يقول فريدريك جرو، في المشي فلسفة "الرحلة والمشي يحتاجان إلى قليل من الغضب". وللمشي معي حكاية. اكتشفته كأنه اختراع، وليس فعلًا عاديًا يمارسه الجميع. ارتبط عندي بلحظة تحول في حياتي، كان هو الوسيلة الوحيدة للطرق على الأبواب المغلقة التي تكاثرت في تلك اللحظة، وامتصاص طاقة الغضب العمياء. أحيانًا كان المشي، بكرمه الشخصي، يضيف شيئًا لم يكن في حسباني، ويكتسب معنى تحرريًا مع الأنفاس اللاهثة والغاضبة، والعرق المتساقط من كل خلايا الجسم، ويفتح ثغره في جدار النفس لرؤية الآخر. لم يكن الآخر، وقتها، شخصًا محددًا، ولكنه عبارة عن غرفة مغلقة في نفسي، كان المشي يضيئها.
كنت أتعامل معه كأول طبيب نفسي، يقف على مسافة بيني وبين نفسي، شاهدًا على السجال والاعترافات والإشارات، ويجعلني في النهاية أعود للبيت راضيًا مرضيًا بعد رحلة طويلة على القدمين مدتها لا تقل عن ساعتين، يصفو الجسم وتصفو النفس وتسلم مفاتيحها المخبوءة لأول عابر سبيل، وتنفتح الأبواب من تلقاء نفسها، ويعيش الاثنان، النفس والجسم، بدون نزاع، يعود كلاهما طافيين فوق سطح الحياة معًا، وأنا بينهما فرح بذلك التصالح العارض.
التصفيق للرحلة
عادة ما كنت أسلك طريق البحر، هذا الطريق الخالي والمملوء بالمياه. أذهب بالترام لمحطة الرمل، وأعود من هناك سائرًا لبيتنا في حي بولكلي. طوال الطريق هناك حوار داخلي لا ينقطع، وربما يصاحبه بعض الإشارات بسبابتي أوجهها لهذا الآخر، الذي يخلقه المشي، سواء كان داخلي أو خارجي، فكلاهما لا مرئيين. أو ربما أوجهها لهذا المكان الآخر، الذي أود أن أصل إليه عبر المشي، إلى كل الغرف المظلمة بلا استثناء. أرفع سبابتي للأمام، أشير للمجهول الذي يحيط بي: لم يعد أمامنا إلا استكمال الطريق حتى النهاية، ربما يتخلق طريق آخر.
أحيانا أصفق، أمنح الرحلة الإيقاع اللازم الذي يكسر الصمت. برغم كل الحوارات الداخلية، لكن هناك صمت جارح يلف المشّاء. تصفيق غير منتظم، لا يعبر عن فرح أو سعادة، ولكن انتفاض مفاجئ للسيطرة على ذلك الصمت. وأحيانًا ألمس مجموعة من العلامات التي تصادفني في الطريق، سور البحر الخشن، الأعمدة المعدنية للكهرباء، علامات تضع إحداثيات لذلك المضمار اليومي، لسباق بلا هدف. لم يكن هناك هدف في الوصول لأية نقطة، وهو ما أشعر به أثناء المشي، أن هناك تيهًا، ليس أرضيًا، ولا سماويًا، يجب أن أتآلف معه، وأتعلم الانتظار بداخله.
ضد الأنانية
كانت والدتي، يرحمها الله، وأنا صغير، عندما يضيق بها البيت وهمومه وأحزانه، تخرج منفردة وتسير وحدها بلا وجهة، وتعود بعد ساعة أو ساعتين صافية. لا تنسى أن تصحب معها "الجُزلان" (محفظة) الجلدي في يدها اليسرى، فربما يصادفها محل أيس كريم. يذوب احمرار الغضب في الطريق، ويسقط مع كل خطوة للأمام، على إيقاع ذوبان الأيس كريم. كانت تمشيتها، مثل كل وظائفها الأخرى، لا تصل فيها لوجهها الآخر، تكتفي بأقل القليل من الحرية وهدوء النفس، ثم تعود للبيت راضية مرضية. لم أرها وهي سائرة لاتلوي على شيء، بلا هدف، فقد كانت حياتها مكرسة لهذا "الهدف"، سواء كان الإيمان، أو راحة الآخرين، أو النجاة من النار.
لاشك أن المشي فعل ضد الأنانية، يفسح الطريق لحضور ذات أخرى معك. ذات قرينة بالمشي. وضع الحركة يمنح المساواة مع الآخر، لأنك أنت وهو، في ذلك الوضع السائل، وضع الحياة التي تسير للأمام، منفصلان عن تاريخكما. وضع التوقف هو الذي يحمل التنافس. هذه الأفكار التي تتكون في الهواء الطلق وسط الحركة، وتحتفل بها العضلات كما يقول نيتشه، أكبر مشاء معاصر بعد رامبو، وضد الأفكار الأخرى التي تتكون في السرير، تلك الأحكام المسبقة التي لم يتوفر لها أن تولد وسط الحركة "فهي الخطيئة الحقيقية المرتكبة في حق الروح"، كما يقول فريدريك جرو.
أعرف أفكار السرير جيدًا، التي تأتي من سلة مهملات الروح. في سنوات اليأس والبحث عن طريق، أحيانًا كنت أستيقظ متأخرًا، لا أملك ترف أن أغادر السرير، لأني كنت أسأل نفسي وماذا بعد؟ ماذا ينتظرني هناك. بجانبي شيش الغرفة الموارب المطل على الحديقة، تتسرب من فتحته أشعة شمس الظهيرة، كنت أتجنب هذا الضوء الصريح، في حضوره كنت أتلوى في السرير، ولا أسترد سكينتي إلا بعد أن يتوارى. بينما أبي وأمي خارج الغرفة، يتساءلان، صباحًا مساءًا، عن مصير هذا الابن الذي جنحت به سفينة حياته.
كل الأفكار السيئة عن نفسي كانت لا تأتيني إلا في ذلك الوضع السريري المصلوب، وتحت ذلك الضوء الصريح، ربما هو ضوء الاعتراف الذاتي، الذي لا يجدي معه أي دفاع. أشحذ قوتي في أن أتحمل صراحة ذلك الضوء، حتى يغيب، ثم أخرج من غرفتي بعد العصر بقليل، أتجنب ان أصطدم بأبي ومخاوفه، حتى لا نبدأ فصلًا جديدًا بالحديث عن هذه السفينة الجانحة لحياتي. أخرج من البيت، وأركب الترام من محطة ترام بولكلي، صاعدًا به لمحطة الرمل، وهناك فوق ذلك الجبل، أرى الحياة صغيرة، ليست بها أية خدوش. اتدحرج لأسفل، حتى تصفو روحي.
وعد المشي
يقول فريدريك جرو في المشي فلسفة "الحرية عند المشي هي أن تكون لا أحد، لأن الجسد الذي يمشي لا يملك تاريخًا، وإنما فحسب تيار حياة لا ذاكرة له". يحمل المشي وعدًا مؤقتا بأن نتوه، ولا نعود للبيت، أو للمركز الذي خرجنا منه. ربما يظل هذا الوعد كامنًا وهو السبب الذي يجدد الرغبة في تكرار الفعل، يظل كالمحرض حتى يمنح فعل المشي دومًا هذا القدر من الخطورة المحتملة، أن نتوه ولا نعد نعرف من نحن ولا من أين جئنا. هذا التيه المجازي في فعل المشي ربما هو السبب في الإحساس بفقد الهوية والذكريات، التي تنتابنا خلال المشي، ننفصل مؤقتًا عن ذواتنا، بعد أن فقدنا مؤقتًا الطرق التقليدية التي كنا نلمس بها الذات والهوية.
أثناء وباء كورونا، ورغم أنه لم يكن عائقًا عن المشي، ولكن "الخارج"، الهدف من المشي، أصبح ممسوسًا بالكارثة. لذا كان المشي محفوفًا بها، مما جعل النفس منكمشة وشديدة اليقظة، ربما لأنها كانت ترى نفسها أمام مرآة الزوال، ولم يعد هناك مهرب من إيقاظ الذاكرة، لا نفيها، وربما هو السبب الذي جعل حيوية المشي لا تتحقق، تتحول لتمرين رياضي محض، كان شخصًا آخر هو الذي يسير ولست أنا، لا ينوبني منه سوى المجهود والعرق، وليس خفة الروح والحياة معًا.
"ينتهي المشي بأن يوقظ فينا ذلك الوجه المتمرد السحيق: تصبح شهيتنا خشنة وعصية، واندفاعاتنا ملهمة. لأن المشي يضعنا وجها لوجه أمام محور الحياة: وهكذا نلفي أنفسنا مسحوبين بالسيل المنبجس من تحت أقدامنا".
إحدى حكايات بيتنا التي علقت بذاكرتي حول المشي، كانت العائلة تقضي أيامًا في أحد المصايف القريبة من الإسكندرية، وحدثت مشادة بين أبي وأخي الأكبر، فما كان من أخي إلا أن ترك المصيف، وعاد لبيتنا في الإسكندرية سائرًا على الأقدام. خرج صباحًا ووصل مساءً، لا يقل عن عشر ساعات متواصلة، من السير بدون نقود، فقط بقوة طاقة الغضب والتمرد والانفصال عن الحياة الأسرية. خلال المشي نمت هذه الذات الأخرى الصلبة، بعيدًا عن العائلة، هذه الشخصية العصامية التي أخذت تثأر لنفسها ولكرامتها مع كل خطوة، حتى انفجر الماء تحت هذين القدمين، في ذلك السعي النبيل.
أنا مشاء على الأقدام
بعد وفاة أبي سافرت إلى سيوة بحثًا عن عزاء ما ربما توفره الصحراء، كانت زيارتي الأولى للواحة. كنت أسير بجنون، هذيان يفوق طاقة الجسد على التحمل، كأني أعاقب نفسي على هذا الموت، فقدت حوالي سبع كيلو جرامات من وزني خلال سبعة أيام، كان هذا الوزن الزائد يحتوي على الدم المذنب. وقتها كانت كل الأبواب موصدة، حتى بهذا الطرق العنيف والمؤذي للنفس، ولكنها لم تفتح، حتى بالصراخ وسط الصحراء، أو البكاء من دون سبب، أيضًا لم تفتح، ولم يصل المشي إلى مرتبة الحج، لأن الإيمان لم يكن سابقًا. كنت أبحث عن إيمان يأتي في الطريق. ربما الفائدة من هذه الرحلة، أن الجسم دخل في علاقة جديدة، مع النفس، بهذا الوزن المفقود، وربما للمرة الأولى ألمس المادة الحقيقية للذنب في جسمي.
يصرح رامبو "أنا مشاء على الأقدام، ولاشيء غير ذلك". بعد الزواج صار هناك بيت جديد في حي فيكتوريا، تنطلق منه المسيرة، وتنتهي عند محطة ترام بولكلي، وفاء لذلك المركز القديم. بالطبع مشهد مختلف تمامًا عن المسار القديم من محطة الرمل حتى البيت في بولكلي. مسار ليس فيه صعود جبل والنظر من أعلى على الحياة. أعبر شارع الجلاء ومزلقان قطار فيكتوريا، وسط حشود يوم القيامة من المشائين والباعة. يتحول المشي في بدايته إلى فعل مقاومة صاف، تتوه الطبيعة، وهذا الجبل الرمزي، الذي نبحث عنه وسط هذه الصيحات البشرية. لا أصل للحظة التي أبحث عنها، وهي نسيان نفسي تمامًا، إلا بعد ان أترك خلفي تلك الحشود، بحثًا عن هذا التحليق الذاتي.
ربما معنى السير في شوارع مصر سيتشكل بالمناخ الذي يحدث فيه، ليس هناك غابة أو وديان أو جبال يتسلل بينها نيتشه أو المشاؤون، لذا السير هنا مشروط، ليس فقط بالاندماج مع الطبيعة، وإحكام العزلة، وتماهي الخارج مع الداخل، حتى تخرج فراشة من داخل هذه العزلة؛ ولكن السير هنا سيخضع لسطوة الخارج وحشوده، سيتحول إلى سيرة بحث في الوجوه، سواء التي تراها خارجك، والبحث عن أصولها في الداخل. تظل الذاكرة حية تتقلب على صفيح ساخن أثناء السير، وهويتك تتقلب معها، تظهر وتختفي عكس السير في أي مكان طبيعي.
"أما البطء فهو الالتصاق تمامًا بالوقت، لدرجة أن الثواني تنغرس، وتقوم بالتتقيط مثل زخات مطر فوق حجر، هذا التمدد للوقت بعمق الفضاء". يقول فريدرك جرو.
بعد شهور طويلة، هجرت فيها المشي، أعود لهذا الزمن الكثيف الذي يتضمن طبقات من الأزمنة. أسير في الشارع وفي الوجوه وفي طفولتي وشبابي ومراهقتي. يتيح المشي هذه الجينالوجيا (دراسة التاريخ العائلي) الزمنية، أصبح شاهدًا عليها. الآن أصبحت أمشي ببطء أكثر من اللازم، لأني أصبحت أقل غضبًا، حتى ألتصق تمامًا بالوقت، وأشعر بماديته على جسدي، ونفسي، ينقط عليهما أثناء المشي. فلاشيء أسعى إليه سوى الفرجة واستعادة نمط حياتي الذى فقدته خلال وباء كورونا. هذا الماراثون الليلي ما بين بيتي في فيكتوريا ومحطة ترام بولكي حيث بيت الطفولة، القوسان اللذان يضمان حياتي. كعادتي لا زلت أصفق أثناء السير، وألمس الأشياء من حولي، مجرد إيقاع كالإيقاع الموسيقي الذي كنا نضبطه بالأصابع في حجرات الموسيقى، حتى ينتظم الغناء الجماعي، وأيضًا كطرقات على أبواب لا مرئية. أصفر أحيانًا، أشير بسبابتي لمكان بعيد، ربما هو المكان نفسه الذي كنت أريد الوصول إليه من خلال المشي، والذي لم يتغير منذ بدأت هذه الرحلة.
المقتطفات من كتاب المشي فلسفة لفريديريك جرو، بترجمة سعيد بو كرامي- دار معنى للنشر والتوزيع- 2021