برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا
ميكروباص في أحد شوارع القاهرة

يوميات سائق ميكروباص: ملوك الطريق يختبرون الغلاء

منشور الثلاثاء 23 أغسطس 2022 - آخر تحديث الأربعاء 24 أغسطس 2022

مع كل زيادة جديدة لأسعار الوقود في مصر، يهيئ سائق الميكروباص محمد عبد التواب نفسه لأيام عصيبة لا تخلو من المشاحنات مع الزبائن بسبب زيادة أجرة الركوب، فقد وضعته مهنته في أول خطوط المواجهة مع المواطن بسبب قرارات ليس له يد فيها.

ومع تكرار هذه القرارات، اكتسب عبد التواب خبرة كبيرة في طريقة تفاعله مع اعتراض الركاب على ارتفاع التعريفة، فبات يتجاهل الرد أحيانًا، وفي مرات أخرى يتبادل الشكاوى معهم من الغلاء الذي طال جميع أسعار الخدمات.

أزمة التضخم العالمي التي تطول مصر بالتأكيد، أثَّرت على تلك الشريحة من المجتمع التي ترتبط معيشتها بأسعار الوقود، وما ضاعف من أعبائها ارتفاع أسعار قطع الغيار ما يعني زيادة تكاليف التشغيل.

دراما أسعار الوقود

يلاحظ السائق أن الأيام الأولى من الزيادة هي التي تزداد فيها السجالات مع الركاب، ثم تخفت تمامًا حدتها عندما يتأقلمون مع التعريفة الجديدة. 

"كأني أنا اللى بزود البنزين والسولار، الناس فاكرانا استغلالين وبيتهمونا بالجشع لمجرد سماعهم الأجرة الجديدة" يقول عبد التواب، الذي يعمل على خط فيصل- التحرير، واعتاد على هذه المواجهات الدورية في ظل الارتفاع المتكرر في أسعار الوقود، كان آخرها في شهر يوليو/ تموز المنقضي، التي زاد خلالها لتر السولار، بنحو 7.4%.

على عكس البنزين، كانت الحكومة حريصة على تجنب زيادة أسعار السولار، الوقود الأساسي للميكروباص، لذا كان التحريك الأخير هو أول زيادة في سعر هذا الصنف من الوقود منذ 2019، وجاء بدفع من أزمة تضخم عالمية كان من الصعب تجنبها.

تسببت العديد من العوامل في ارتفاع أسعار الطاقة عالميًا، من أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية، وبدورها أدت هذه التطورات لرفع تعريفة المواصلة الأكثر شعبية في مصر، الميكروباص، بنحو 50 قرشًا، على معظم خطوط ميكروباص القاهرة الكبرى، فأصبحت تعريفة فيصل- التحرير 4.5 جنيه بدلًا من أربعة جنيهات، وهي زيادة يراها سائقو الأجرة "لن تزيد الفقير فقرًا"، ولا مهرب منها لكي يستمر العجل في الدوران.

"الزيادة في السولار مضاعفة بالنسبة لنا، عربياتنا بتستهلك بنزين وسولار، يوميًا بنفوّل بـ80 لـ100 جنيه، دي مصاريف بتتخصم من الإجمالي بتاعنا كسوّاق وكمالك" يتحدث عبد التواب للمنصة عن متغيرات بات مجبرا عليها في الآونة الأخيرة.

بحسب دراسة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2014، يستهلك الميكروباص حمولة 14 راكبًا، الشكل الشائع للمركبة داخل المدينة، نحو لتر من الوقود لكل ستة كيلومترات، ويقدر السائقون الذين تحدثنا معهم أن تكلفة الوقود في الوقت الراهن تصل إلى نحو 80 جنيهًا في الوردية الواحدة، التي تستمر لثماني ساعات.

وإلى جانب تكاليف الوقود، تسبب التضخم العالمي في رفع أسعار قطع غيار الميكروباص، خاصة في ظل ما تعانيه مصر من ضعف تدفقات النقد الأجنبي، التي جعلت حركة الاستيراد أكثر صعوبة.

وتواجه البلاد أزمة نقص في قطع غيار السيارات، خصوصًا أن مصر تستورد 98% من احتياجاتها، كما زاد السعر الإجمالي للميكروباص في مبادرة إحلال المركبات التي تنظمها الحكومة لإتاحة سيارات جديدة بتمويل ميسَّر.

يشعر علي طه، سائق على خط ميدان لبنان- أكتوبر، بوطأة التضخم العالمي وهي تتجسد في صورة زيادات مستمرة في قطع الغيار "الكاوتش الواحد وصل إلى 3500 جنيه، سعره كان ما يزدش عن 2000 جنيه من سنتين"، كما قال للمنصة.

وعودة إلى عبد التواب، سائق خط فيصل- التحرير، فإن الحصيلة التي تنتهي إلى جيبه بعد خصم كل المصاريف الضرورية، هي 3500 جنيه شهريًا مقابل العمل لست ورديات، وهو دخل متواضع قياسًا إلى مستويات المعيشة في الوقت الراهن، لذا يرى السائق أنه هو والراكب الذي يشكو من ارتفاع التسعيرة ضحية للغلاء.

طريقة تقاسم الربح

قبل أن يستقر الإيراد في جيب سائق الميكروباص، يقتطع منه شركاء آخرون نصيبًا غير هين، أبرزهم صاحب السيارة التي يعمل عليها السائق.

 وتختلف طريقة تقاسم الإيراد من خط لآخر، على سبيل المثال يمنح سائقو الهرم أصحاب سيارات الميكروباص نصيبًا ثابتًا يقدرونه بـ300 جنيه يوميًا، بينما يحصل السائقون الناشطون في ميكروباص أكتوبر على ثلت إيراد اليوم، شاملة مصروفات التشغيل من استهلاك البنزين والصيانة. 

لا يقتنع علي طه بطريقة الثلث التي تجعل صافي دخله الشهري يبدو مبلغًا متواضعًا للغاية أمام مطالب المعيشة، خاصة مصاريف دراسة أبنائه، لكنه لا يجد بدًّا من قبوله في ظل عدم قدرته على اقتناء سيارة ماركة تويوتا، الوكيل الأكثر انتشارًا بين شريحة سائقي الميكروباص، ولا يبدو أمامه مصدر رزق آخر غير "السواقة". 

وبجانب نصيب صاحب السيارة، تحدث معنا طه عن شريك آخر في ربح السائق وهو مسؤول السرفيس، وهو شخص تعينه المحافظة لإدارة موقف سيارات الأجرة، ويُحصِّل 24 جنيهًا يوميًا من كل سيارة، بواقع ستة جنيهات عن كل رحلة.

حتى وقت قريب، لم يكن طه مضطرًا لدفع تلك الجنيهات، حيث كانت السيارات تلتقط الركاب بشكل تلقائي في ميدان لبنان، إلى أن فرضت عليهم المحافظة الاصطفاف بالموقف الجديد لتنظيم خطوط السير والقضاء على فوضى الانتظار بالساحات العامة، ما كبَّد السائقين خسارة أخرى "التحميل من الموقف يجبرك على عدد أدوار معين بعكس التحميل من الطريق العادي، كان فيه زيادة دورين على الأقل".

فن مراوغة كمائن المرور

على مقربة من عربته، جلس أحمد المصري أعلى أحد الأرصفة الخرسانية بطريق الفيوم، يحمل في يمناه كوب شاي وفي يسراه سيجارة كليوباترا، يلتقط أنفاسه بعد رحلة اقتربت من الساعة قطع خلالها شارع الهرم منطلقًا من ميدان الجيزة.

استراحة الشاي والسيجارة تمثل طقسًا ثابتًا عند غالبية سائقي الميكروباص بالخطوط الطويلة التي تقطع كليومترات، ينتظروها بانتهاء كل دورة أو دورتين على الأكثر، ليس فقط لإراحة أجسادهم من وضعية القيادة وإيقاف محركات مركباتهم، إنما لتجاذب أطراف الحديث عن هموم "الكار"، تتصدرها شكاوى غلاء المعيشة والاختناقات المرورية في خطوط السير، ولا يخلو حديثهم من استعراض لمهاراتهم في مراوغة رجال الأمن، لتفادي سحب رخص القيادة. 

منذ إغلاق شارع الهرم في عام 2020، أُجبر المصري وزملاؤه على سلك طرق موازية كشارع ترسا، والمرور عبر شوارع ضيقة

يبدأ يوم أحمد المصري من الثالثة عصرًا وينتهي مع حلول الثالثة صباحًا، وهي الوردية المثلى بالنسبة له، حيث تختفي الأكمنة المرورية تدريجيًا كلما توغل المساء، ما يسمح له بالخروج عن خط السير المرخص له والدخول لخطوط أخرى بحثًا عن فرص أكبر للإيراد.

على الرغم من كل هذه الأكروبات، لا يزيد حجم إيراد السائق الذي يربي طفلين أكبرهما عمره 7 سنوات، عن 80 جنيهًا يوميًا تزيد إلى 120 جنيهًا في بعض الأحيان، مخصوم منها مصروفات تأجير السيارة، ونفقات التشغيل اليومية. 

التطوير خسرنا كتير

بعكس سائقي الطرق السريعة الذين ساهمت الإصلاحات ورفع البنية التحتية في تقليل معاناتهم مع التكدس المروري، لم ينعم المصري بعد بالسيولة المرورية في خط الهرم، أحد الشرايين الأساسية لمحافظة الجيزة، في ظل غلقه بصورة جزئية، لتنفيذ الخط الرابع لمترو الأنفاق الذي يمتد من محطة الجيزة إلى حي الأشجار بحدائق أكتوبر.

 منذ إغلاق شارع الهرم في عام 2020، أُجبر المصري وزملاؤه على سلك طرق موازية كشارع ترسا، والمرور عبر شوارع ضيقة، زادت من الوقت الطبيعي للرحلة، وهو ما أثر على ربحهم من الرحلات.

"بدل ما ممكن تعمل 8 رحلات في الوردية دلوقتي بقيت تعمل 5 رحلات، ضيعنا وقت وخسرنا فلوس وصحتنا النفسية بتتعب بسبب الزحمة والخناقات مع الركاب" هكذا يعبّر المصري عن شكواه وهو ينفث دخان السيجارة.

كذلك تخشى شريحة غير قليلة العدد من سائقي الميكروباص أن يجدوا أنفسهم في مواجهة وشيكة  مع "تحدٍّ" من تحديات التطوير، في ظل ما يتبادر إليهم من نوايا لمنع الميكروباصات من العمل على الطريق الدائري واستخدام "الأوتوبيس الترددي" كبديل عن هذه المركبات.

فخلال الأشهر القليلة الماضية خرج الوزير بتصريحات متكررة يؤكد فيها المنع التام لسير الميكروباص على الطريق الدائري، حمل بعضها لهجة تحذيرية بإحالة صاحب الميكروباص الذي يسير على الدائري بعد تشغيل الأوتوبيس الترددي للمحاكمة، محملًا إياهم مسؤولية العشوائية التي تسود هذا الطريق، بسبب احتلالهم جانبيّه وهروبهم من تسديد قيمة الكارتة.

لتهيئة المجال للأوتوبيس الترددي، وهو أوتوبيس يعمل بالطاقة النظيفة، أزالت هيئة الطرق والكباري نحو ألفي منزل، من أجل توسعة الطريق إلى سبع حارات.

وبينما أكد الوزير إنشاء مواقف للميكروباص أسفل الطريق الدائري تقل الركاب لمواقع محطات الأوتوبيسات الكهربائية الجديدة، حتى "لا ينقطع عيشهم" بحسب تعبيره، لم يُبلَّغ السائقون حتى الآن بمكان تلك المواقف، فما يعرفونه أن الحياة ستدير ظهرها لهم في قادم الأيام، بحسب تعبير محمود معوض أحد السائقين بموقف كوبري الخشب في الجيزة.  

يمثل الطريق الدائري ملعبًا حيويًا للكثير من سائقي الأجرة، حيث يقصده كثيرون من سكان القاهرة الكبرى يوميًا من أجل الوصول إلى مقار عملهم عبر طريق سريع، بعيدًا عن زحام الطرق الداخلية.

 ولا توجد أرقام ثابتة لعدد سيارات الأجرة التي تستخدم الدائري، لكن وزير النقل قال إن 1500 ميكروباص ستتأثر بمشروع الأوتوبيس الترددي.

"البديل المتاح قدامنا دلوقتي زي ما بتقولوا ننزل في مواقف تحت الدائري في الشبكة الداخلية، كل الناس دي هتاكل في بعضها تحت في الزحمة مع المواصلات التانية، والرزق هيقل لأن التعريفة هتكون قليلة بسبب المسافة" هكذا يحاول معوض تخيل مستقبل الدائري بدون ميكروباص.

أمام أزمات معتادة يواجهها السائقون لا يبدو لنقابة العاملين بالنقل والمواصلات دور ملموس في حل مشاكلهم

على الجانب الآخر من الملعب، يؤمن نقيب العاملين بالنقل المواصلات محمد أبو العباس، بأهمية دخول الأوتوبيس الترددي للخدمة لأنه يمثل نقل حضارية في منظومة النقل المصرية، وسيدر ربحًا كبيرًا بعد تشغيله، بينما يراوغ في حديثه للمنصة عن البدائل قائلا "نريد مواكبة الحدث، السواقين لازم يدربوا على قيادة المركبات الحديثة حتى يلحقوا بالقطار". 

غضب السائقين

على وقع تلك الضغوط المعيشية، شهدت الأسابيع الماضية تحركًا خجولًا من قطاع سائقي الأجرة على فيسبوك لتنظيم إضراب كبير حددوا له 8 أغسطس/ آب الفائت، احتجاجًا على زيادة أسعار قطع الغيار، وأسعار السيارات، لكنهم ترجعوا عن تنظميه بسبب تلقيهم تحذيرات أمنية، حسبما أفاد أحد السائقين بالقاهرة. 

ما علمناه أن مثل هذه الحملات الإلكترونية لا يتفاعل معها السائقون بالجدية والحماسة الكافية لكي تتحول إلى احتجاج مؤثر، فهي وليدة غضب لحظي من ارتفاع الأسعار تنتهي بمجرد التلويح بالصدام مع رجال الأمن. 

أمام أزمات معتادة يواجهها السائقون في سبيل جمع قوت يومهم، لا يبدو لنقابة العاملين بالنقل والمواصلات، وهي نقابة مستقلة، يتبعها سائقو الأجرة على عمومهم، دور ملموس في تنظيم شؤونهم وحل مشاكلهم، إذ يكاد يقتصر دورها على منحهم تراخيص مزاولة المهنة فحسب. 

يقول سائقون تحدثوا إلى المنصة إن غالبيتهم لا تربطهم ثمة علاقة بتلك النقابة، ولولا اضطرارهم لتجديد رخصة مزاولة المهنة بشكل دوري لما كانوا عرفوا بمقرها الكائن بوسط القاهرة، ما يعكس حجم الفجوة بين شريحة السائقين ومظلتهم القانونية والاجتماعية. 

هذا ما يقر به نقيب العاملين بالنقل والمواصلات محمد أبو العباس، مؤكدًا أن النقابة كانت بعيدة عن ممارسة أدوارها في رعاية شؤون سائقي الأجرة، لكن مؤخرًا فتحت قيادات النقابة قنوات اتصال مع بعضهم لتوفير الحماية القانونية والمساهمة في تسوية أزماتهم مع قطاع المرور، فيما يخص التراخيص والمخالفات. 

يشير أبو العباس إلى أن النقابة مؤخرًا أبرمت عقودًا مع هيئات صحية وشركات تأمين لتغطية السائقين ماديًا، وهو ما لم يكن متوفرًا من قبل بسبب عدم استقرار أوضاع النقابة، كونها نقابة مستقلة عانت في البداية من الحصول على تراخيصها من وزارة القوى العاملة.

وبحسب أبو العباس، يبلغ عدد أعضاء النقابة نحو مليوني سائق مهني، موزعين بين النقل البري والمواصلات والنقل السياحي؛ هذا العدد الضخم يحتاج إلى المزيد من النشاط التنظيمي حتى يستطيع التفاوض بشكل أكثر فعالية مع الدولة بشأن تأثير قرارات "التطوير"، ويستطيع أيضًا أن يوفر لنفسه المزيد من الخدمات الاجتماعية التي تخفف عنه آثار الأزمات العالمية