لم يكن الأدب والفن الراقي شعبيين في يوم من الأيام. هما مطلب الخاصة دائمًا، دون أن تتجاهلهما العامة أو تمنحهما ظهرها باطمئنان، لأن الرغبة في تلقي الجمال موجودة لدى كل البشر، لكنهم عندما يجربون ذلك الفن لا يفهمونه. ومن هنا نشأ الفن الرديء الذي يُقدم محاكاة للفن الراقي، ويمنح جمهوره وهم تذوق الأدب أو الموسيقى.
ومع انتشار الوعي بأن الطبخ فن، صار الذهاب إلى المطعم سلوكًا يوفر لصاحبه شيئًا من الغبطة الفنية إلى جانب الاحتياجات الأخرى التي يُلبيها المطعم: النزهة وتوفير الراحة من الطبخ، واجتماع العائلة.. إلخ.
ونشأت مع هذا الوعي الجديد مطاعم بالغة الشهرة تقدم فن الطبخ الرديء لجمهور واسع، منها مطاعم تعلن الأذى في أسمائها أو أطباقها التي تحمل أحيانًا أسماء أسلحة حربية أو تعد بالتلوث أو الأزمات القلبية!
جمهور هذه المطاعم يسعى إلى إعلان جسارته، ويريد الاحتفال بنشر صوره في هذا المطعم أو ذاك على حساباته في انستجرام وفيسبوك. صارت الصورة الحدث لا الطعم، مثلما صارت صورة كتاب بجوار المنشفة على الشيزلونج في مصيف هي الحدث، لا الكتاب ذاته.
ولكن من المدهش أن يسعى المتلقي الحساس إلى تذوق الفن السقيم أحيانًا، لأسباب ونوازع مختلفة بينها حب الاستطلاع، الملل من المألوف، وأحيانًا الرغبة في اللعب والمزاح، أو الرغبة في الظهور بمظهر العارف بحياة القاع، لأن الحياة الراقية طموح وتهمة في الوقت ذاته.
خطر لي ذات مرة أن أعلن رأيي في الروايات الكبيرة المحشوة بالأعاجيب وأختبر ردود الفعل. قلت على تويتر إنني لا أحب روايات موراكامي الذي قيل إنه على قوائم ترشيحات نوبل منذ سنوات. وفوجئت بعدد كبير من المتابعين يوافقني وعلَّق أحدهم "هذا ما أحسه، ولم أستطع إعلانه حتى لا أُغضب عشاقه"، وعندما جربت أن أشرح فكرتي في مقال تناولت فيه كُتَّابًا آخرين مثل دان براون وكارلوس زافون، فوجئت بتجريدة نالني فيها من الشتائم مالم أنله في حياتي الصحفية، على كثرة ما تصديت له من قبل من شخصيات نافذة وقيم فاسدة.
جعلني ذلك المقال الذي نشرته بجريدة الشرق الأوسط منذ نحو عام أدرك أن الامتناع عن إعلان الرأي بشأن نجم من النجوم له ما يبرره، لأن مستهلكي الأدب السقيم من القراء متماسكون، نشطون وقراءتهم احتفالية جماعية.
ليس بالمعنى الحرفي للوجود في مكان واحد لحظة الإمساك بالكتاب، لكن في روح التحزب لهذا الكاتب أو ذاك، وقد أتاحت منصات التواصل الاجتماعي الفرصة للقراء كي يتباروا في امتداح رواياتهم المفضلة واستنساخ أقوال بعضهم عنها. وهم عدوانيون مثل أعضاء إخوانية سرية، إلى الحد الذي يجعل المخالف يخشى إعلان قناعته.
بالمثل، لا يرتاد مطاعم الذوق الزائف زبون وحيد، ولا حتى ثنائي، لكن يذهبون جماعات في مظهر احتفالي. لكنهم، بعكس القراء، متسامحون مع من يرفض مطعمهم المفضل، ولا يتمتعون بالتماسك الإيماني الذي يجمع قراء ومشاهدي الفن الزائف.
معززًا بنفور من الأشياء الرائجة، وعدم الخوف من مظنة الجهل، ظلت أصداء الشهرة الكاسحة لمطاعم من هذا النوع تصلني دون أن أشعر بفضول اكتشافها، لكنني اضطررت ذات مرة لزيارة أحدها بصحبة مجموعة من الأصدقاء القادمين من بلاد أخرى.
الصحبة جميلة بحد ذاتها، لكن اختيارهم وقع على مطعم شهير في إمبابة. واكتشفت أن ذلك المطعم محطة أساسية في رحلات زائري مصر المشتاقين إلى التحلل من حصار الأناقة وخمول الاطمئنان، ويريدون ملامسة متاعب الوصول عبر طريق مزدحم، وتدافع وتنافس مع الرواد الآخرين قبل الظفر بطاولة.
بعض الأصدقاء كان مندهشًا أنني لم أزر من قبل المطعم ذا الشهرة البالغة، وقد لاحظت أن النُدل يتذكرون وجوه الأصدقاء الذين يأتون إلى مصر مرة واحدة في العام أو مرة كل عامين. ربما كان للبقشيش المجزي دوره في إنعاش ذاكرتهم، وربما يجيدون التظاهر بمعرفة الزبون.
المطعم عبارة عن صالة ضخمة بجدران زجاجية، لكن ما يعول عليه هو صفوف طاولات الشارع، التي تبدو امتدادًا لطاولات الداخل بفضل شفافية الزجاج. هناك العشرات من المنتظرين وقوفًا على الرصيف، بعضهم يحتل جزيرة الشارع الضيقة بين اتجاهي السيارات شبه المتوقفة بعوادمها وصراخ زامراتها، والبعض يرابط بالقرب من الطاولات التي يتوقع اقتراب خلوها، دون مراعاة لخصوصية الجالسين الذين يتناولون طعامهم تحت عيون الآخرين المتفحصة.
يلهث النُدل بالأطباق وسط الزحام، تتقاطع ضجتهم مع مكبر الصوت الذي يحمله أحدهم مناديًا أسماء من يصيبهم الدور من المنتظرين كلما فرغت طاولة، فيهرولون لاحتلال المائدة قبل تنظيفها من آثار المعركة السابقة!
أحد أفراد مجموعتنا يتردد كثيرًا على دار الأكل هذه، ويعرف الإجراءات. ذهب مباشرة إلى حامل الميكروفون وحصل لنا على رقم. وعاد يعدنا خيرًا إن طال الانتظار: إن لديه رقم هاتف نادل نافذ الكلمة هنا، لا يراه الآن بين النُدل، ربما كانت عطلته الأسبوعية الليلة، لكنه سيحاول أن يهاتفه للتدخل.
عندما نودي على رقم مجموعتنا، أحسست بالفرحة المنقوصة التي استشعرتها عندما سمعت رقمي بين الناجحين في الثانوية العامة، حين كانت نتائج الامتحانات تذاع في الراديو ونعرف منها أننا نجحنا فحسب، وتبقى معرفة درجة النجاح مرهونة بزيارة المدرسة. احتللنا المائدة التي فرغت للتو، بينما لم يزل ثلاثة من العمال ينظفونها، وعلينا أن ننتظر زيارة نادل.
المائدة عبارة عن ثلاث طاولات من حديد الاستانلس متلاصقة رأسًا لرأس بلا مفارش. البقايا فوقها لم تستدع في ذهني سوى منصة الطعام في فيلم The Platform عندما تبلغ الطابق الأدنى. لا الصحبة الجيدة، ولا جو الشتاء المنعش كان بوسعه أن يبعد صور المنصة عن خيالي.
بدأنا في إملاء الطلبات. الجدد مثلي تصرفوا بشكل فردي، شرع كل منا في طلب وجبة خاصة. العارفون بالمكان يعرفون أنه لا وقت للتردد أو تغيير الخيارات. أخذوا زمام المبادرة وأملوا ما يتصورون أنه الأفضل للمشاركة وبالعدد الذي يكفي المجموعة.
وتنازلنا نحن الذين فكرنا بالخصوصية عن حصرية الوجبات. وبعد انتظار لم يكن طويلًا جاءت الأطباق والطواجن المطلوبة بنسبة من السهو والخطأ، كان من الضروري التغاضي عنها مراعاة لازدحام المكان وظروف النادل الذي كان يتلقى الطلبات على طاولتنا بينما تمسح عيناه المكان، وتستجيب أذناه للنداءات الأخرى.
كان الأكل لذيذًا، لكنه يقف على السيقان الثلاثة للغش في الطبخ: الملح، الحار، والدهن
شرع كل واحد يخوض في الطبق الذي يعجبه. طاجن العكاوي، طاجن الملوخية، طبق الكبدة الاسكندراني، الأرز والفتة والممبار. كافحت عامية الروائح والأصوات ببسالة. وهيأت نفسي للحالة، وكان الأكل في مجمله لذيذًا، لكنه يقف على السيقان الثلاثة للغش في الطبخ: الملح، الحار، والدهن.
تأملت عددنا وأعداد المجموعات من حولنا فلم ألحظ وجود اثنين؛ لا رجل وامرأة، ولا حتى رجل ورجل، أو امرأة وامرأة. كل الرواد يأتون في جماعات: عائلة كبيرة، جماعة أصدقاء، أو زملاء عمل في عشاء من النوع الذي ينصح به قسم الموارد البشرية في الشركة لخلق الألفة دون جدوى (في الشركات متعددة الجنسيات يبدو اختيار مطعم شعبوي ابتكارًا يُحسد عليه من اقترحه).
تسليت، وليسامحني الله، بمحاولات تخمين صلات أفراد العائلة الممتدة ببعضهم البعض اعتمادًا على الشبه بين أفراد السلسلة البشرية على هذه الطاولة أو تلك. هذه العجوز والدة الأم أم الأب؟ هل يتمتع كل من الزوجين بحما وحماة أم غاب أحدهم؟ وهل الغياب أبدي أم بسبب متاعب ومشاغل مفاجئة منعت جدًا أو جدة من حضور الوليمة؟
يحقق هذا الحج الجماعي إلى دار الأكل أشياء يفتقدها الناس. صارت هذه المطاعم البديل الممكن للمهرجانات والموالد التي كانت تحقق الفرح الشعبي العام، كما تُعد فرصة لاجتماع العائلة وسط المشاغل المتزايدة بسعر أقل من المطاعم الراقية وفضاء أوسع.
ربما يفسر هذا جزئيًا التناقض بين تواضع المطعم وتقشف بنايات الحي الذي يحتضنه مع فراهة سيارات الزبائن المصفوفة إلى مسافات طويلة حوله. وربما بوسعنا أن نبحث عن سبب آخر لإقبال الموسرين على مطاعم من هذا النوع: اختبار البهدلة.
نعم أعنيها "البهدلة" فهم لديهم موائد وأدوات مائدة فخمة في بيوتهم، ولديهم من يأمرونه طول الوقت في البيت أو المكتب، ومن يطلب وساطاتهم لقضاء ضرورة من ضرورات حياته. ويذهبون إلى تلك المطاعم لالتقاط أنفاسهم من تلك الأبهة.
لديهم هنا الفرصة لكي يشعروا بأن الحصول على ما يريدون رهين قرار شخص آخر: عليهم أن ينتظروا حامل الميكروفون لكي ينادي على رقمهم، ثم يتولاهم نادل لا ينحني كما في المطاعم الأرستقراطية، بل ربما يتنمر عليهم بدعاباته، وربما يعاملهم بخشونة تحت ضغط الإنهاك.
كذلك يمنحهم هذا المطعم الفرصة ليجربوا فسادًا صغيرًا غير الكبير الذي سئموه: يبحثون عن طريقة لتخطي أرقامهم، التودد إلى النادل. الخروج على تقاليد المائدة في بيوتهم؛ الهرولة لاحتلال الكراسي، استخدام الأيدي، غمس أصابعهم في طبق واحد. وهو سلوك لذيذ يشترك فيه الفقراء والعشاق.
دار الكِتش الحاشدة لا تتعرض لامتحان الذوق. لا وقت فيها لتأملات مارسيل پروست المطولة حول الملمس والطعم والرائحة والشكل والذكريات، حيث كان العشاء في مجتمعه الأرستقراطي يمتد طوال السهرة. طوابير الزبائن تنتظر انتهاء المحظوظين الذين سبقوهم إلى الطاولات والذين عليهم أن يخلوا أماكنهم فور الانتهاء من وجبتهم.
الرحلة إلى المطعم الشعبوي أهم من الوصول، والفوز بطاولة أهم من الوجبة، وإن تمرد الزبون على الطعم أو اكتشف الغش، فهناك المزيد من الزبائن البدلاء، لكن دوام الرواج من المحال.
صانع الفن الشعبوي طاهيًا كان أو مؤلفًا، مؤذٍ عن سبق إصرار، لأنه ماهر، واع بمقادير توليفته، يكررها بسهولة، ولأنه يستطيع أن يكررها يستطيع غيره أن يُقلدها. وبالفعل يظهر منافس يقدم التوليفة ذاتها، ويخلق الفضول لدى الزبائن، فينصرفون جماعة عن المطعم الأول كما جاؤوه جماعة. ينطبق هذا الانسحاب على من ارتادوه جادين لأنه يلبي ذوقهم في الطعام وعلى من ارتادوه مازحين من أجل اختبار البهدلة.