجلترا كمدينة فاضلة يسود فيها التنوع والاختلاف وقبول الآخر إلى أبعد الحدود، فلا شك في وجود أصوات معارضة هنا وهناك تتبنى خطابًا عنصريًا أو متشددًا دينيًا في مواجهة التغيير والاندماج الاجتماعي، مع صعود الشعبوية في أوروبا، وتزايد التيارات المعادية للأقليات على اختلافاتها.
لكن هذه التيارات تظل محصورة ومنحسرة في إطارها، حتى الآن، ولا تجد طريقها إلى الفضاء العام ولا تتبناها وسائل الإعلام ذات الانتشار والتأثير الواسعين، بسبب القوانين والأعراف الإعلامية التي تمنع التمييز على أساس العرق أو اللون أو الديانة أو الانتماء الجندري والجنسي. يكفي أن تضع القوانين قائمة بالمحظورات التي تدعو إلى العنف والكراهية كي تكون سيفًا مسلطًا على رقاب المتجاوزين من السياسيين والمؤسسات في المجتمع.
ورغم الكثير من التجاوزات التي نشهدها في تلك الدول، فإن مساعي الاحتواء نجحت حتى الآن في السيطرة على تلك التيارات ومحاربة خطابها.
هذه السنة احتفلت بريطانيا لأول مرة بقدوم شهر رمضان، شهر الصوم لدى المسلمين الذين يشكلون 6.5% فقط من تعداد السكان فيها. زُينت ساحة بيكاديلي في وسط لندن بالرموز الإسلامية الرمضانية، في خطوة ضمن سياسة متبعة، تحاول إرساء مبدأ الاحتواء المجتمعي، ومساعدة الأقليات على الشعور بالانتماء إلى المجتمع الأكبر. ربما تأخرت قليلًا مقارنة بالمناسبات الأخرى التي تحتفل بها بريطانيا وتخص أقليات أخرى، كالاحتفال بعيد الديوالي الهندوسي ورأس السنة الصينية وغيرهما.
هذه السياسة اتبعتها فرنسا بعد الثورة لدمج الأقليات في المجتمع الفرنسي إرساءً لمبدأ الجمهورية، بينما أبقت بريطانيا على خصوصية الأقليات مع إعطائهم حرية إدارة تجمعاتهم ضمن القوانين المرعية في البلاد. لكنها لم تتبع سياسة الدمج والاحتواء المجتمعي إلا مع تزايد الاعتداءات الإرهابية على أساس ديني.
قد تساهم هذه السياسة في السيطرة على الخطاب المعادي للمسلمين المتصاعد منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. أو على الأقل، قد تساعد على تغيير المفاهيم المغلوطة تجاه المسلمين البريطانيين وإظهار الجوانب الحية للجالية المسلمة.
صاغ الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان، الرائد في مجال دراسة الإعلام وتأثيراته المجتمعية، عبارة القرية العالمية/Global Village مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث تتقلص المساحات الجغرافية وتذوب الفروقات الثقافية لتجعل العالم قرية عالمية.
وهذا مرهون بقدرة المجتمعات على الانفتاح على عملية التثاقف والدمج. العالم العربي والمجتمع الإسلامي جزء من تلك القرية الآخذة بالتشكل ولا يمكن له أن يظل ممانعًا في وجه المد الثقافي العالمي. وبناءً عليه، لا بد أن يشتبك مع قضاياه ويكون مستعدًا للحاق بها، وإلا ظلَّ جزرًا معزولة.
ما يمثله حمزة يوسف وغيره ممن استطاعوا كسر حواجز الممانعة، هو نموذج لما سيبدو العالم عليه في السنوات القادمة.
علينا أن نسأل أنفسنا؛ هل نحن مستعدون؟