منذ خمس سنوات أعلن صناع كيرة والجن أنهم بصدد تنفيذ فيلمهم المأخوذ عن نص أدبي لأحمد مراد، لكنه لم يظهر للنور إلا مع موسم عيد الأضحى لعام 2022، وبعدما أنفقوا على إنتاجه نحو مائة مليون جنيه. لا يجد الوقت والمال ما يبررهما، لولا الإبهار الكبير الذي بدت عليه عناصر الفيلم مكتملة، واستحوذت الصورة على النصيب الأكبر منه.
المتعة البصرية التي قدمها الفيلم، شغلت مساحات من نقاشات من شاهدوه، واستحوذت على حوار المنصة مع مدير تصويره أحمد المرسي، الذي شارك في سبعة أفلام من توقيع مروان حامد، كان كيرة آخرهم.
يعتبر المرسي "صناعة الأفلام مثل الزواج"، الذي يراه شبيهًا بعلاقته الطويلة بالمخرج مروان حامد "مررنا بمواقف صعبة كتير. وكلما زاد التفاهم كلما أصبح عملنا أفضل وأسهل... نعرف بعضنا منذ أيام الدراسة في معهد السينما، وعندنا طموح مشترك يكبر ويتحقق مع مرور الزمن".
أول تعاون بين المصور والمخرج كان فيلمًا قصيرًا بعنوان 19-19، ضمن فيلم 18 يوم، الذي أنجزه عدد من المخرجين عام 2011 توثيقًا لثورة يناير، ثم تبعه خمسة أفلام روائية طويلة، هي: الفيل الأزرق (2014)، والأصليين (2017)، وتراب الماس (2018)، والفيل الأزرق 2 (2019)، ثم كيرة والجن هذا العام.
ملك الأكشن
بدأ أحمد المرسي، الذي تخرج في معهد السينما عام 1998، مشواره وهو ما يزال بعد طالبًا، كمصور في فيلم اغتيال (1996)، لنادر جلال، لكن ذلك لم يحد به عن التتلمذ على يد مدراء تصوير بارزين، مثل سمير بهزان وسامح سليم ورمسيس مرزوق وطارق التلمساني.
وتعكس الأعمال التي خاضها المرسي كمدير تصوير تطورًا لافتًا، فقبل إطلاق كيرة والجن صوّر فيلمه العارف، الذي أنجزه أثناء العمل على الفيلم الأول، لكن ثمة اختلاف كبير بين العملين، فـالعارف الذي يتناول قصة مخابراتية معاصرة، ويمثل نقلة مهمة من حيث تصوير مشاهد الحركة في السينما المصرية، يبدو مغايرًا لـكيرة والجن الذي يدور في إطار تشويقي أيضًا، ولكن بإيقاع مختلف يفرضه زمنه.
"العارف كأنه فيلم من أفلام جيمس بوند، أما كيرة والجن فحاولنا فيه أن نكون مثل العشرينيات، جعلنا المعارك مثل الخناقات في بداية القرن العشرين. وهذا ما فرض علي كمصور تكنيك مختلف في الحركة"، يقول المرسي.
"أحاول دائمًا ألا أكرر نفسي. ولذا فالإضاءة وحركة الكاميرا كانت مختلفة في كيرة والجن، عن العارف. حتى اللقطات في كيرة والجن كانت أطول، وهذا سبب صعوبة بالتأكيد".
برومو الفيلم
ميزانية غير مسبوقة.. ولكن
تدور قصة كيرة والجن، المأخوذ عن رواية الكاتب أحمد مراد 1919، حول نشاط مجموعة من المناضلين أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، هم أحمد عبد الحي كيرة (كريم عبد العزيز)، وعبد القادر شحاتة الجن (أحمد عز)، ودولت (هند صبري)، وإبراهيم شوكت (أحمد مالك)، ونرجس (هدى المفتي)، وراغب (علي قاسم)، ونعيم (محمد عبد العظيم)، وإبراهيم الهلباوي (سيد رجب)، الذين يكوّنون خلية مقاومة تنفذ عمليات فدائية ضد المسؤولين الإنجليز.
صنع هذا الفيلم كان أشبه بالمعجزة
ويفسر هذا العالم السينمائي، الذي يفترض بناء مواقع تصوير تناسبه، الميزانية الضخمة التي جعلته ضمن أكثر الأفلام تكلفة في تاريخ السينما المصرية."عدلنا في كل الأماكن التي صورنا فيها، وكل الملابس كانت متقنة، بالإضافة إلى أن حجم كادرات الفيلم واسعة ومعنا نجوم كبار بمساعديهم، وأيضًا مشاهد حركة كثيرة"، يفسر المرسي التكلفة والصعوبة في آن "صنع هذا الفيلم كان أشبه بالمعجزة، لأننا بالفعل لم يكن لدينا أي مرجعيات في السينما المصرية يمكننا أن نعود إليها".
يعرف المهتمون بالسينما أن الأفلام تقوم على عدة مراجع أو مصادر سينمائية أخرى، هو أمر متبع في جميع أنحاء العالم منذ بداية السينما، لذا تبدو إشارة المرسي إلى أنهم اشتغلوا نصهم السينمائي دون مصدر فيلمي ملفتة، لكنه يؤكد "ذاكرنا جيدًا التاريخ والصور الفوتوغرافية. زرنا عدة أماكن في مصر، ولكن فضلنا أن نصور في المجر على اعتبار أنها منطقة وسط البلد".
وعن سبب اللجوء لذلك القرار المكلف قال "لأن منطقة وسط البلد اليوم اختلفت تمامًا عما كانت عليه منذ 100 عام. قررنا أننا يجب أن نكمل جزء كديكور وجزء كجرافيك وجزء آخر لجأنا إلى تصويره في المجر تحديدًا، حيث وجدنا فيها مكان يشبه وسط البلد في الفترة التي يتناولها الفيلم".
عالم المقاومة الغامض والمظلم
تجري معظم أحداث الفيلم ليلًا، فيما تبدو مشاهد النهار قليلة جدًا، تتناثر متباعدة بين فصول الفيلم، وهو تحد يراه أي مدير تصوير صعبًا، خاصة وأن فترة العشرينيات لم تكن فترة منيرة بالمعنى الحرفي من حيث وفرة الكهرباء، فكيف تغلب المرسي على تلك المشكلة؟
يقول "كنت أريد صناعة شكل مختلف، ومنح الفيلم شخصية محددة، لذا عملت مع مصحح الألوان أحمد عصام قبل التصوير، واخترنا هيئة الفيلم في النهار، الذي كان يتكون من أربعة أشكال مختلفة"، مضيفًا "أما الليل فكان تحد كبير؛ الكهرباء لم تكن منتشرة في تلك الفترة وأغلب المشاهد ليلية حيث المقاومة تحت الأرض في الخفاء ضد الاحتلال. خططت كثيرًا من أجل الحصول على إضاءة مقنعة، وتحترم مصادر الإضاءة مثل لمبات الجاز والكلوبات".
وللتغلب على ضيق الوقت، اضطر فريق الفيلم لتقسيم العمل "كان الوقت ضيق جدًا أثناء تصوير مشاهد المعسكر الإنجليزي، وهو ما تطلب أن نقسِّم العمل بيني وبين المخرج ليعمل هو مع كاميرا، وأنا مع الأخرى. أما مشاهد ما بعد اغتيال كييف، أي المطاردة، كانت صعبة جدًا فكنا نضيء الشوارع بطريقة مختلفة، وأيضًا حركة الكاميرا كانت مدروسة ومركبة بالإضافة إلى خطورة المشهد نفسه على الجميع وخاصة نجوم الفيلم".
في قبو كافيه ريش بوسط القاهرة يجتمع أبطال الفيلم، وهم تسعة من المقاومة، ليخططوا ويتناقشوا في حيز ضيق للغاية، سألته "هل توافقني أن مشاهد القبو من أصعب المشاهد"؟ أجاب "بالتأكيد. مكان ضيق سقفه منخفض، به تسعة ممثلين بالإضافة إلينا كفريق عمل خلف الكاميرا. وكان علينا أن نخلق إحساسًا دائمًا بأن المشاهد تحت الأرض معهم، وكنا نتحرك كثيرا بالكاميرًا". سألته "ولماذا صورتم في بلاتوه سقفه منخفض؟" ليجيب "أردنا أن يشعر المشاهد دائمًا أنه يوجد سقف للمكان وأنه يحاصرهم وأنه ثمة أناس فوقهم. كان عليّ أن أصنع صورة معبرة ومثيرة للاهتمام، وتحتوي على الكثير من المعلومات، وأيضًا تتجنب كل المشكلات التقنية الممكنة، وتوصِّل حالة درامية محددة".
لقطات طويلة مرهقة
يُعتبر أحمد المرسي واحدًا من أوائل من استخدم الكاميرا الثابتة التي يحملها المصور بيديه ولا يجلس فوقها، كما هو متبع مع كاميرا السينما النمطية. لكن مدير التصوير لم يعد يمارس تلك الوظيفة بنفسه رغم امتلاء فيلمه بالمشاهد التي صورتها الكاميرات الثابتة، "لم أعد أصور بنفسي لأن ظهري أصبح يؤلمني بسبب حمل الكاميرا ومعداتها لفترات طويلة منذ سنوات، ولكن لديّ مساعدون جيدون للغاية".
"دعني أقول لك إننا كنا نصور لقطات طويلة للمعركة ثم نقطعها بعد ذلك في المونتاج مثلما نريد. وهذا ما يجعل إحساس الممثل، خاصة أحمد عز وكريم عبد العزيز اللذان كانت لهما مشاهد حركة كثيرة، أفضل بالمشهد والمكان"، يضيف المرسي.
غالبًا لا يسرد مديرو التصوير التفاصيل التقنية، خاصة أنها أمور تخص السينمائيين أكثر من المشاهدين، ولكن المتفرج الحالي أصبح في لهفة لمعرفة ما يدور خلف الكاميرا، وهو ما جعلني أباغته بسؤالي عن تفاصيل تلك المشاهد. تردد قليلًا ثم أجاب "أول مشهد حركة في الفيلم هو مشهد معركة الجن مع الفتوات، وكان من أوائل المشاهد التي صورناها".
وأضاف "صنعنا هذا المشهد على مراحل. الجزء الأول من أول وضع الجن الحجر في الجورب، ثم جزء يبدأ من أول ارتطامه بأحد الفاترينات بالشارع، ثم جزء يبدأ بارتطام الحصان به حتى النهاية حينما يصل الجنود الإنجليز. أجرينا بروفات كثيرة في الاستوديو ثم في مكان التصوير. وصورنا المشهد كله في يوم تصوير بكاميرتين".
كابوس كيرة
وعن المشهد الأخير الذي يحتوي على معركة طويلة جدًا يقول "ذلك المشهد الذي تدور أحداثه في تركيا صورناه في كرواتيا. ولكن واجهتنا صعوبة تغير الشمس باستمرار وتواجد سحب متحركة. الحظ لم يكن في صالحي يومها. كان كابوس بسبب ضيق الوقت. خططت مع مخرج الفيلم أن نجمع زوايا بمعنى نصور من زاوية محددة مع تغير الشمس حتى لا يظهر تغير الشمس ويبدو وكأن كل المشهد صور في نفس الوقت".
ما تكشف من مجهود ضخم بذله المرسي وفريقه لإخراج الصورة بالطريقة التي بدت عليها على الشاشة، يمثل تحدٍ لأي صانع، لذا لم يكن من بُد لختام حواري معه بسؤاله عن استعداده للمشاركة مرة أخرى في أفلام ضخمة مثل كيرة والجن مستقبلًا، "نعم، لأني سعيد للغاية بالمشاركة في صنع فيلم في هذه الفترة التاريخية. وأننا صنعنا فيلمًا عن حركة المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي".
فكر قليلًا ثم أضاف "ودعني أقول لك إن صنع هذا الفيلم كان معجزة. فهذه النوعية من الأفلام مُكلفة للغاية ومُقامرة لأي منتج، لأنه لا يمكنك ضمان نجاحها، وبالتالي مغامرة تحتاج جرأة وحماس نادرًا ما نجده في السينما المصرية".