جرّرت أقدامي في تلك الظهيرة الحارة، وتساقطت قطرات عرق على عدسات نظارتي، بينما أعبر شارعًا عريضًا في إحدى ضواحي ميونيخ نحو متحف BMW للسيارات. أقوم بدوري كأبٍ مسؤولٍ مصطحبًا ولديَّ المراهقين المهتمين بالسيارات وطرزها المختلفة وتاريخها.
المتحف مُصمم بذكاء يراعي الاهتمامات المختلفة: الهندسية والعلمية، وأهم منها التصميمات الخارجية والإعلانات واختيار موديلات معينة لعرضها بأشكال مختلفة.
هذه أول دراجة نارية صنعتها الشركة، وتلك صنعناها منذ عدة أعوام، إليك سيارات من الثلاثينيات والأربعينيات وأخرى من السبعينيات، ثم سيارات السباق التي طورنا فيها، وذلك الطراز النادر الذي لم تُخرج منه المصانع سوى عدة سيارات لبعض من ملوك الموضة والأغنياء، إليك علاقتنا مع البيئة وكيف كنا نسوّق لسياراتنا.
وبعد أن تداخلت كل تلك الموديلات والإطارات ومواسير العادم والصلب البراق والألوان المعدنية الشاهقة في رأسي صرتُ أبحث عن مقعد أستريح عليه وساعتها لمحت في الطابق تحت الأرضي معرضًا عن المحرقة (الهولوكوست).
اختبأ معرض المحرقة الصغير نسبيًا خلف لافتات معلقة رأسيًا من السقف جذبت أولها انتباهي بلونيها الأبيض والأسود، حيث كان مكتوبًا عليها بخطٍّ كبير "الكرامة الإنسانية مقدسة"، وبخط أصغر كثيرًا تحت ذلك الشعار جاء أن مصدره المادة الأولى من الدستور الألماني. وأضافت اللافتة المعلقة على الجانب الآخر لمدخل الصالة أن BMW تعترف بما اقترفته في تاريخها ولذا فإن المعرض في هذه الصالة يتناول تاريخ السخرة في مصانع الشركة أيام حكم الاشتراكية الوطنية (وهو الاسم الرسمي للحزب النازي) لضمان "ألا يتكرر ذلك مرة أخرى".
هوية للجثث
في الفترة من 1940 إلى 1945 انحشر عشرات الآلاف من عمال السخرة من أوروبا ومن اليهود في معسكرات عمل، أو محال سكن وضيعة متاخمة لمصانع الشركة التي لا تصنع السيارات فحسب، بل محركات الطائرات العسكرية وأسلحة أخرى كانت تهم الجيش النازي وقتها.
كانت هناك تفرقة واضحة بين عمال السخرة لمصلحة المساجين القادمين من غرب أوروبا مقابل عمال شرق أوروبا من بولندا وروسيا، بينما كان اليهود في الدرك الأسفل، وجاءوا للعمل من معسكرات العزل والحرق في بوخنفالد وداخاو، وكان عدد السجناء اليهود يصل إلى الألف في كل دورة عمل، وتعين على معظمهم السير عدة كيلومترات كل يوم ذهابًا وإيابًا من معسكراتهم أو قضاء الليل بجوار الماكينات داخل المصنع.
مات الآلاف من عمال السخرة بسبب ظروف الحياة القاسية والتغذية السيئة والإهمال المتعمد. وما زال أرشيف BMW يضم أكثر من خمسة آلاف بطاقة هوية لهؤلاء العمال.
لا شك أن للمحرقة والفظائع النازية الأخرى دور مهم في تاريخ ألمانيا منذ هزيمة هتلر المدوية في الحرب العالمية الثانية، نتائج ما زال من الصعب، لحسن حظ العالم ولأسباب سياسية واجتماعية وثقافية، تناسيها أو تجاهلها، ولذا فمن المهم دائمًا أن يتذكر الألمان كيف جرى ما جرى حتى وهم في حمى الغزو الروسي لأوكرانيا يبرزون عضلاتهم العسكرية والاقتصادية مرة أخرى ويقررون زيادة الإنفاق العسكري لمعدلات غير مسبوقة للعب دور أكبر في حلف شمال الأطلسي.
يعود نجاح النازية وتأثيرها المدمر إلى الصورة التي تتغلغل بها في كل جوانب المجتمع حتى تصبح أمرًا طبيعيًا يقوم فيه الطبيب بدوره فيوصي بجرعة الغاز الملائمة لخنق اليهود والغجر والمعاقين بالآلاف وبكفاءة، ويستعمل رجل الصناعة أجسادهم للعمل مجانًا قبل أن تتهاوي أو يُفرج عنهم، ويدخل الأطفال فرق الكشافة النازية بينما ينضوي الشباب في قوة الصاعقة الدموية القاتلة بل ويجد فلاسفة ومثقفون عملًا في دعم النازية والتنظير لها.
عمل التاريخ (والمتاحف من أهم محاولات التأريخ تأثيرًا في المشاهدين) هي تذكير العالم والألمان في مقدمتهم، بما جرى، ومشاركة أسلافهم فيه، وبالتالي ليس فقط التكفير عنه بل، والأهم، منع تكراره عن طريق إدراك آلياته والاعتراف بإمكانية حدوثه مرة أخرى.
يحتفي الألمان أيضًا بكل مظاهر المقاومة ولو كانت صغيرة ضد النازية ليشيروا في الوقت نفسه، ولو حتى من دون قصد، أن التعاون مع القيادة النازية لم يكن مجرد خضوعًا للسلطة وتنفيذًا للأوامر، لذا كان هناك من يقاومون ولو حتى سرًا.
كعك النازية
في متحف فريق بايرن ميونيخ لكرة القدم، هناك جزء خاص بكيف تعامل الفريق خلال سنوات النازية. في عام 1940 صدر أمر المشير هيرمان جورينج بصهر كل ما يمكن من المعادن وتوجيهها لمصانع السلاح وشمل ذلك كؤوس وميداليات كل الفرق الرياضية، وسرًا قام كونراد (كوني) هايدكامب كابتن الفريق، بإخفاء كل الكؤوس ولوحات تكريم الفريق المعدنية في مزرعة قريبة حتى هزيمة النازية.
وفي مدينة كونستانز الصغيرة في الغابة السوداء في وسط ألمانيا، نظم متحف روزجارتن هذا الصيف معرضًا عن الاشتراكية الوطنية عرض فيه صورًا لكيفية تفاعل أهل المدينة في تلك السنوات الدموية مع النازية، بداية من صنع نماذج لصناعة الحلوى والمعجنات على شكل الشعارات النازية، ونهاية بملابس وكتب وألعاب فرق الكشافة النازية للأطفال.
مفهوم أن تسعى المصانع والشركات الكبرى التي استفادت من الاستعمار والاستيطان والسخرة لتبييض تاريخها والاعتذار عنه، وربما كان من الأفضل لها أن تفعل ذلك في حاضرها، خاصة فيما يتعلق بحقوق العمال، وهؤلاء الذين يشتغلون في مصانع مزرية بأجور مخزية في العالم الثالث من أجل صناعة مستلزمات الإنتاج أو الملابس للشركات والمصانع العالمية.
وربما يكون مفهومًا أيضًا أن يفعل الساسة وقادة المجتمع الألماني هذا أكثر بسبب الصعود المزعج نسبيًا لليمين القومي، وإظهار أن بروز العضلات الألمانية سياسيًا وعسكريًا في القارة لن ينسيهم الجوانب الدموية من تاريخهم العنصري.
كيف نستفيد من الخزي؟
التاريخ يعيش معنا وفينا كل يوم بأساليب مختلفة وقدرتنا على تغيير الحاضر والمستقبل تقوم في جزء كبير منها على كيفية إدراكنا لتاريخنا، وفهم كيف جرى ما جرى، وفي ذلك تلعب الرموز والنصب التذكارية في الميادين العامة، وقاعات المتاحف والمعارض، والأفلام وكل وسائل تقديم التاريخ الأكثر شعبية والأسهل تلقيًا على الجمهور دورًا أهم من كتب ودراسات التاريخ المدققة.
والمأمول أن تتعامل كل المجتمعات مع التاريخ بالطريقة نفسها لتعرض في متاحف ونصب تذكارية في كل أنحاء بلادهم، وكذا في كتب التلاميذ والطلاب الدراسية بعضًا مما اقترفته دول وحكومات من جرائم مروعة سواء كان ذلك ضد أهالي البلاد الأصليين في أمريكا شمالًا وجنوبًا أو في فلسطين أو في جنوب إفريقيا.
سيكون علامة على المصالحة والاستفادة من الجوانب المظلمة الدموية المخزية في التاريخ أن تضم متاحف الجزائر ليس فقط تاريخ حرب التحرير والمليون شهيد، بل نماذج وأكثر من معرض عما جرى في التسعينيات والمجازر التي تورطت فيها أجهزة الأمن وأدت لمقتل عشرات الآلاف، وأن يكون لدى مصر متاحف ومعارض ليس فقط عما جرى في حرب 1973 بل ما جرى أيضًا في حرب 1967.
هكذا يمكن إيراد أمثلة على كل بلد عربي ليس للتاريخ العام فيه من دور سوى مساعي لتمجيد الماضي وردم أي وقائع لا تساهم في تبرير الحاضر أو تشرخ التصورات السائدة للناس عن أنفسهم وعن أسلافهم، مع أن هذا هو أحد الشروط المهمة للوعي بالذات وبالواقع ومحاولة مواجهة العطب المتفشي في مجتمعاتنا من العراق إلى المغرب.