"الانتقالات المتكررة للاعبي كرة القدم المحترفين إلى أندية جديدة تجعل زوجاتهم وأطفالهم يشعرون بالعزلة والوحدة".
دكتور جرايم لو، الأستاذ بجامعة يورك
في كتابه "العاقل.. تاريخ مختصر للنوع البشري"، يتوصل البروفيسور يوفال نوح إلى استنتاج مفاده أن الإنسان، بعد سنواتٍ من الترحال، تطور عقله ليصبح استاتيكيًا، حيث أوجد لنفسه "الثورة الزراعية" ليستقر في مكان يرتبط به ويعود إليه، ويُعطي حياته بعدًا أكثر تنظيمًا بعيدًا عن حياة الصيد والتنقل، وليبدأ مباشرةً في تكديس الثروات والمحاصيل كمحاولة أخيرة تشعره بالأمان حيال المستقبل المجهول.
وبحسب دراسة نشرتها جامعة بافالو الأمريكية، يتضحُ أن أفراد المجتمع الحديث، الذين يرتبط تقديرهم لأنفسهم بالنجاح المالي، يمرون عادةً بفترات طويلة من الوحدة والتعاسة، حيث يعتمد هذا النجاح بالأساس على العمل المتواصل دون استقطاع ولو فترةً وجيزةً من الوقت للتواصل مع زوجاتهم.
منها وإليها نعود
بعد سلسلة طويلة من المقابلات مع العديد من اللاعبين السابقين في الدوري الإنجليزي، أحال عالم النفس، البروفيسور جرايم لو، الانهيار المفاجئ وغير المبرر في أداء بعض اللاعبين، وخاصة بعد كل انتقال جديد، إلى تعاسة الزوجات والأبناء بشكل أساسي.
فمن أين تأتي تلك التعاسة؟ حسنًا، من طبيعة الهيكل الوظيفي للعبة نفسها، حيث الانتقالات المستمرة بين المدن والدول، وتحديات التكيف مع الثقافة الجديدة والطقس المختلف، وانعدام الوقت اللازم لتكوين الصداقات، والمعاناة الدائمة في التكيف مع أبسط المهام اليومية مثل القيادة، دون إهمال عامل اللغة الجديدة، واكتساب عادات جديدة.
ولكن ماذا إن وصل عشق اللعبة داخله لدرجةٍ لا يمكن بعدها أن يُعلن اعتزاله؟ ما الحل؟
هنا يقع لاعب كرة القدم في دائرة مفرغة قد تعصف بمسيرته تمامًا، خاصةً مع اجتماع تلك الضغوط الأسرية والعملية بعضها فوق بعض، لدرجة تتوقف فيها الزوجة تمامًا عن تكوين الصداقات مع الجيران، لأنها لم تعد تدرك المغزى من وراء ذلك، فما الهدف من تكوين الصداقات إذا كان عليك أن تقول وداعًا في لحظة ستأتي عاجلًا أم آجلًا ولا محالة؟
ليدخل اللاعب في حالة من التيه قد تؤثر بالتبعية على مستواه، ليجلس على مقاعد البدلاء بضع مباريات، فتزداد الضغوط، ويقل التركيز، فيقرر النادي التخلص منه سريعًا قبل أن يفقد بريقه المادي، ليبدأ الرحلة مرةً أخرى مع نادٍ جديد.
فتش عن الأسرة
"لقد انتقلت 14 مرة خلال 11 عامًا، لذلك كان الأمر صعبًا بالنسبة لي ولكنه كان أصعب بالنسبة لخطيبتي، في البداية كانت على ما يرام مع الأمر ولكنا وصلنا إلى مرحلة أننا لا نظل في مكان واحد أكثر من أربعة أشهر، لذلك قررت الاعتزال بعد ضغوط منها".
أحد اللاعبين المشاركين في الدراسة
ولكن ماذا إن وصل عشق اللعبة داخله لدرجةٍ لا يمكن بعدها أن يُعلن اعتزاله؟ ما الحل؟ حسنًا، الحل بسيط كالعادة، لا عليه سوى استشارة أسرته قبل كل انتقال، لتصبح حياة الجميع أسهل.
"لا أعلم بالضبط إن كنت سأرحل عن النادي أم لا، الأمر في النهاية في يد الإدارة، ولكني أرجو منهم أن يبلغوني بالقرار قبل شهر يناير، لأن زوجتي تريد أن تعرف أين سنحجز للأطفال مدارسهم".
أوليتش، عند سؤاله حول شائعات رحيله عن بايرن ميونخ.
بعد أن مُني بطفلٍ أولٍ سماه قيس، وأصبح بالتبعية مسؤولًا عن تلبية احتياجاته الحاضرة والمستقبلية، أعلنَ أحدُ رجال بيب جوارديولا المفضلين رحيله عن مانشستر سيتي مجانًا، ليتجه نحو نادٍ مهددٌ بالإفلاس، وتقبع أعمدة ملعبه التاريخي "كامب نو" تحت أكاذيب الرئيس خوان لابورتا، وليست لديه القدرة على جلب لاعبٍ واحدٍ مجانًا دون مناوشة الاتحاد الإسباني.
إن كان هذا التصرفُ مستهجنًا بالنسبة لكَ، فدعنا نزفُ لك بشارة أنك لستَ وحدكَ من يتساءل: لماذا ترك لاعب الوسط الألماني ذو الأصول التركية إلكاي جوندوجان الراحة في بلاد الإنجليز؛ ليطلب الشقاء في برشلونة؟ وهنا تكون الإجابة بسيطة للغاية: لأن زوجته أرادت ذلك.
وهي ليست الحالة الأولى، حيث صرحت بعضُ المصادر أن أحد أسباب رفض ليونيل ميسي الانتقال للسعودية، كما فعل غريمه كريستيانو رونالدو، أن زوجته أنتونيلا كانت تفضل العيش في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تحدث ليو في أكثر من مناسبة، عن تأثير العلاقات الأسرية على حياته كلاعب محترف، وكيف خرجت كرة القدم تدريجيًا من قائمة أولوياته نحو المرتبة الثانية بعد إنجاب طفله الأول.
ليونيل ميسي يتحدث عن أسرته
في صيف عام 2014، كان لويس سواريز مهاجم ليفربول، يجلس في لوبي أحد الفنادق منتظرًا سيارةً ستقله إلى المطار، في رحلة صغيرة لإتمام التعاقد مع ريال مدريد، وفي وسط عاصفة الانتظار تلك، وقبل إقلاع الطائرة بساعات قليلة، أبلغه مسؤولون في ليفربول أن عرضًا مماثلًا وصلهم للتو من برشلونة وعليهم الانتظار.
بالنسبة لسواريز كان يفضّل الذهاب لمدريد، لكنه رضخ في النهاية لرغبة زوجته صوفيا، التي كانت تريد الذهاب لكتالونيا.
في النهاية، لا يتعلق الأمر بالشغف ولا المال وحده، إذ تبقى الروابط العائلية في الخلفية ذات تأثير كبير في مسيرة اللاعبين، بل والمدربين أيضًا، فهناك رحلة يورجن كلوب نحو تدريب المنتخب الألماني، التي فشلت بسبب رغبة زوجته العيش في ليفربول لوقتٍ أطول.