يكاد الخوف من المستقبل يغلب نفوس المصريين وعقولهم، في ظل غموض الموقف، وشح المعلومات، واضطراب الأحوال، وكل ما يصنعه هذا من تدني الثقة وفقدان اليقين. من يأخذون الأمر بحسن نية يسلِّمون إلى الله، وينتظرون الحل من السماء. أما من تُلقي العلوم في أذهانهم بعض الشكوك فيقدحون رؤوسهم، متلمسين ما يعرفونه، وما جمعوه من الماضي ليبنوا خطوط الآتي قدر الاستطاعة، ويبددون، ولو جزء يسير من القلق.
هناك بيننا قوم آخرون لا يحسبون الأمور على هذا النحو، إنما يلجؤون إلى استعراض الغيبيات، عبر اللجوء إلى أهلها، من المنجمين والعارفين بالفلك، وقراء الطالع، وضاربي الودع. ومن يحيلون إلى دفاتر قديمة تحوي نبوءات مثل كتاب الجفر المنسوب للإمام علي بن أبي طالب، وكتب الملاحم والفتن وأحداث آخر الزمان، وأشعار المنجم الفرنسي نوستراداموس، وبعض ما باحت به العرافة البلغارية الشهيرة فنجا، وكل من ساروا على دربها. وهناك من يقلبون أوراق التاروت، ومن يزعمون أن هناك أشباحًا من عالم الجن توسوس لهم بما هو قادم. وهناك السحرة الذين تتعدد طرائقهم.
وفوق هؤلاء، هناك من يصدقون ما يقوله بعض المتصوفة من كرامات تبين ما يجيء، وهناك من يقولون إن الأمور تأتيهم في أحلام الليل البهيم، أو الذين يخبرون غيرهم بأنهم يمتلكون حدسًا نافذًا، أو من يؤمنون بالإعجاز الرقمي للقرآن، والنبوءات الموجودة في بعض أسفار التوراة وآيات الإنجيل، أو من يقولون إنهم يفتحون الكتب السماوية بعد قراءة أدعية ثم يستلهمون ما يجدونه أمامهم من آيات في تأويل أحداث، وتوقع أخرى آتية.
وقد وجد أصناف من هؤلاء طريقًا إلى آذان الناس، إذ تستضيف القنوات التليفزيونية بعضهم، لا سيما في آخر يوم من كل سنة ميلادية، خاصة من المنجمين ومقلبي التاروت، ليخبروا الناس بما يتوقعونه خلال السنة التي باتت على الأبواب.
ثم جاء يوتيوب ليُمكن كثيرين من هؤلاء بقنوات، جذب بعضها مئات الآلاف من المتابعين العرب، وبعضهم صار يتكسب منها مالًا وفيرًا، لاسيما أولئك الذين يتواصلون مع جمهور سائل عما سيجري له في قابل الأيام عن شؤونه الخاصة.
ولا يقتصر الأمر على عموم الناس، إنما وجدنا بعض علية القوم من ملوك ورؤساء ووزراء وأمراء ووجهاء ورجال أعمال وضباط مخابرات يلجأون إلى بعض العرافين، ليتوقعوا ما يقع لهم، ويحدث في بلادهم، أو لينطقوا بما يهيئ الشعوب لأمر ما، في اتفاق أو تواطؤ متبادل.
وهذا الأمر لا تخلو منه دول العالم المتقدم، إذ تسربت أخبار عن لجوء بعض رؤساء الدول الكبرى إلى عرافين، وتداولت صحف في الغرب نبوءات قديمة تحققت، لاسيما باندلاع الحربين العالميتين، ورأينا جدلًا يثار بعد 11 سبتمبر 2001، حول نبوءة نوستراداموس الذي تُرجمت إحدى مقطوعاته الشعرية على أنها:
نار في مركز الأرض سوق،
تتناطح صرختان عظيمتان،
تسيل أنهار من دماء،
ويُهزم البرابرة..
وتم تأويل هذه المقطوعة على أنها "نار في مركز التجارة العالمي، تقوم على إثرها حرب بين المسيحية والإسلام، تسفك فيها دماء غزيرة، وتنتهي بهزيمة البرابرة".
بعد أن شنت الولايات المتحدة حربًا على طالبان التي كانت تحمي تنظيم القاعدة، الذي ارتكب الحادث، كان الشد والجذب حول المقصود بالبرابرة، فهل هم الأمريكان الغزاة؟ أم أتباع طالبان والقاعدة؟، وقيل أيضًا إن جورج بوش الابن طلب من الرئيس الفرنسي جاك شيراك أن يشارك في غزو العراق 2003 لتكون جيوش الغرب في المكان الذي تتصدى فيه لـ "يأجوج ومأجوج" وفق نبوءات دينية قديمة.
لكن الأمر في بلادنا تعدى ما قرأه الناس عن خلفاء مسلمين استعانوا بعرافين قبل أن يرسلوا جيوشهم إلى بلاد هنا وهناك، كما لم يعد الناس يعملون بآيأت تنهي عن هذا السبيل وتؤكد أنه لا يعرف الغيب إلا الله، ولا بحديث نبوي "كذب المنجمون ولو صدقوا أو صدفوا"، وتعدى كذلك ما اعتاده الناس من اللجوء إلى من يدعون معرفة بعض الغيب، ليخبروهم عن أحوالهم الشخصية، إلى مجال السياسة.
مع فقدان الناس القدرة على التغيير بأيديهم، يتزايد إقبالهم على الغيبيات بأنواعها، لعلهم يجدون فيها الفرج. وهناك من يدرك هذه الحاجة، ويستغلها جيدًا
لقد طالعنا جدلًا أثير في مصر وقت تولي الرئيس الراحل محمد مرسي الحكم عما إذا كان هو "صاحب مصر" أو "صحابي مصر"، ثم قال البعض إن المقصود هو الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأنه هو الذي سيسلم الأمر إلى الإمام المهدي، الذي يغرق يوتيوب بأحاديث تدعي أنه موجود الآن، وأن خروجه من كهفه التاريخي المتخيل بات قريبًا، وأخرى تتحدث عن اقتراب ظهور "المسيخ الدجال"، بل يقول البعض إنه موجود بالفعل، وأن نفرًا من الجان أخبروا أناسًا بهذا. وينتظر البعض قدوم المهدي ليقضي على الدجال، فيلتقون كل ليلة متوقعين أن يدخل عليهم الإمام.
وأيام ثورة يناير جاء إلى ميدان التحرير كثير من الأشخاص طباعهم غريبة، وسمتهم عجيب، أو يتصنعون هذا، يدعي كل منهم أنه المهدي المنتظر. واستفحل الأمر حتى قال الطبيب النفسي أحمد عكاشة، إنه لا يكاد يمر يوم إلا ويأتي إلى عيادتي "مهدي منتظر".
وهناك من لا يزال ينتظر تحقق نبوءة العرافة الأمريكية جسين ديكسون التي تحدثت عمن وصفته بـ "فتى الشرق العظيم" الذي سيحكم مصر. ويردد البعض أن الرئيس جمال عبد الناصر، كان يظن أنه المقصود، وأنه أرسل إليها الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل ليستطلع الأمر، فأخبرته أن الفتى ولد عام 1962.
ويبحث كثير من المصريين على الإنترنت عن تفسيرات وردت في سفر إشعياء بالعهد القديم عن جفاف النيل، ووقوع مصر في مجاعة مهلكة، فيجدون العشرات ممن يتصدون لتأويل هذا السفر، ويؤكدون أن ما فيه لم يمض بعد، إنما هو آت.
وهناك من يجلبون من قلب كتب قديمة نصوصًا يرسمون بها خرائط المستقبل، فيتحدثون عن سقوط عروش ووقوع بلدان في حروب أهلية توطئة لتقسيمها، وهناك من يؤكد أن الحروب الدائرة حاليًا في أوكرانيا بين روسيا وأمريكا ومعها أوروبا هي بداية أحداث "آخر الزمان"، وأن حربًا عالمية ثالثة على الأبواب. وهناك أناس في دوائر الحكم ببلدان عدة يلجأون إلى السحر الأسود للإضرار بمن يرونهم خصومًا سياسيين، وبعضهم يلجأ إلى مؤاخي الجن والسحرة ليفتحوا لهم كنوز الأرض والخبيئات، فيغرفوا منها.
ويبحث مئات الآلاف عن الشيخ الفلسطيني بسام جرار الذي يؤمن بالإعجاز الرقمي للقرآن، ويقول إن ما يسميه "حساب الجُمَّل" الذي عرفه العرب الأقدمون، يؤكد نهاية إسرائيل عام 2022، وينشغل بهذا قطاع من الفلسطينيين، نخبهم وعوامهم، وكذلك في إسرائيل، التي يستعيد حتى بعض كبار ساستها التاريخ القديم الذي يبين أن اليهود لا تعيش لهم دولة أكثر من ثمانين عامًا.
ومع فقدان الناس القدرة على التغيير بأيديهم، واشتداد أحوالهم سوءًا، يتزايد إقبالهم على الغيبيات بأنواعها، لعلهم يجدون فيها الفرج. وهناك من يدرك هذه الحاجة، ويستغلها جيدًا، فيطلق في الفضاء الإلكتروني ادعاءاته بمعرفة ما يأتي، ويصطاد زبائنه في يسر.
لا يعني هذا أنه لا يوجد بيننا بشر لديهم حدس أو يمتلكون طاقة روحية أو قدرة على التخيل تؤهلهم لتوقع بعض الأمور، لكن هذه القلة الصادقة تجرفها كثرة كاذبة، فيغلب الأدعياء الأولياء، وتتوارى الحقائق خلف المزاعم والاختلاقات.
بذل العلماء والفلاسفة والمفكرون جهدًا كبيرًا في سبيل تحرير العقول من هذا، لكن كثيرًا من الناس لا يقلعون عنه، لاسيما إن غمض عليهم الحال، وضاقت السبل، وضعفت الحيلة أو تهاوت، ووجدوا غيرهم يفعل الأمر نفسه، ويُشجعهم عليه، ويُقسم بأغلظ الأيمان أن هذه طريقة لا يجب تجاهلها في سبيل الوقوف على أي من أخبار الغد.