"سنقاتل حتى النهاية لمنع انفصال تايوان"، هكذا صرح وزير الدفاع الصيني قبل نحو شهرين على خلفية تصاعد التوترات العسكرية بين الولايات المتحدة والصين، والتي بلغت مستوىً غير مسبوقٍ الأسبوع الماضي بالتزامن مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتايوان، ورد الصين بمناورات عسكرية شديدة الضخامة، قالت وزارة الدفاع التايوانية إنها تحاكي عملية غزو للجزيرة.
يرجع الكثيرون اختيار الولايات المتحدة التصعيد مع الصين في المرحلة الراهنة إلى رغبة إدارة بايدن إرسال رسالة لا لبس فيها إلى الصينيين، تحذرهم من التفكير في تكرار سيناريو الغزو الروسي لأوكرانيا مع تايوان.
يشير التصعيد في الحالتين الروسية والصينية مع الغرب إلى مفارقة على مستوى الاقتصاد السياسي العالمي في العقود الأربعة الماضية، وهي أن الاندماج المتزايد لروسيا والصين في حركة التجارة والاستثمار العالمية، والذي جعلهما شريكين أساسيين لدول الغرب، لم يحل دون استمرار وتصاعد التوتر العسكري والجيوسياسي، وصولًا إلى تفجر أكبر مواجهة عسكرية في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بغزو روسيا لأوكرانيا.
كيف يمكننا فهم هذه المفارقة؟ وما آثار هذا التناقض على مستقبل الاقتصاد العالمي وعلى عولمة التجارة والاستثمار؟
لكي نجيب عن السؤال الأول علينا العودة إلى الماضي القريب. عند انتهاء الحرب العالمية الثانية سعت الولايات المتحدة إلى البناء على التحالف ضد ألمانيا النازية واليابان من أجل تأسيس نظام عالمي جديد يضمن الأمن الجماعي والتعافي الاقتصادي، بما يحول دون تكرار سيناريو الحرب العالمية لمرة ثالثة.
جرى العمل على إنشاء منظومة الأمم المتحدة، وضمان موقع مميز لدول التحالف الكبرى في مجلس الأمن الدولي، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي نفسه. وبالتوازي نشأت منظومة بريتون وودز، خاصة صندوق النقد والبنك الدوليين، بعضوية عالمية كان مخططًا أن تشمل جميع دول العالم، بما فيها الاتحاد السوفيتي الذي شارك في مفاوضات التأسيس ولكنه أحجم عن الانخراط في اللحظة الأخيرة.
أدى إنشاء حلف شمال الأطلنطي في 1949، ثم حلف وارسو ردًا عليه في 1955، وانتشار الثورات الشيوعية في آسيا خاصة مع استيلاء الشيوعيين على حكم الصين في 1949، إلى الحد من فعالية مؤسسات الأمن الجماعي والتعاون الاقتصادي في سياق الحرب الباردة.
ولكن المثير للانتباه أن هذه التوترات لم تؤدِّ إلى تقويض البناء الذي صنعته الولايات المتحدة، فاستمر الاتحاد السوفيتي في عضوية الأمم المتحدة، بل وحلت الصين الشعبية محل تايوان في 1971 لتصبح الممثل الشرعي الوحيد للصين وتشغل مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن.
وسرعان ما بدأت الصين الشعبية نفسها في نهاية السبعينيات تحولًا تدريجيًا نحو الرأسمالية، وترجم هذا إلى اندماج تصاعدي للاقتصاد الصيني في التجارة العالمية والاستثمارات الأجنبية المباشرة. أصبحت الصين الشعبية عضوًا في مؤسسة بريتون وودز، ثم انضمت إلى منظمة التجارة العالمية في 2005، وصارت أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة.
انهار الاتحاد السوفيتي في 1991 وانتهت الحرب الباردة وتسيدت الرأسمالية بشكل حاسم. وشهدت روسيا تحولات مؤسسية هائلة كي تتجه إلى اقتصاد السوق الحر.
وعلى الرغم من أنَّ مسار التحول في روسيا منذ التسعينيات كان أقل نجاحًا بكثير من مثيله في الصين، إذ لم تغادر روسيا موقعها كمصدر للمواد الخام خاصة البترول والغاز الطبيعي والغذاء وبالتالي لم تشهد تصنيعًا تصديريًا على غرار الصين، فإن الاقتصاد الروسي أصبح أكثر تداخلًا مع الجوار الغربي: الاتحاد الأوروبي سواء فيما يخص التجارة أو الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة.
ونسجًا على نفس المنوال، انضمت روسيا إلى مؤسستي بريتون وودز ومنظمة التجارة العالمية. مثلت التجارة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي نحو 40% من تجارة الأولى عشية الحرب على أوكرانيا، كما ينم تجميد الدول الغربية لنحو 50% من الاحتياطي الأجنبي الروسي على عمق الاستثمار الروسي في أسواق المال الغربية.
بدا طيلة العقود الثلاثة الماضية أن خصمي الولايات المتحدة الكبيرين، الصين وروسيا، مندمجان بدرجات وأشكال مختلفة في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي بقيادة الولايات المتحدة.
وبدا كذلك أن الاندماج الاقتصادي والمؤسسي المتزايد، مع زوال الخصومة الأيديولوجية بتراجع الشيوعية، نجح في احتواء الخصومات الجيوسياسية، سواء في جوار الصين بخصوص تايوان وبحر الصين الجنوبي، أو في جوار روسيا مع توسع حلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي.
ولكنَّ التطورات الأخيرة تشي بتحول كبير؛ إذ لم يمنع الاندماج الاقتصادي تفاقم الصراع السياسي والعسكري، وحتى وإن ظل الأخير غير مباشر في ضوء التوازنات النووية. بل وهناك ما يشير إلى استناد قدرات روسيا والصين على تطوير وتنفيذ استراتيجيات قومية خاصة بهما في نفاذهما إلى موارد ضخمة، جرّاء اندماجهما في الاقتصاد العالمي نفسه.
وبذلك استفادت روسيا من ارتفاع أسعار المواد الخام منذ 2008 لإطلاق برامج التسلح، واستخدمت الصين فوائضها الدولارية الضخمة لبناء فضاء جيوسياسي خاص بها في إفريقيا وجنوب آسيا، عبر الاستثمار المباشر والإقراض، في إطار مبادرة الحزام والطريق.
أين تقودنا صراعات الكبار؟
قد يكون من المبكر الحكم على الأثر طويل الأجل للعودة القوية للصراعات والتوترات الجيوسياسية بين الشركاء الأكبر في الاقتصاد العالمي. ولكن حال استمرار هذه الصراعات سيكون لها، على الأغلب، أثر عكسي على درجة اندماج الاقتصاد العالمي من خلال التجارة والاستثمار.
ظهر هذا بالفعل في حزم العقوبات المفروضة على روسيا، ليس فحسب في تجميد أصول روسيا النقدية في الغرب وإقصاء قطاعها المصرفي من التعامل بالدولار واليورو، إنما كذلك في الخطط الموضوعة لاستبعادها من أسواق المواد الخام في المدى المتوسط. وهو أمر، إن تم، ستكون له آثار كبيرة للغاية على الاقتصاد العالمي لأنه سيؤثر على وفرة الطاقة وأسعارها، ناهيك عن الغذاء.
ويثير التعامل مع روسيا أسئلة حول مستقبل الشراكة الاقتصادية مع الصين في ضوء اعتمادها الكبير على أسواق الولايات المتحدة للتصدير، وكون فوائضها المالية بالدولار، ما يضعها في موقف ضعف حال استهدافها بعقوبات شبيهة بروسيا في أي صراع مستقبلي.
إذا تُرجمت التوترات الراهنة إلى استراتيجية صينية لإعادة هندسة شراكاتها التجارية بعيدًا عن الولايات المتحدة لصالح روسيا أو دول الجنوب العالمي، وبالتوازي محاولة تصميم إطار مؤسسي بديل للتجارة والاستثمار يقلل من الاعتماد على الدولار في المعاملات الدولية للصين، ربما نكون ساعتها بصدد لحظة حاسمة في السير العكسي ضد الاندماج الاقتصادي، ونحو تأسيس فضاءات اقتصادية وجيوسياسية منفصلة ومتصارعة.
وهذا أمر، إن حدث، ستكون تكلفته الاقتصادية كبيرة جدًا على الجميع، خاصة في ظل درجة الاندماج والتداخل الحالية. ولكننا شهدنا بالفعل أن الاندماج الاقتصادي لا يحتوي بالضرورة الصراعات الجيوسياسية، ولا يحول دون وقوعها.
أثر الصراعات على المنطقة ومصر
ببساطة وباختصار، يبدو أن ثوابت العالم الأمنية والاقتصادية التي طالما أخذتها المنطقة العربية التابعة كمسلمات منذ انتهاء الحرب الباردة وبنت عليها استراتيجياتها التنموية، آخذة في التغيير وفي اتجاهات غير معلومة بعد.
ظهر هذا بوضوح في إمدادات الغذاء، كون منطقتنا هي الأكبر كمستورد صاف للغذاء، وخاصة الحبوب، من روسيا وأوكرانيا.
وستكون للحرب الروسية آثار طويلة الأجل، لا على أسعار الطاقة العالمية فحسب، وهذا هو مدخل اندماج المنطقة العربية في الاقتصاد العالمي، ولكن كذلك على خطط الاتحاد الأوروبي في تنويع مزيج الطاقة ومصادرها، وما قد يفتحه هذا من فُرص ويفرضه من تحديات لشمال إفريقيا كمنتج ومصدر للغاز الطبيعي، وكمصدر محتمل لتوليد الطاقة الشمسية وتصديرها مستقبلًا.
وبجانب الآثار المباشرة فإن اضطراب الصيغة الاقتصادية التعاونية بين اللاعبين الكبار سيكون لها أثرها على أي العملات ستستخدم في المعاملات التجارية والاستثمارية الدولية، وبأي عملة سيتم بناء الاحتياطيات النقدية، وبأي عملة ستتم التعاملات مع كل كتلة على حدة. إن الثوابت تتغير.