تصوير: ندى جمال- المنصة.
الدكتور هشام سلام، والباحثة شروق وهي تنقب عن إحدى الحفريات في متحف سلام لاب.

هنا سلّام لاب: حفريات وأبحاث وقانون للقهوة

منشور الخميس 27 أكتوبر 2022 - آخر تحديث الخميس 27 أكتوبر 2022

لم يكن غريبًا أن تستقبلنا صورة لديناصور أعلى باب يُفتح آليًا على غرفة تعج بالحفريات المرصوصة على طاولات متوازية، وفي دواليب عرض، عند دخولنا مركز سلّام لاب، الذي أسسه أستاذ الجيولوجيا هشام سلام، كأول مركز علمي من نوعه في مصر.

لا يبدو المركز الذي يقع في الطابق الثاني من مبني كلية العلوم في جامعة المنصورة، كغيره من معامل  العلوم التقليدية في الجامعات، فثمة اختلافات كثيرة سواء فيما يضمه من حفريات منها الاكتشاف الأخير الخاص بـ  الديناصور قاتل هابيل، أو ما يسوده من علاقات غير تقليدية بين سلّام وتلاميذه، التي تكشف عنها من الوهلة الأولى الجدران الممتلئة بصور توثق رحلات الفريق وأوقاتهم السعيدة. 

من هنا، ثار فضولنا حول ما يدور داخل ذلك المركز، كيف يعمل الفريق؟ وهل الصخب الذي تثيره اكتشافاتهم عادة، ينتج عن صخب مماثل في الداخل أم عن هدوء؟ فقصدنا المركز خلال يومين منفصلين نهاية يونيو/ حزيران الماضي.

الأستاذ حضر

أثناء زيارة المنصة للمركز كان الجميع ينتظر "الأستاذ"، بعد سماع صوت سيارته المألوف لديهم، وفي صوت واحد، صاحت تلميذته شروق الأشقر والمراهقون الذين اعتادوا زيارة المركز  "الدكتور هشام جه". 

وباستثناء تلك الصيحة، يسود المركز قدر كبير من الهدوء. هناك ثلاث غرف؛ اﻷولى، المخصصة للفريق، تضم مكتبًا لكل باحث حتى يستطيع التركيز في مهامه. والثانية للأستاذ؛ لمطالعة الأبحاث ومتابعة الأعمال، أما الأخيرة فللاجتماعات.

هشام سلام خلال استقباله عدد من الباحثين.

من بين الغرف الثلاث تستحوذ الأخيرة على حميمية لافتة يعكسها "حائط البطولات"، بحسب تعبير سلام، وهو حائط يضم نسخًا من أبحاث طلابه القيّمة، أما الجدران الأخرى فتزينها بوسترات لديناصورات؛ وهم جزءًا من عائلة سلّام لاب. 

العائلة مفردة يمكن استيعاب معناها سلبًا وإيجابًا في العلاقة بين سلّام وتلاميذه. تظهر بعض ملامحها في صور أنشطتهم التي تملأ السوشيال ميديا، وكذلك في ارتباط التلاميذ بأستاذهم في كل خطوة يتخذونها حتى وإن كانت كشفهم عن أرقام هواتفهم، إذ رفض أحد الباحثين أن يمنحنا رقمه قبل أن "هسأل الدكتور هشام الأول".

جلس سلّام بين تلميذته شروق والمراهقتان يتلقون جميعًا درسًا في التصوير ثلاثي الأبعاد، ليتمكنوا من توثيق اكتشافاتهم على نحو أفضل، والشغف يظهر على الجميع بنفس الدرجة، لا فرق بين أستاذ وتلميذ، صغير وكبير.

بعدها أخذنا هشام سلّام في جولة بين الحفريات، وقّص علينا المشوار الذي قطعه مع فريقه، وما أسسوا له من شراكات وصداقات علمية مع عديد من الجهات. 

يظهر في العلاقة المتبادلة بين هشام وفريقه زهو متبادل؛ إذا تحدث هو عنهم أو تكلموا عنه. أهم ما يميزه بالنسبة للباحثة شروق، أنه يستطيع أن "يخرج أفضل ما في كل باحث فينا"، ثم تتطرق إلى استعادة اللحظات الخاصة لاكتشافاتهم، فتتسع حدقة عيناها في سعادة، وكأن تلك اللحظات العديدة التي شاركتها عناصر الفريق تترائى لها من جديد. 

ملمح أبوي آخر يظهر في علاقة هشام بطلّابه الغائبين عن المركز، حين يحرص على التواصل معهم لمعرفة مستجدات ما يباشرونه من أعمال. وبما أن الحظ لم يحالفنا في وجود الكثير من الباحثين خلال زيارتينا، فقد تواصلنا مع بعضهم عبر واتساب، ومنهم بلال سالم، مكتشف ديناصور قاتل هابيل.

يقول بلال، وهو معيد في كلية العلوم جامعة بنها وطالب ماجستير في جامعة أوهايو، "الدكتور هشام قادر على الإصلاح والتوجيه والإرشاد". ولكن إلى جانب توفير المركز بيئة مريحة للعمل ومحفزة على الإبداع فـ "على المستوى الإنساني، الدكتور بمثابة الأب والأخ والصديق، بيقدم لنا نصائح إنسانية طول الوقت، وتوجيهات لتطوير الشخصية، وبيتدخل في بعض المواقف. بيكون سند للطالب في الأفراح والأحزان". ولهذا يراه بلال "الأب الأكاديمي".

فريق غير عادي 

لا تفتقر أسرة سلّام لاب للطلاب الأصغر سنًا، إذ لفت نظرنا حضور كثيف للمراهقين داخل المركز يشاركون في العمل، حتى أنهم في زيارتنا الثانية فاق عددهم عدد الباحثين البالغين. 

سلام مع الطفلتين سلمى ونرفانا.

لا يخشى هشام على الأجهزة والأدوات من عبثهم، فالمركز يُوفر الأدوات المطلوبة لفحص العينات وترميمها، بالإضافة إلى عدد من المجاهر الضوئية التي تُستخدم لفحص العينات الدقيقة وفصلها عن بعضها بعد عزلها من التربة التي يحضرونها من رحلاتهم.

واللافت أن هؤلاء اليافعين عادةً ما يقومون بتلك المهمة، بعدما يستقبلهم هشام ويدربهم على استخراج تلك العينات بدقة وسلاسة من التربة، ومن ثمّ فحصها تحت المجهر وفصلها عن بعضها في مجموعات. 

يمتلك هؤلاء الشباب معلومات علمية مذهلة، يشرحونها لزوار المركز ببساطة شديدة. وبينما يؤكد هشام أن "باب المركز مفتوح للجميع"، لم نعرف طريقة اختيارهم. 

تطرق الحديث مع هشام عن خوض النساء لميدان الجيولوجيا. يتحمس هشام للباحثات، مؤكدًا تفوقهن، وأنهن فقط بحاجة إلى الدعم وتنمية القدرات.

يقول إنّ "أفضل الرحلات الاستكشافية، هي التي تديرها الباحثات". موضحا أنّ العمل الأكاديمي يُجبر المرأة على تحمل الكثير من الصعوبات، لذلك فهو يُقدرهن كثيرًا.

دلق القهوة ليس خيرًا

ضمن الأجواء غير التقليدية، قوانين داخلية غير تقليدية أيضًا، منها الخاص بالقهوة، وهي المشروب المفضل لهشام وتلاميذه.

في أحد أركان المركز، أسفل نافذة كبيرة، توجد طاولة تضم أدوات صنع القهوة، وهناك سن هشام قانون "دلق القهوة" الذي ظهر بسبب كثرة الحوادث، فقرر هشام تغريم من يدلق القهوة 10 جنيهات كل مرة.

تقول شروق الأشقر ضاحكة "بندفع فلوس كتير ". وعلى أحد الحواط سبورة، يدون عليها هشام العقوبات وأسعارها، من ضمنها القهوة.

وعلى ذكر القهوة، يأتي طقس الطعام، الذي يتشارك فيه هشام وطلابه عادة، في ممارسة عائلية أخرى، لكن الفارق أنها تحدث وقوفًا، كي لا يستغرق الأمر طويلًا. وإن كان ذلك الطقس لا يخلو من تبادل لأطراف الحديث في الأمور الشخصية. ويرى هشام أنّ تلك المشاركات هي ما يجعل الفريق أقرب إلى بعضه، ما يعود بالإيجاب على العمل البحثي. 

أسرة ممتدة

من ناحية أخرى، لا تقتصر أسرة سلّام لاب على الباحثين الرئيسيين في الفريق، وهم خمسة بالإضافة إليه. بل يأتي كثير من الطلاب إلى هشام أثناء ساعات العمل في المركز، حتى ولو لم يكن مجال تخصصهم الحفريات الفقارية، فيستقبلهم بلطف. ويُعطيهم بعضًا من وقته، ثم يعود لمتابعة طلابه وأعماله من جديد. 

ينتهي يوم العمل في مركز المنصورة للحفريات الفقارية في تمام الخامسة مساءً، يوم مرهق في الأغلب بين الأبحاث والحفريات والتوقعات، تلطفه بعض الشيء أجواء الود والتشجيع.

 دقت الخامسة، ودّع الفريق بعضه، وسلك كل منهم طريقه، واستقل الدكتور هشام سيارته التويوتة الرمادي ربع نقل، والتي اختارها لتناسبه في الرحلات البحثية كما أخبرنا، متجهًا إلى منزله في حي أبناء ميت غمر الذي ما إن ذكره حتى ضحك مما يواجهه من رفض مجتمعي على اعتباره "بتاع التطور"، لكنه لا يبالي سوى بموعده في اليوم التالي مع حفرياته وتلاميذه.