البنك المركزي المصري. صورة معدَّلة

الديون ليست أصل الداء ولا هي الدواء 

منشور الأحد 31 يوليو 2022 - آخر تحديث الاثنين 1 أغسطس 2022

يواجه الاقتصاد المصري ضغوطًا متزايدة في الشهور الأخيرة على وقع التضخم العالمي والحرب في أوكرانيا واضطرابات أسواق المال العالمية. وقد تُرجمت هذه الضغوط إلى ارتفاع في أسعار السلع الأساسية وانخفاض كبير في قيمة الجنيه المصري بنحو 20% منذ مطلع العام الجاري.

لا سبيل لتجاهل الظرف العالمي في جوانبه العسكرية والسياسية والاقتصادية لتفسير الوضع المحلي في مصر وغيرها، ولكن في الوقت ذاته ليست جميع الاقتصادات العالمية في نفس الموضع، من حيث درجة التعرض أو الانكشاف للاضطرابات الاقتصادية والمالية العالمية. كيف يمكننا أن نقرأ الوضع الحالي في مصر بغرض فهم لماذا وكيف انتهينا إليه؟ 

تكمن الإجابة في علاقة مصر بالعالم الخارجي سواء فيما يتعلق بالتجارة، وبالتالي العجز في الموازين التجارية والجارية، أو بأسواق المال العالمية والتوسع في الاقتراض الخارجي لسد الفجوات التمويلية التي ينتجها العجز في الميزان التجاري.

ولكن على الرغم من التركيز المتزايد على خطورة الدين الخارجي، وهو في غاية الأهمية قطعًا، فإن العبء الأكبر يتمثل في فاتورة الواردات السلعية التي تجبرنا على الاستدانة من أجل توفير الموارد الكافية لتغطيتها أجل إمداد القطاعات الحيوية، صناعية كانت أو زراعية، بالمدخلات الأساسية، علاوة على واردات الغذاء والطاقة. 

بدءًا بتقديرات حجم الدين الإجمالي ونسبتها لحجم الاقتصاد، كأحد المؤشرات الرئيسية التي يتم بها تقدير مدى خطورته، فإن بيانات البنك الدولي تفيد أن أرصدة الدين الخارجي قياسًا بالدخل القومي تضاعفت تقريبًا بين 2016 و2020، من نحو 55 إلى 123 مليار دولار.

ولكن رصيد الدين، أي القيمة الكلية المستحقة على كيان ما، وفي حالتنا الحكومة المصرية، لا يؤشر في حد ذاته إلى تدهور الوضع الاقتصادي لعدة أسباب: أولها أنه على الرغم من الارتفاع المطرد في الدين الخارجي لمصر في السنوات القليلة الماضية فإن هذا الارتفاع بدأ من مستويات بالغة الانخفاض موروثة عن مرحلة ما قبل 2011. ومن ثم، فعلى الرغم من التوسع الكبير في الاستدانة الخارجية فإن نصيب الدين الخارجي من الدخل القومي الإجمالي كان 37% في 2020 مقارنة بـ 101% في تونس، و67% في الأرجنتين و61% في تركيا و45% في المكسيك. إذن بالنسبة في مصر لا تزال الاستدانة منخفضة نسبيًا.

وثاني العوامل هو وزن الدين الخارجي ضمن الدين الحكومي، فالحكومات تستدين بعملاتها الوطنية وبعملات أجنبية، وهذا هو ما يفصل بين الدين الخارجي والداخلي، وعلى الرغم من أن البيانات الأخيرة عن مصر أشارت إلى رصيد دين عام يتجاوز 103% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعلها ضمن أكثر الحكومات استدانة، إلا أن الناظر إلى هيكل الدين يرى أن الدين الداخلي المقوم بالجنيه المصري لا يزال يمثل نحو ثلثي الدين الحكومي، رغم التوسع الشديد في الدين الخارجي في المرحلة الأخيرة.

ويرجع هذا إلى أن الدين الداخلي نمى هو الآخر بمعدلات مرتفعة. ويجعل هذا الحكومة المصرية مدينة بمبالغ كبيرة، ولكن أغلبها بالجنيه وليس بالدولار أو اليورو. والدين الداخلي يحمل تكاليف ومخاطر بالقطع، ممثلة في رفع معدل التضخم واتساع بنود خدمة الدين بما لا يتيح مجالًا للإنفاق العام في مجالات أخرى، علاوة على رفع أسعار الفائدة، وبالتالي تكلفة الائتمان على القطاعات الإنتاجية، ولكن ليس ضمن المخاطر التخلف عن الوفاء بالالتزامات بالدولار.  

ولكن الأهم من رصيد الدين الإجمالي هو الشروط التي تجري بها الاستدانة، التي تنعكس بدورها على التكلفة والآجال. فكلما قصُرَ أجل الدين تزايدت الضغوط في المدى المباشر للإتيان بالعملة الصعبة المطلوبة للوفاء بخدمة الدين من فائدة وأقساط.

عادة ما يذهب الاقتصاديون إلى وضع تقدير عبء الدين قصير الأجل نسبة إلى ما يحققه الاقتصاد ككل من دخل بالعملة الصعبة، في صورة صادرات سلعية وخدمية، كقناة السويس أو السياحة في حالتنا، أو أشكال الدخل الأولي، مثل تحويلات العاملين بالخارج.

ومرة أخرى، فإن بيانات البنك الدولي المقارنة تظهر أن خدمة الدين الخارجي، الحكومي، في حالة مصر أخذت في الارتفاع بشكل مطرد حتى بلغت نحو 27% من الصادرات والدخل الأولي. علمًا بأن هذه النسبة كانت نحو النصف فحسب في 2019، عند 14%. ولكن حتى 27% لا تمثل نسبة شديدة الارتفاع خاصة وأن مصر، خلافًا لحالات مثل تركيا والأرجنتين، لا تحوز دينًا خارجيًا يملكه القطاع الخاص لأن الدين الخارجي كله حكومي تقريبًا، وبالتالي ليست هناك أعباء مخبأة بالنسبة لمصر.

يقول الاقتصاديون إن بلوغ خدمة الدين الخارجي 25% من الصادرات والدخل الأولي هو حد الأمان، ولكن ثمة خلاف فيما بينهم، واختلافهم رحمة. ولكن على كلٍ، فإن الحالة المصرية على مستوى الخدمة لا تشي بمشكلة استثنائية.

لا يعني هذا أن صعود بنود الخدمة بالعملة الصعبة أمر هين لأنه يأتي بتكلفة كبيرة على الاقتصاد ككل، ليس أقلها ولا آخرها انخفاض العملة المحلية وارتفاع التضخم، ولكن يمكن القول إن القدرة على الوفاء بالالتزامات موجودة على الأقل نظريًا.

بالحديث عن هيكل الدين، فإن الديون الخارجية قصيرة الأجل تمثل مشكلة لأنها تضع ضغوطًا مباشرة على الإتيان بالمال اللازم للوفاء بالتزاماتها الخارجية، بما يمس سمعتها لدى المُقرضين، ومن ثم تكلفة وشروط الاقتراض وفرص الاستمرار في تمويل الدين.

طبقًا للبنك الدولي فإن نسبة الديون قصيرة الأجل لإجمالي الصادرات والدخل الأولي في مصر قد ارتفعت من 6% في 2013 إلى 29.4% في 2020، وهي نسبة مقاربة لنسبة الخدمة ككل، ما يعني أنه بالفعل مكمن الضعف هو التضخم الذي حصل في الديون قصيرة الأجل.

لقد أثبت التوسع في الاعتماد على رؤوس الأموال قصيرة الأجل، والتي تطلق عليها الحكومة "استثمارات"، في صورة أذون خزانة أنه نقطة ضعف، لأنه مع اضطراب أسواق المال العالمية عادةً ما تتدفق هذه الأموال للخارج ما يضع ضغطًا آنيًا وهائلًا على الاحتياطيات الأجنبية وعلى العملة المحلية، وبالتبعية معدل التضخم في ضوء الاعتماد على مدخلات مستوردة.

وطبقًا لرئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي فإن 20 مليار دولار خرجت من مصر منذ مطلع 2022. يؤشر هذا إلى مشكلة كبيرة في إدارة الاستدانة الخارجية وليس بالضرورة في الحجم المطلق أو النسبي لهذه الالتزامات، وذلك بالاعتماد على أسعار فائدة محلية مرتفعة لجذب تدفقات قصيرة الأجل استخدمت لتوفير العملة الصعبة الضرورية للوفاء بالالتزامات، وخاصة فاتورة الواردات. وهذا ينقلنا إلى ما يبدو أنه نقطة الضعف الأساسية، وهي الاعتماد الكبير على المدخلات المستوردة، وهو مكمن ضعف في الاقتصاد الحقيقي، وفي صلب علاقة مصر بالعالم الخارجي. 

يظهر الرسم البياني استنادًا لبيانات البنك الدولي أن نمو الواردات في العقد الماضي كنسبة من الناتج المحلي تراجعت بمتوسط 0.66%، بينما كان تراجع نمو الصادرات كنسبة من الناتج في نفس الفترة 1.88%. ماذا يعني هذا؟ ببساطة يعني أن العجز في الميزان التجاري لم يتحسن كثيرًا. ومن هنا كانت الحاجة المتجددة لبناء الاحتياطيات الأجنبية عبر الاستدانة في المقام الأول. 

سيقول الخبراء في شؤون صندوق النقد والدوائر التمويلية، إن الحل يتمثل في إعادة هيكلة الدين الخارجي بوقف الاعتماد على التدفقات قصيرة الأجل، وأن العلاج يستلزم تأمين تدفقات نقدية آنية سواء من دول الخليج أو من صندوق النقد الدولي. ولكن هذا كله عرض لمرض أساسه قائم في الاقتصاد الحقيقي بما يستلزم تبني إستراتيجيات قطاعية هدفها السيطرة على العجز المزمن في الميزان الجاري، ولا يكون هذا إلا بإعادة صياغة علاقة مصر بالاقتصاد الخارجي، لا فحسب في شق المال، بالحديث عن الاستثمار والاقتراض، إنما في شق التجارة كذلك، أي ما نشتريه من الخارج وما نبيعه إليه.