نصيب المسيحيين من مصرهم هذا الأسبوع كان مؤسفًا؛ الحفاظ على كوتة أو حصة منصب وزاري واحد لا قيمة له ظل منذ إنشائه قبل أربعين عامًا مرتبطًا بلا معنى بديانة شاغرة، كأن أغلبية المهاجرين المصريين منذ السبعينيات وحتى الآن هم نفس الأغلبية المسيحية بالمهجر التي كانت في الستينيات والخمسينيات!
أما التعزية المؤسفة، فتلك الرسمية التي واست إخوة الوطن من الأقباط لمصرع أكثر من 40 وإصابة 14 في حريق كنيسة المنيرة في إمبابة. فقد عزّاهم المسؤولون متمنين شفاء المصابين وصبر أهالي المتوفين، دون طلب الرحمة لمن ماتوا!
ربما كانت لغة تعزية الرئيس السيسي أفضل حالًا من صياغة بيان تعزية القوات المسلحة، والذي لا يختلف عن لغة تعزية المفتي وغيره. لكن المشترك هو أنك لن تجد في أي من تلك التعزيات الدعاء بالرحمة لمن ماتوا في حريق الكنيسة!
يقول الرئيس في تعزيته بصفحته على فيسبوك "أتقدم بخالص التعازي لأسر الضحايا الأبرياء الذين انتقلوا لجوار ربهم في بيت من بيوته التي يُعبد بها." بينما قال الرئيس في تعزيته الإماراتيين لوفاة الشيخ خليفة
"فباسمي واسم شعب مصر أتقدم بالتعازي لدولة الإمارات العربية المتحدة قيادة ودولة وشعبًا في هذا المصاب الجلل، وأدعو الله عز و جل أن يتغمد الفقيد الغالي بواسع رحمته".
وحتى وهو ينعى الحاجة زينب مصطفى، التي تبرعت بقطرها الذهبي لصندوق تحيا مصر، قال ضمن نعيه لها بعد عمر ناهز 97 سنة "رحم الله الحاجة زينب وغفر لها، فقد كانت خير نموذج للمرأة المصرية".
المتحدث العسكري للقوات المسلحة، أصدر بيان تعزية في نعي 41 مصريًا وإصابة 14 بكنيسة المنيرة. لكنه لم يطلب الرحمة للمتوفين، خلافًا لصيغة بيانات نعيه السابقة، إذ قال "تنعى القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية ضحايا الحادث الأليم الذى لحق بكنيسة المنيرة بمحافظة الجيزة صباح اليوم، كما تتقدم لأسر الضحايا ولكل أقباط مصر بخالص العزاء داعين الله عز وجل أن يلهم ذويهم الصبر والسلوان، كما تعرب القيادة العامة للقوات المسلحة عن تمنياتها بالشفاء العاجل للمصابين." انتهى النص!!
بالمقارنة، من نفس صفحة الفيسبوك باختلاف المتحدثين، نجد كلمة الدعاء بالرحمة.. ففي نعي حادث قطار دهشور "تتقدم القوات المسلحة قادة وضباط وضباط صف وجنود، بخالص العزاء والمواساة لأسر الضحايا والمصابين في حادث قطار دهشور في الساعات الأولى من صباح اليوم، داعين الله عز وجل أن يتغمد الضحايا بواسع الرحمة والمغفرة وأن يلهم أسرهم والشعب المصري الصبر والسلوان، وللمصابين الشفاء العاجل".
وفي حادث مقتل ضباط صف وجنود مصريين في مالي ضمن قوة حفظ السلام "وإذ تتقدم القوات المسلحة بخالص التعازى والمواساة، داعين الله عز وجل أن يتغمد الشهداء بواسع الرحمة والمغفرة، وأن يلهم أسرهم الصبر والسلوان، مع خالص تمنياتنا للمصاب بالشفاء العاجل".
وحتى في التعزية في وفاة شخص دون معركة أو حريق أو اصطدام قطار، كانت تعزية القوات المسلحة للشيخ حسن خلف من "مجاهدي" سيناء حين توفي مؤخرًا وفاةً طبيعيةً عن 72 عامًا "وتتقدم القوات المسلحة لأسرته ولأهالي سيناء بخالص العزاء داعين المولى سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته ويلهم ذويه الصبر والسلوان".
أعود للمؤسف الأسبوعي الأول، إذ لم تتحقق أمنية رجل الاعمال نجيب ساويرس بألا يعينوا، في التعديل الوزاري الذي كان منتظرًا، مسيحيًا آخر في منصب وزيرة الهجرة!
لكن حدث المتوقع، وظلت الكوتة اليتيمة في يد المسيحيين!
حلت السفيرة (المسيحية) سها سمير ناشد جندي وزيرة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج محل السفيرة (المسيحية) نبيلة مكرم عبد الشهيد، التي ظلت في هذا المنصب لسبع سنوات هي الأطول لوزير هجرة! وربما لولا انشغال الوزيرة المنصرفة بمأساتها العائلية لمحاكمة ابنها المهاجر متهمًا بالقتل في أمريكا، لظلت مع الراضي عنهم الرئيس أو بطانته لسنوات أخرى.
منصب وزير الهجرة، أو بالأحرى وزيرة، أعاده الرئيس السيسي منذ عام 2015، ربما لتعويض المسيحيين عن غياب منصب وزاري عنده، حتى وإن كان يوازي لقب "وزير بدون حقيبة"، إذ لا يوجد وزير بحق ولا حقيبة حقيقية باعتبار أن المهاجرين المصريين والعمال في الخارج يزيد عددهم عن عشرة ملايين، بينما هو مختص إما بالتربيط مع المهاجرين المسيحيين من المؤيدين فقط، وقد لا يصل عددهم مليونًا، أو بمنع المصريين الساعين للهجرة، بأي ثمن وأي قارب، خدمة للمصالح الأوروبية!
كان للوزيرة نبيلة نصيبها من الانتقادات لدى الحقوقيين، حين صرحت لحشد من مؤيدي الرئيس في كندا بأن "أي حد يقول كلمة عن بلدنا، بيحصلّه إيه؟ يتقطّع" وهي تشير بعلامة الذبح لرقبتها!
للمقارنة، الرئيس مبارك، مع بداية حكمه، استحدث هذا المنصب في عام 1982 بينما كان عنده بالفعل وزير مسيحي في أهم منصب وزاري لمسيحي مصري منذ حكم الضباط الأحرار، وهو الدكتور بطرس بطرس غالي، وزير الدولة للشؤون الخارجية منذ 1977 ولأربع عشرة سنة.
شغلَ غالي منصب وزير دولة وليس وزيرًا للخارجية، رغم أن المنصب كان شاغرًا منذ استقال صاحبه اسماعيل فهمي، حين رفض الذهاب مع السادات الى القدس في نوفمبر 1977، وتبعه بالاستقالة في العام التالي وزير الدولة محمد محمود رياض، احتجاجًا على تنازلات السادات في مفاوضات كامب ديفيد.
وهكذا عيّن "الرئيس المؤمن" غالي وزير دولة فقط بدلًا من وزير! وعندما تولى مبارك الحكم في اكتوبر/ تشرين الأول 1981 أبقى عليه وزير دولة للشؤون الخارجية لعشر سنوات أخرى.
إلى جانب ذلك، عَيَّن مبارك وزيرًا مسيحيًا آخر، كان من السياسيين المحنكين، وهو ألبرت برسوم سلامة الذي كان أول من تولى وزارة الهجرة عند إنشائها عام 1982. لكن هذا الوزير كانت لديه حقيبتان من قبل منذ عهد السادات: وزير الدولة لشؤون مجلس الشعب قبل حرب أكتوبر 1973، ثم وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء.
بعد ثلاث سنوات في المنصب المستحدث، تبعه على التوالي ثلاثة رجال، كلهم من المسيحيين: وليام نجيب سيفين، لعام واحد في حكومة على لطفي، ثم عادل عبد الشهيد بشاي، لعام واحد آخر في حكومة عاطف صدقي. وأخيرًا، فؤاد إسكندر نقولا لخمس سنوات، حتى تم إلغاء المنصب عام 1993.
مرت 22 سنة، قبل أن يعيد الرئيس السيسي هذا المنصب الوزاري، في السنة الثانية من حكمه كما كان الحال مع مبارك عند إنشاء المنصب. لكنه لجأ هذه المرة الى سفيرات وزارة الخارجية المصرية عند منتصف سلمهما الإداري، وكلتاهما بالطبع مسيحية، مع وجود موقف متشدد لكل منهما ضد المعارضين، خصوصًا من الإسلاميين ضد الرئيس.
كان للوزيرة نبيلة نصيبها من الانتقادات لدى الحقوقيين، حين صرحت لحشد من مؤيدي الرئيس في كندا بأن "أي حد يقول كلمة عن بلدنا، بيحصلّه إيه؟ يتقطّع" وهي تشير بعلامة الذبح لرقبتها!
اما المؤهل القوي في هذا المجال للوزيرة الجديدة سها جندي، فموقفها المدافع عن اعتقال شاب مصري أيرلندي المولد لأربع سنوات في السجون المصرية منذ كان عمره 17 سنة، ورفضها الانتقادات ضد هذه الانتهاكات لمهاجر مصري، حين دافعت عنه الحكومة الايرلندية والمنظمات الحقوقية، وكانت هي وقتها سفيرة مصر في دبلن.
وشنت منظمة العفو الدولية حملة ضدها بعد أن حكمت محكمة القاهرة للجنايات بالإفراج عن هذا الشاب واسمه إبراهيم حلاوة، لعدم وجود أي أدلة بتورطه في أحداث مسجد الفتح قبل أربع سنوات في أغسطس/ آب 2013، بينما كانت السفيرة المصرية تردد في كل تصريحاتها للإعلام الأيرلندي بأن هذه "حالة إرهاب واضحة"!
واضطر الرئيس الأيرلندي وقتها الى مناشدة كل من يزور دبلن للإفراج عن هذا الشاب، ابن الشيخ حسين حلاوة إمام مسجد دبلن. وكان ممن ناشدهم الرئيس الأيرلندي البابا تواضروس خلال زيارة له الى دبلن، وفي لقاء حضرته معه السفيرة سها سمير.
بل حين تأخرت السلطات المصرية في تنفيذ حكم المحكمة بالإفراج عن المهاجر ابراهيم، طالب وزير العدل الأيرلندي السابق آلان شاتر بطرد السفيرة المصرية آنذاك (اكتوبر 2017) سها جندي، الوزيرة الجديدة لشؤون المصريين في الخارج!
لكن أحدث مفارقة في مهمة وزيرة الهجرة ان تكون منع الهجرة!
ففي أول مقابلة هاتفية ببرنامج "مصر جديدة" بقناة تليفزيونية مصرية يوم الاثنين الماضي، عقب تولي المنصب، تحدثت الوزيرة عن الخطة الطموحة لما يُعرف بـ "مراكب النجاة"، لمنع الشباب المصري من الهجرة عن طريق البحر إلى أوروبا. وأوضحت أن هناك قرىً كاملةً في محافظات مثل كفر الشيخ ودمياط يهاجر كلُّ أبنائها بطرق غير مشروعة وبالقوارب لأوروبا!
جهود الوزيرة هو منع تلك الهجرة وايجاد بدائل عمل وفرص للحياة في مصر، علمًا بأن ميزانية الوزارة لعام كامل لا تتجاوز نحو ستة ملايين دولار! وهي بالطبع جهود تنفق عليها دول أوروبا لمنع المهاجرين، ولا تصب إلا في مصلحة هذه الدول لنتحول الى خفر سواحل بالنيابة عنهم!
وللأسف، بدلًا من أن يصبح المنصب الرمزي الوحيد المتروك لمسيحيي مصر، والذين يشعرون بالتمييز في وطنهم حتى في تعزيتهم، منبرًا لشخصية تدافع عن حقوق كل مصري في الداخل والخارج، معارضًا أو مؤيدًا لنظام الحكم، يصبح مؤهله للمنصب مدى بلاغته في الدفاع عن أي انتهاكات لحقوق الانسان في بلده، ومدى قدرته على الحشد الطائفي في الخارج لأقلية تُنتهك حقوقها كل يوم في الداخل، لكنها كالمستجير من الرمضاء بالنار، لاعتقاد رموزها المنكسرة بالمثل القائل "اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش"!