في أوائل التسعينيات، وبينما كنت أؤدي خدمتي العسكرية انفجرت زائدتي الدودية. كان لا بد من جراحة عاجلة، أجريتها في مستشفي المنيا العام، حملوني بعدها مخدرًا إلى سرير بسيط. حين أفقت اكتشفت أنني في عنبر يتقاسمه الجرحي والحرقى. جراحات طبية، وأخرى إثر شجار استخدمت فيه أسلحة نارية وبيضاء، وحروق متفاوتة تقطع لها لحم الذين كان أنينهم ينطق بقسوة الوجع والحسرة.
أتذكر جيدًا أن كل أهل المحروقين سجلوا في التحقيقات الرسمية التي أجراها مساعد أول شرطة، أن سبب ما جرى هو انفجار وابور جاز، الموقد الصغير الذي ينتشر في قرى مصر وأحياء مدنها الفقيرة، ويقوم على عدة شرائط تشكل دائرة تسحب الكيروسين من قعره المصنوع من الصاج إلى أعلاه، فتطلق نارًا تلظى. لكن ما إن ينصرف الشرطي حتى نعرف من جدل الأهل أن المحروق حاول الانتحار، إما بسبب خلافات أسرية حادة، أو تجارب عاطفية فاشلة.
لم يكن أحد من هؤلاء ألقت عليه الحياة العامة ظلالًا سوداء، لم يستطع أن يميطها أو يهرب منها، أو يجد وسيلة لتخفيف وطأتها، فأشعل في جسده النار في لحظة عمى بصيرة، وانفعال طائش، وتوقف البحث عن حل أخف وطأة، يعبر به هؤلاء عن غضبهم العارم، أو احتجاجهم الذاتي، وربما لفت الانتباه إلى القسوة التي يكابدونها.
كل هذا بدا مختلفًا عن السبب الذي دفع الكاتبة أروى صالح، في العقد نفسه، إلى إلقاء جسدها من طابق علوي، مسجلة احتجاجها على أداء اليسار المصري، حسبما شهد به مقربون منها، أو بان من كتاباتها الأخيرة، لاسيما ما سجلته في كتابها المبتسرون.
كما بدا هذا أيضًا في حكاية شاب اسمه عبد الحميد شتا ألقى جسده في النيل ليموت غرقًا، بعد أن يأس من الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وهو الطالب المتفوق المتخرج حديثًا من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، بسبب فقر شديد، أودى به إلى الرسوب في امتحان "كشف الهيئة" بعد أن اجتاز باقتدار الامتحانات التحريرية المؤهلة لنيل الوظيفة المرموقة.
أيامها هاج المجتمع وماج حول نصيب الفقراء في مثل تلك الوظائف، التي زحفت إليها المحسوبية، ولم يعد يشفع للمتفوقين تميزهم العلمي كي يحصدوها. وقارن الناس بين أيام كان فيها التعليم عاملًا أساسيًا في الحراك الاجتماعي، بما جعل أولاد الفلاحين يلتحقون بوزارة الخارجية وغيرها، وأيام لم يعد التعليم يأخذ بأيدي الواقفين في آخر الصفوف الاجتماعية، ويدفعهم إلى الأمام.
بقيت حكاية أروى شأنًا يعرفه المثقفون، ويهربون من تذكره إلا نادرًا، بينما صار الفتى شتا أمثولة، أو مثلًا يضرب على الفساد الذي لطم أعطاف مجتمعنا، وتغلغل حتى وصل إلى نخاعه. وسمعتُ اسم شتا أيضًا يتردد في ندوات مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد، أو بين طلاب الكلية، ممن أتوا إليها من الشوارع الخلفية في المدن وأصقاع الريف، باحثين عن التمكن، ومعه الدور البارز، والعيش الحلال المريح.
ثم غابت تلك الحكاية ولفها النسيان الذي يهجم بلا هوادة على كل الوقائع والحوادث، المؤلم منها والسعيد، لكنها ظلت تُستعاد، ويتبادلها الناس من جديد، وكأنها وقعت منذ أيام قليلة، إبان ثورة يناير 2011، التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية، جنبًا إلى الجنب مع الحرية والعيش الكريم.
بعد سنوات قليلة من هذه الثورة المجهضة، عادت حوادث انتحار الشباب تتوالى، حتى صارت ظاهرة، لا تخطئها عين بصيرة، ولا أذن سميعة، ولا ضمير حي. ولم تكن هذه الظاهرة، في أغلبها، تعود إلى الأسباب التي رأيتها في عنبر المستشفى قبل ربع قرن، إنما هي أقرب إلى حالة الفتى شتا، منها إلى شيء آخر. ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتقال أخبار المنتحرين بسرعة خاطفة، وراحت كثير من التعليقات تربط وقائع موتهم المؤلم بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القابضة.
لا ينكر إلا غافل أو متحامل أن حوادث الانتحار الأخيرة تقف وراء أغلبها أسباب عامة
في كثير من المرات لم يترك المنتحرون فرصًا لتأويل مفتوح حول الأسباب التي جعلتهم ينهون حيواتهم على هذا النحو القاسي، نظرًا لأن الراحلين تركوا شرحًا لأسباب انتحارهم، في تدويناتهم على فيسبوك، أو فيديوهات ظهروا فيها، يعلنون عن عزمهم بعد أن ضاق بهم العيش، وانقضت في عيونهم فسحة الأمل.
لا يعني هذا أن دوافع انتحار الشباب يعود جميعها إلى أسباب عامة، تحمل أوزارها السلطة السياسية، والمجتمع الذي تتراجع فيه الرحمة والتساند. فلا تزال هناك مشكلات بين الأهل، وإخفاقات في تجارب عاطفية، وموت بفعل جرعات زائدة من المخدرات، علاوة على وجود الاكتئاب الانتحاري، وهو حالة من القنوط العميق الأسود الذي يجعل صاحبه يرى طريق التخلص من حياته هينًا، فيمضي فيه دون تردد.
ويحلو لعلماء النفس والاجتماع المقربين من السلطة السياسية أن يدفعوا عنها وزر من انتحروا، فيعزون هذا كله، دون تمهل ولا ورع، إلى أسباب شخصية، نفسية كانت أو أسرية ضيقة، بينما يذهب معارضوها في الاتجاه المضاد، فيرجعون ما جرى إلى الظروف الاقتصادية الصعبة، وانسداد الأفق السياسي، وعجز المجتمع عن تقديم يد العون أو توفير الطبابة أو التسرية.
يدفعنا هذا الخلاف أن نتمهل عند كل حالة لنتبين الأسباب ونجلوها. وفي هذا لا ينكر إلا غافل أو متحامل أن حوادث الانتحار الأخيرة تقف وراء أغلبها أسباب عامة، لا سيما مع استفحال البطالة، التي تدفع شبابًا كثر إلى المغامرة والمقامرة بمحاولة ركوب البحر هروبًا إلى أوروبا، أو بشكل غير مباشر مع الشعور بالامتهان بفعل الاستبداد السياسي، أو المرور بتجارب قاسية في التعامل مع إدارات الدولة، والفشل في ترويض المخاوف التي تملأ النفوس من الوقوع في دائرة المخالفة أو التمرد، أو جراء اللجوء إلى المخدرات والخمور الرخيصة، التي زادت بشكل مفزع، لتساعد المدمنين على الهروب من واقعهم الأليم.
وحتى مرض الاكتئاب واضطراباته لا يمكن فصل بعضه عن الضغوط الشديدة التي يصنعها السياق العام في ضراوته واستهانته بأحوال الناس، فهذا من شأنه تعميق المرض. وإذا أضيف إلى ذلك عجز البعض عن توفير العلاج لارتفاع ثمنه على رقيقي الحال أو لعدم الحصول على الخدمة الطبية، نكون أمام سبب آخر لتحميل الدولة جانبًا من وقف هذه المشكلة، أو تخفيفها إلى حد مساعدة أصحابها على الصبر والتحمل، كي يمضوا، ولو بأمل خافت، على قيد الحياة.
وحتى الذين يقدمون على ما أقدم عليه أولئك الذين رأيتهم في عنبر الحرقي قبل ثلاثين عامًا، لا يمكن أن نعزل الكثير من مشكلاتهم الأسرية في وقتنا الراهن عما تعاني منه الطبقة الفقيرة من ضيق ذات اليد. كما أنبأتنا بعض الحوادث، ومنها تلك التي أطلق فيها رب أسرة النار على أولاده وزوجته ثم قتل نفسه، بعد أن عجز عن الإنفاق عليهم، وسجل ما يؤكد هذا قبل إقدامه على هذا الفعل الشنيع.
إن هذه الظاهرة الخطيرة تحمل دلالة واضحة على مرض أصاب مجتمعنا، لاسيما في السنوات الأخيرة، ولا يمكن الاطمئنان في تفسيرها إلى الأسباب الواهية التي يسوقها أولئك الذين يسعون دومًا إلى غسل أيديهم من هذا العار.