يلقي حكم محكمة الأسرة في سوهاج برفض دعوى طلاق سيدة مسيحية من زوجها الذي اعتنق الإسلام، الضوء مجددًا على أزمة قوانين الأحوال الشخصية، سواء الخاصة بالمسلمين أو تلك المطبقة على المسيحيين، وهو الموضوع الذي يحتل مساحة واضحة من النقاش حاليًا، خاصة بعد مطالبة رئيس الجمهورية بوضع قانون أحوال شخصية جديد للمسلمين، وتقديم الكنائس المصرية مسودة قانون الأسرة للمسيحيين إلى مجلس الوزراء.
كانت الزوجة المسيحية تطلب في الدعوى التي رفعتها أمام المحكمة تطليقها من زوجها الذي أشهر إسلامه، تطبيقًا للمادة 51 من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس لعام 1938 "إذا خرج أحد الزوجين عن الدين المسيحي وانقطع الأمل في رجوعه إليه جاز الطلاق بناءً على طلب الزوج الآخر". ولكن المحكمة رفضت الاستناد إلى هذه اللائحة.
في حيثيات حكمها برفض الدعوى، أشارت المحكمة إلى أن اعتناق الزوج للإسلام كان سابقًا على رفع الدعوى، ومن ثم تكون الشريعة الإسلامية هي المطبقة في شأن هذه القضية، ما يثير تساؤلًا عن مبدأ قانوني آخر هو "العقد شريعة المتعاقدين"، أو ماذا لو كان تغيير الدين هو بوابة للهروب من الالتزامات والحقوق القانونية، هل تعاقب الزوجة على تمسكها بحقوقها؟
فصّلت المحكمة في أسباب حكمها أكثر موضحة أن الراجح في المذهب الحنفي، الذي يؤخذ به في مسائل الأحوال الشخصية، أنه "لو أسلم الزوج وامرأته من أهل الكتاب بقي النكاح بينهما"، و"لو أرادت المرأة كتابية الفرقة فلابد أن يتقرر السبب الموجب لذلك"، أي أنه في مذهب الإمام أبي حنيفة، لا يعتبر إسلام الزوج، بحد ذاته، ضررًا على الزوجة يوجب تطليقها.
رأت المحكمة إذن عدم تطبيق المادة 51 من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس، التي تم على أساسها الزواج، واختارت الاستناد إلى ما رأته مقررًا بقضاء محكمة النقض، بما يعني أن شرط تطبيق لائحة الأقباط الارثوذكس هو استمرار الزوجين على نفس الملة والطائفة، ولا يسوغ القول بأنه تبقى هذه اللائحة مختصة بالفصل في آثار الزواج مهما اختلفت ديانة الزوجين بعد العقد. ولما كان الثابت أن المدعي عليه قد أشهر إسلامه فإن الشريعة الإسلامية وحدها دون غيرها من وقت حصول التغيير هي التي تحكم حالته الشخصية.
قوانين متعددة منحازة
هذه الحالة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل قوانين في مجملها تنحاز إلى الرجل، فما بالنا لو كانت السيدة مسيحية وزوجها مسلمًا، وتنحاز للرجل فيما يخص حضانة الأم المسيحية لإبنائها من طليقها المسلم، حيث تحرم منها في كثير من الأحيان خشية على الطفل من تعاليم ديانة بخلاف ديانة والده.
كذلك الحال في قضايا المواريث، وفقًا للقوانين الحالية لا ترث الزوجة المسيحية في زوجها المسلم، والعكس صحيح، وكم من قضايا حرمت سيدات رغم حاجاتهن الشديدة من معاش الزوج بحجة اختلاف الدين. الرابط في معظم هذه الحالات هو تديين الأحوال الشخصية، واستخدام الشريعة الإسلامية وفقا لتصورات المؤسسات الإسلامية الرسمية كمحدد لتنظيم علاقات الزواج والحقوق المترتبة عليه، حتى لو لم يكن جميع الأطراف المعنيين من المسلمين.
أهمية هذه الحالة لا تأتي من أطرافها المتقاضين، ولا حتى من رفض الدعوى، لكن من الرسالة التي تصدرها، رسالة عنوانها انتهاك حقوق دستورية كحرية العقيدة والمساواة، وعدم التمييز، وعدم إجبار أحد على الاستمرار في علاقة أسرية قسرًا، بحجة أن مواد قانون الأحوال الشخصية تبرر هذا الوضع.
الجزء الأكبر من المشكلة عائد إلى تعدد قوانين الأحوال الشخصية المطبقة في مصر، فهناك أولًا قانون الأحوال الشخصية العام، الذي يطبق على جميع المسلمين فيما يخص مسائل الزواج والطلاق، ويستمد مبادئه ونصوصه من الشريعة الإسلامية وفقًا للمذهب الحنفي، ثم لدينا 14 لائحة آخرى تخص 14 طائفة وملة تعترف بها الدولة يتم تطبيقها على مسائل الزواج والطلاق، وهى: اليهود الربانيين والقرائين، والأقباط الأرثوكس والسريان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس والروم الأرثوذكس، والأقباط الكاثوليك والموارنة واللاتين والأرمن الكاثوليك والكلدان والسريان الكاثوليك والروم الكاثوليك، والإنجيليين.
هناك أيضًا مجموعة ثانية من القوانين، تحدد اجراءات التقاضي أو الحضانة أو الخلع، وتستمد مبادئها من الشريعة الإسلامية.
على هذا النحو، فإن الزواج يقوم به موثق معتمد من الدولة، بالنسبة للمسلمين قد يكون الموثق مأذونًا شرعيًا أو محاميًا، بينما إذا كان الزواج مسيحيًا فيقيم كاهن أو قس المراسم الدينية ويتمم الزواج وفقًا للطائفة أو الملة التي ينتمي إليها الزوجان، ثم يحرر عقدي زواج، واحد زواج كنسي خاص بالمراسم الدينية، وآخر زواج للطوائف متحدي الملة والمذهب يوثق لدي مؤسسات الدولة المختصة.
أما الطلاق، فيسجله المأذون بالنسبة للمسلمين حيث يقع بإرادة الزوج المنفردة، بينما يتعين على المسيحي أو المسيحية إذا رغب/ رغبت في الطلاق رفع دعوى قضائية أمام محكمة الأسرة التي تطبق اللائحة الخاصة بالزوجين إذا كانا من نفس الطائفة والملة، أما في حالة اختلاف إحداهما، فتطبق الشريعة الإسلامية، ثم يقوم من يحصل على حكم الطلاق بمحاولة تسجيله لدى المؤسسة الكنسية المختصة ليحصل على اعتراف ديني به.
ظلم مضاعف للمرأة
بطبيعة الحال، هذه القضية ليست الحالة الأولى التي تظهر تضارب قوانين الأحوال الشخصية، وعجزها عن وضع أسس عادلة لقيام واستمرار وإنهاء علاقة الزواج.
فلائحة الأقباط الأرثوذكس تتضمن من ضمن أسباب وقوع الطلاق قيام أحد الزوجين بتغيير الدين، في حين أن قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين لا تعتبر تغيير الدين سببًا بحد ذاته في وقوع الطلاق. وتتجلى ملامح التمييز الديني أكثر إذا ما قورن ذلك مع حالة قيام الزوجة المسيحية بتغيير ديانتها إلى الإسلام وبقاء الزوج على ديانته الأساسية، حيث تحصل الزوجة على حكم الطلاق بمجرد رفع الدعوى وتقديم شهادة الإشهار. وإذا كانت المرأة المسلمة تواجه تعنتًا تشريعيًا وصعوبات قانونية للحصول على الطلاق بشكل عام، فأن هذا الظلم يكون مضاعف للسيدة المسيحية المتزوجة بمسلم، والتي عليها إثبات وجود ضرر فعلي بخلاف تغيير الدين، ومن ثم اقتناع المحكمة بهذا الضرر.
يعد الخلع مخرجًا في بعض الحالات للحصول على الطلاق، لكن سيكون على المرأة الراغبة في انهاء علاقة الزواج التنازل عن جميع حقوقها المالية والشرعية، وهو ظلم وقهر للمرأة. فعليها الاختيار بين البقاء في علاقة زواج بالإكراه والإجبار وبين التنازل عن حقوقها. يذكر في هذا السياق، أنه من ضمن الانتقادات الموجه لقوانين الأحوال الشخصية الحالية، ما يعرف بحرمان الزوجة من نصيبها في ثروة زوجها، مقابل جهدها، ومشاركتها طوال فترة الزواج.
دروس مستفادة
من خلال هذا الحكم يمكن استخلاص عدد من الدروس التي يمكن الاستفادة منها خلال المرحلة القادمة، والتي يفترض أن تشهد الانتهاء من صياغة قوانين أحوال شخصية جديدة للمسلمين وللمسيحيين على حد سواء.
- لا يزال وضع المادة الثالثة من الدستور "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية" محيرًا ومربكًا فيما يخص الأحوال الشخصية، وحتى الآن ليس معروفًا نطاق تطبيقها، وهل ستكون على قدم المساواة مع المادة الثانية "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" وتصبح جزءًا من النظام العام يعول عليها عند إصدار الاحكام القضائية. فما هو النظام الذي سيتبع في حالة الاختلاف والتضارب ، وكذلك في قضايا الزواج المشترك؟
- هناك خطورة في سيطرة المؤسسات الدينية وتحكمها وفرض رؤيتها الدينية المحافظة على قوانين الأحوال الشخصية، حيث تشترك قوانين الأحوال الشخصية بوضعها الحالي في النظر إلى موضوع الزواج والطلاق باعتباره موضوعًا دينيًا فقط، وتتجاهل الأبعاد الاجتماعية والثقافية، فالزواج بطبيعة الحال لا يستوي مع الصلاة أو الصوم أو أيٍّ من أمور العقيدة التي قد يكون مفهومًا أن تكون النظرة الدينية سائدة في تنظيمها وترتيب أمورها، فهناك أبعاد اجتماعية وثقافية للزواج لا يمكن لنصوص دينية وتفسيرات من حقب تاريخية سابقة أن تتعامل معها.
- قوانين الأحوال الشخصية ليس مسؤولية المؤسسات التنفيذية والتشريعية والدينية وحدها، بل مسؤولية مشتركة لكل فئات المجتمع، وفي مقدمتها أصحاب المصالح والمنظمات العاملة في مجال حقوق المرأة والنوع الاجتماعي. وفي هذا الصدد، يجب إشراك المجتمع المدني ليس في حوار مجتمعي شكلي، لكن في مراحل صياغة هذه القوانين، سواء في جانبها الخاص بالمسلمين أو تلك الخاصة بالمسيحيين، إذا كانت الدولة جادة فعلًا في وجود قوانين منصفة لطرفي العلاقة تحد من المشاكل الناتجة عنها.
- الزواج علاقة بين طرفين يفترض فيهما التساوى، كل منهما لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات، علاقة قائمة على الرضا والقبول بها، وهو شرط ضروري لإتمامها، فإذا غاب بطل العقد، فيكون التخارج منه حقًا لكلا الطرفين، ولا يجب بأي حال منح أي منهما ميزة أكثر من الآخر. وبذلك فإن الطلاق ليس جريمة أو شرًا مطلقًا، بل انفصال وانهاء لعلاقة قد يكون استمرارها مدمرًا لطرفيها. وعلى أي قانون أحوال شخصية أن ينظم هذه الخطوة من خلال وضع الإجراءات اللازمة لإتمامها، لكن بدون إجبار أي طرف على الاستمرار وهو مكره على ذلك، وبدون وصاية أو تشويه لسمعته.
والحل الجذري يبدأ وينتهي عند وجود قوانين أحوال شخصية مدنية، تسمح لطرفي الزواج بوضع الشروط الخاصة بهما، لتنظم حقوق كل طرف، وتتضمن فض التضارب الحاصل في قوانين الأحوال الشخصية الحالية.