منشور
الخميس 21 يوليو 2022
- آخر تحديث
الخميس 21 يوليو 2022
لا أعتقد أن مقولة "ياما في الحبس مظاليم" تحققت في مصر طوال تاريخها مثلما هي الآن، مظاليم ومظالم من كل شكل ولون، أثقلت كاهل الوطن وأوجعت ضمير أبنائه، ممن لديهم أي شيء من ضمير.
مئات المظلومين قصدني آباؤهم وأمهاتهم وأزواجهم وإخوتهم وأبناؤهم، على مدار سبع سنوات تقريبًا، كعضو في مجلس النواب ثم كرئيس حزب سياسي، جاءوا يبحثون عنده -وبالتأكيد بحثوا عند غيره من كل من استطاعوا إليهم وصولًا- عن فرصة ولو لأبسط مساعدة في طلب العدل المُغيب أو الرحمة الغائبة، فلم يجدوا لديَّ طوال سنوات طويلة حزينة ثقيلة ما يستحق الذكر، بعدما يتيسر من السعي الذي كان عنوانه شبه الدائم خيبة الرجاء واقتسام الألم، بل وأحيانًا تقاسم دموع الحزن الدفين أو العجز المرير في انتظار الفرج والفرح.
ومع تعاظم المحنة وتكاثر الأحزان وتكرار الفشل، نبت في قلبي ما كنت أخشاه وطالما حاولت حصاره ومنعه، فانتقلت -على غير إرادتي وطبيعتي- من الاكتفاء بكراهية الظلم والدعاء بزواله إلى كراهية الظالمين والدعاء عليهم. يومًا بعد يوم كُسر هذا الحاجز داخلي رغمًا عني بعد محاولات فاشلة للدفاع عنه لم تقوى معها المحبة الواجبة في اقتلاع الكراهية اللازمة.
في ظلال الأولى كنت أُذكِّر نفسي دائمًا بواجبي بين كل من يستطيع، ويرغب، أن يُسهم بأي قدرٍ في بناء نظام للحكم لا يُعاقَب معه ولا منه من يقاوم الظلم من داخله أو خارجه.
وفي ظل الثانية لم يصمد المنطق النظري المثالي أمام الواقع العملي الكارثي الذي يقول ببساطة إن هناك بشرًا (بني آدمين من دم ولحم) لهم أهل وأصحاب وأحباب، ولديهم كل الحق أن يتشاركوا معهم الأحلام ويتقاسموا الآلام، فيُحرمون من هذا، بل ومن أقل القليل من مواصفات الحياة الآدمية، ويدفعون من حياتهم وحرياتهم ما لا يطيقون ولا يستحقون فقط لأن هناك من يقررون ببضعة كلمات -سهلةٌ عليهم عظيمةٌ عند الله- التحكم في مصائر عائلات بأكملها.
كلمات قادرة على انتزاع أب/ أم من أحضان أبنائهم، وإنهاء شراكة زوج/ زوجة مع زوجه، وتفريق صديق/ صديقة عن أصدقائهم، وخلع أخ/ أخت من كتف إخوتهم، وقطع ابن/ ابنة من ظل أبيهم وحرمانهم من مساحة الطفولة التي يعودون إليها مُرهقين مُشتاقين في حجر أمهاتهم.
كلمات تصادر حق أب حملته الأيام إلى حيث يحتاج لعكاز ابنه، وتبخل على قلب أم بقُبلة الصباح على يديها الحانيتين ممن يحتاج الاستعانة على قسوة الحياة بالدعوة اليومية الصادقة المرجو قبولها عند الله، ولو بعد حين.
بكلمتين من "معالي الباشا" تتجمد حياة هؤلاء شهورًا وسنوات قبل أن يفتح أحدهم الباب ويُنادي على اسم من بين أسماء تتعلق قلوبهم في كل مرةٍ يأتي فيها هذا الزائر بالأمل بينما يقول "إفراج".
هكذا بعد سنوات لم يُقدم -في الغالب الأعم- هذا السجين الإنسان لمحاكمة، ولم يتعرض من حكموا عليه بهذا المصير القاسي لمساءلة، يخرج إلى مستقبل لا يدرك ملامحه، ولا يعرف كيف يترك وراءه ماضٍ ما يزال حاضرًا لأعداد غير معروفة لبشر (بني آدمين مش مجرد أرقام) منهم من اقتسم معه ليالي القهر في ليل الزنازين الطويل، تصبرهم حواديت الأمل المنتظر في صبح جديد لا يشبه أبدًا تلك الصباحات التي لا يُخفي واقعها القبيح تكرار محاولات التجميل البائسة، ولن يغيرها إلا إرادة جادة للاعتراف بالأخطاء، وقرار واضح بتصحيحها عبر معالجة جذرية للأسباب، وعلاج حقيقي لما خلفته من نتائج.
ودائمًا ما بقي السؤال يطاردني وأنا في موقع المسؤولية -بشكل أو بآخر- هل لي من رجاء في عفو هؤلاء المظلومين، والأهم في مغفرة رب العالمين؟ هل تكفيني الدموع أو تنجيني؟ هل تغنيني المحاولات الفاشلة سواء كانت سياسية، تشريعية، رقابية، صحفية، أو حتى إنسانية؟ قبل أن أردد كثيرًا في خوف ورجاء القول المأثور "إن هلكنا فهو العدل، وإن نجونا فهي الرحمة".
قصصٌ يصعب تصديقها على خيال البشر الأسوياء، حتى وهي واقع حي يرونه ويسمعونه من أصحابه، لكن صنعها لا يصعب على الخيال المريض لآخرين ليسوا أسوياء، وربما يصعب أيضًا وصفهم بالبشر، يختلقونها وينسجون منها مخططات -أحيانًا كونية- لمؤامرات وتنظيمات لا يعرف معظم المتهمون بها شيئًا عنها، وكثيرًا ما لا يعرفون شيئًا عن غيرها، ولا حتى عن أي شيءٍ مما جاء بهم إلى حيث يقبعون، أو إلى أين هم -ونحن والوطن معهم- ذاهبون.
ومن بين هذه القصص التي أحياها وتحياني، يبقى في أعلى منزل وأطهر معنى وأقدس موقع سادتي الستة الأخيار الذين دفعوا ضريبة المحبة. محبتي لهم المستحقة والدائمة والراسخة في قلبي ما دام لي قلب، ومحبتهم النبيلة التي دفعوا فيها -وأحباؤهم- من أجمل سنين عمرهم.. متكرمين متفضلين إن بقيت، ومعذورين غير ملومين لو فنت.
سيدي بسام، سيدي كمال، سيدي محمد، سيدي هاني، سيدي حامد، سيدي عبد الرحمن، إليكم أيها السادة وإلى كل الذين ابتعدوا تحت وطأة الظلم عندما أصابهم، أو تجنبًا له قبل أن يصيبهم، وإلى الذين اقتربوا عنادًا أو فداءً.
إليكم جميعًا سواءً بسواء: لي عندكم طلب العُذر بأي قدرٍ، وبما استطاع كلٌ منكم إليه سبيلًا، ولكم عندي تجديد العهد ما دمت حيًا وحرًا أن أبقى "أعافر" متمسكًا بطريق النضال السلمي الديمقراطي في ظل الدستور والقانون، لا خوفًا من أحدٍ وقد جُربت، ولكن التزامًا بواجبي وقد أقسمت. وأكرر وأُذكر -لمن يعنيهم الأمر- أن لن يوقفني عن المضي في هذا السبيل إلا الموت أو السجن.
سادتي الستة الأخيار: أما العُذر فلأن من ظلموكم، صحيح أنهم نجحوا في عصر قلبي وهو ملكي، إلا أنهم فشلوا في كسر إرادتي، وهي ملك كل من صنعها وجميع من ظل يصدقني بعدها، ويعلم الله كم أدمى قلبي أن زادت عليكم الضريبة الباهظة وطالت عليكم سنوات الظلم الغاشم ثمنًا غاليًا للمحبة الجميلة، ويعلم علام الغيوب أني اقتسمت معكم ذلك وجعًا وكبرياءً.
وأما العهد فألا أفدي غيركم -إذا حُكم لي بهذا الظلم مجددًا- ولو كان أبي وأمي وأخي بما لم أقوى على تقديمه لأفتديكم، والذي كان من بينه أني حاولت أن أفديكم بنفسي، وقد كان ذلك أحب إليّ وأهون عليّ، ولعل ما كنتم تعرفون عني يجعلني أتجرأ وأطلب أن تصدقوني، حتى وإن لم أتمكن من تقديم دليل على ما لم يكن عليه شاهدًا إلا من لا يمكن طلب شهادتهم "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" صدق الله العظيم.