حينما غابت الجماهير عن المدرجات بسبب فيروس كورونا، لعب فريق سيلتك لكرة القدم أمام غريمه التقليدي جلاسكو رينجرز في ملعب الإيبروكس معقل نادي رينجرز. وبدلًا من من الجماهير، زينت أعلام المملكة المتحدة الملعب طولًا وعرضًا.
يمتلئ دائمًا يوم المباراة بثقل التاريخ السياسي والديني للمملكة، الذي يُلقي ظلاله على الأحداث. فالفوز بمباراة ديربي Old Firm لا يُنظر إليه باعتباره حصدًا لثلاث نقاط، فحيزها في التاريخ البريطاني أكبر من أن تحتويه ملاعب كرة القدم وقوانينها.
تستمد المباراة أهميتها من نسيج المجتمع الاسكتلندي، الذي بدوره جزء من النسيج البريطاني المعقد والمتنافر. فالمملكة المتحدة دولة اتحادية تتكون من أربعة أقاليم: إنجلترا وأيرلندا الشمالية وإسكتلندا وويلز، حكومتها المركزية في العاصمة لندن، بينما يتمتع كل إقليم بحكومة محلية. تاريخ وحدة هذه المملكة كحاضره، لم يكن يومًا هادئًا أو مستقرًا، فسكان تلك الدول يحملون في قلوبهم تاريخًا من الصراع.
وفي إسكتلندا، ذات الخمسة ملايين نسمة، احتفظت مباراة سيلتك ورينجرز حيث يلتحم السياسي بالديني بمكانتها. فحتى القرن السادس عشر الميلادي كانت إسكتلندا دولة كاثوليكية، إلا أن الحركة الإصلاحية بها جعلتها تتبنى البروتستانية ككنيسة قومية للدولة.
لكن ما صنع هوة الانقسام البروتستانتي الكاثوليكي، حسب الكاتب سايمون كوبر في كتابه الكرة ضد العدو، هو تدفق المهاجرين من شمال أيرلندا خلال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين، والذي بدوره سيشكل ملامح ديربي الكرة والدم.
البدايات
المنافسة في إسكتلندا شديدة الملل، فلا معجزات هناك. منذ أن تأسس الدوري عام 1890، شق فريقا مدينة جلاسكو طريق العداوة. فجلاسكو رينجرز حاز 54 بطولة للدوري، وغريمه رصيده 51، في نسختيه سواء كانت قديمة أو حديثة، والمنافسة بينهما صراع مذهبي بقناع رياضي. جلاسكو رينجرز نادي البروتستانت وسيلتك فريق الكاثوليك.
تقع قلعة نادي سيلتك في الطرف الشرقي من المدينة، ويتحصن النادي داخل ملعبه سيلتك بارك، ثالث أكبر ملعب في المملكة بسعة تصل إلى 60 ألف مشجع. أما رينجرز فيوجد في الطرف الغربي للمدينة، ويقهر منافسه في ملعب إيبروكس بسعة تصل إلى 51 ألف مشجع.
تأسس رينجرز بدون جلل واحتفاء في عام 1872 من قبل أربعة شباب اسكتلنديين، وحين بدأت منافسات الدوري في 1890 اكتسحها سيلتك في البداية، بينما كان رينجرز نادٍ كباقي الأندية. لكنه استطاع بنهاية تسعينيات القرن التاسع عشر أن يحصد بطولتي دوري وثلاثة كؤوس، ما جذب الاسكتلنديين الذين كانوا بحاجة لتكوين جبهة قوية تحافظ على هويتهم في وجه المهاجرين الأيرلنديين.
بذور العداوة
كان سيلتك ناديًا من المهاجرين ولهم، لذلك أصبح رمزًا للفخر الرياضي والسياسي، وارتبط بالحركات السياسية الشعبية، مثل الثورة ضد الحكم البريطاني في أيرلندا. ويظهر هذا جليًا في علمه الذي يوضع دومًا إلى جوار العلم الأيرلندي، وشعار النادي المتمثل في نبتة النفل، ولون القميص الأخضر والأبيض، الذي يعبر عن الهوية الأيرلندية. ولكل ذلك ووجه النادي بازدراء شعبي من الاسكتلنديين.
كانت سياسات رينجرز نقيضًا لسياسات غريمه؛ دافع عن الاتحاد تحت حكم العاصمة المركزية في لندن، وفي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى امتنع عن التعاقد مع أي لاعب كاثوليكي مهما بزغ نجمه، وغلا ثمنه. ولا تزال جماهيره تعتز بتلك الهوية البرتقالية، ويغنون أغاني منظمة الأخوية البرتقالية-Orange Order معقلهم في إيبروكس حتّى اليوم، خاصة في مبارياتهم ضد سيلتك.
زواج غير مقدس
ادعى فرناندو ريكسن لاعب فريق رينجرز السابق، أن المناخ الطائفي الذي يحيط بالكرة الاسكتلندية يجبر اللاعبين الكاثوليك في النادي على إنكار إيمانهم. كان على ريكسن أن يغير رقم هاتف منزله أسبوعيًا، حتى يتجنب الإساءات الطائفية التي يتعرض لها هو وعائلته من المشجعين المتعصبين. قال ريكسن غاضبًا "إذا كنت كاثوليكيًا وتلعب في رينجرز فأنت بروتستانتي".
لم تكن قاعدة عدم التعاقد مع كاثوليكي في رينجرز كالزواج الكاثوليكي المقدس لا طلاق فيه. ففي عام 1989 خرق رينجرز قوانينه الخاصة، وتوجه للتعاقد مع لاعب كاثوليكي للمرة الأولى في إطار حملة جديدة دشنها مدير التعاقدات جريمي ساونس من أجل اجتذاب الرعاة، ومواكبة الكرة الحديثة. الكاثوليكي مو جونستون، لاعب سيلتك السابق، كان وجهة الإدارة وكان مكروهًا من الجمهور، ففي إحدى المباريات ضرب لاعب رينجرز في رأسه ورسم علامة الصليب أمام المشجعين.
أعاد العديد من المشجعين تذاكرهم الموسمية إلى النادي، والبعض الآخر حرقها أمام بوابات إيبروكس. وفي حديث بين المشجع وليام أنجلش والكاتب سايمون كوبر تضمنه كتابه الكرة ضد العدو، يقول انجلش "بعض المشجعين لم يحتسبوا الأهداف التي كان يسجلها مو، فلو كانت النتيجة 1- 0 كانوا يحسبونها تعادلاً. ورأيت بأم عيني في المدرجات مشجعين يتشاجرون فيما بينهم لأن فئة أخرى قررت أن تهتف لمو. وكان جونستون نفسه لا يجيد اللعب إلا على صافرات الاستهجان من جمهورنا، رغم أنه حاول التودد إلينا كثيرًا، وشوهد يغني أغنية The Sash البروتستانية، وفي مرة أخرى قام بالبصق على شارة فريق سيلتك".
وحين تعاقد الفريق مع اللاعب مارك هيتلي في عام 1990، انتشرت الشائعات التي تقول بإن هيتلي كاثوليكي، وسبب له هذا الكثير من المتاعب التي يسردها انجلش "عندما يلعب هيتلي كان البعض يهتف هتافنا [هيا يا عشرة الملكة] بدلاً من [أحد عشرة الملكة]. كنا نعتبره غير موجود، لا يمكننا التأكد من كونه كاثوليكيًا حقًا، لكن زوجته كاثوليكية، ونعتقد هذا الأمر، فعلى الأغلب يكون شعر الكاثوليك أسود فاتحًا أو برتقاليًا، وشعر هيتلي كان أسود".
لكن هذا لا يعني أن النادي انفتح تمامًا تجاه سياسة التعاقد مع لاعبين كاثوليكيين، فلا زالت تلك التعاقدات تتم على استحياء. فالجمهور لا يمكنه قبول فكرة وجود كاثوليكي داخل قلعة رينجرز، فاتُّهم النادي في الأوساط الأوروبية بالعنصرية ضد الكاثوليك، إلا أنه لا زال يحاول التخلص من تلك السمعة دون أن يصطدم بجماهيره. وفي عام 1999 أصبح اللاعب لورنزو أموروزو أول كاثوليكي يحمل شارة القائد في الفريق، وعُين الفرنسي بول جوين أول مدير فني كاثوليكي للفريق عام 2006.
مباراة بلغة الضحايا
"قليلة هي مباريات الديربي التي تمر ويكتفي فيها فريق بحصد النقاط أو الكأس، فالمتشددون من جماهير الفريقين يهتمون بحصد أرواح الخصوم، وأضعف الإيمان أن يعتدي أحدهم على الآخر"، بحسب سايمون كوبر.
في الخامس من سبتمبر/ أيلول 1931، مات جون طومسون حارس سيلتك في أرض الملعب بعد أن اصطدمت ركبة سام انجلش برأسه، مما سبب له كسرًا في الجمجمة.
لا صوت يعلو فوق صوت ديربي "Old Firm" فحتى الحرب العالمية الثانية لم تكن كافية لتجنب انتهاء العديد من مباريات الديربي بالفوضى والعنف، وتاريخ اللقاءات بينهما ينطوي على الكوارث.
يذكر كوبر أن مباراة العام 1975 شهدت جريمتي قتلٍ عمدٍ، وهجومين بآلات حادة، وهجومًا واحدًا بفأس، وتسع حالات طعن، و35 حالة اعتداء عام وهجوم عنيف ومفاجئ.
وشهدت مباراة نهائي الكأس 1980 أكثر الأحداث عنفًا في تاريخ الملاعب الاسكتلندية، والغريب أن الملعب لم يكن به سوى عشرة أفراد من شرطة الخيالة!
كل هذا ليس سوى غيضٌ من فيض ينطوي عليه تاريخ الديربي، ويتحمل الناديين غرامات كبيرة ومستمرة عقابًا على شغب جماهيرهم الذي لا ينتهي.
صورتان للملكة
توفيت الملكة إليزابيث الثانية في الثامن من سبتمبر 2022. كانت إليزابيث بالنسبة للكرة في بريطانيا جمعاء بمثابة أيقونة شهدت كل الأحداث المهمة في الرياضة البريطانية وجزءًا منها. ولذلك عبرت الأندية البريطانية عن حزنها من خلال منشورات نعي على صفحاتها الرسمية.
نشرت صفحة رينجرز على فيسبوك يوميًا فعاليات للحداد الكبير على وفاة الملكة، بينما صفحة سيلتك لم تنشر سوى ما تشاركه عادة من أخبار عن فريق الكرة والتدريبات وخلافه، وهذا الموقف متسق مع أيديولوجية الفريقين، رينجرز كفريق وحدوي، وسيلتك كرمز للانفصالية.
كل موقف رسمي للحكومة البريطانية يقابله موقف مماثل لرينجرز وموقف معادٍ لسيلتك وجماهيره. ترعى بريطانيا وحكومتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، فيزين جمهور سيلتك بارك مدرجاته في مباراة دوري أبطال أوروبا الأخيرة ضد ريال مدريد بأمواج من علم فلسطين. وهو ما ينقلنا للحديث عن موقف لنادي سيلتك لا يمكن أن نتجاهله.
لدعم فلسطين جذور تاريخية بين جماهير سيلتك، وبسبب الهجرة من أراضيهم والفصل العنصري الذي عانوه في اسكتلندا، دعموا الشعب المضطهد في جنوب إفريقيا، وإقليم الباسك في إسبانيا. وهو ما يعرضهم لهجمات من الإعلام الأوروبي بوصفهم أعداء للسامية. ولعل الحدث الأشهر كان رفع الرايات والكوفيات الفلسطينية في مباراتهم أمام فريق هابويل بير سبع الإسرائيلي في مباراة ضمن المنافسات الأوروبية، وجرى تغريم النادي من الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن جمهوره استفز جمهور المنافسين.
وفي مقابل كل هذا، يمكنك توقع عدم تواني جماهير رينجرز عن دعم إسرائيل وشعبها ضد من تعتبرهم "إرهابيين"، ولكنها بعكس جمهور سيلتك، لا تتعرض لغرامات.
كاد الديربي أن ينتهي
الشركة القديمة هي الترجمة الحرفية لاسم الديربي Old Firm الذي يعتقد بعض جماهير سيلتك أنه انتهى بالفعل، أو على الأقل بهذا المسمى.
يعود هذا الأمر لأزمة الديون التي كابدها فريق رينجرز بدءًا من نهاية عام 2012، وعلى إثرها فقد رخصته كفريق لكرة القدم في الدوري الاسكتلندي الممتاز، وصوتت الأندية على هبوطه للدرجة الثالثة ليبدأ المنافسة من جديد تحت إدارة الشركة الإنجليزية التي اشترته.
وبينما كان نادي رينجرز يحتضر، بدأ الدوري الإسكتلندي في شكله الجديد عام 2013، فوجد فيه سيلتك ومناصروه أنفسهم وحدهم، وغاب الديربي لغياب المنافس ثلاثة سنوات، واستطاع سيلتك أن يسيطر على البطولة بدءًا من عام 2013 حتى النسخة السابقة.
خلقت جماهير سيلتك لقبًا جديدًا لمعايرة خصومهم، فسموهم الزومبي، حتى لا ينسوا أن ناديهم مات في 2012، ولم يعد مرة أخرى إلا تحت إدارة إنجليزية.