تسكن إخلاص (87 سنة) النيل منذ ولدت، ومنذ عشرون سنة عندما تهالك بيتها القديم غيرته بعوامة جديدة، لذا لم تفكر أبدًا أنه سيأتي عليها اليوم الذي تحزم فيه أمتعتها لتغادر النهر إلى الأبد.
في 20 يونيو/ حزيران الجاري، استلمت إخلاص إخطارًا من إدارة حماية النيل بالقاهرة الكبرى التابعة لوزارة الري والموارد المائية، بتحديد يوم 28 من نفس الشهر لإزالة عوامتها بدعوى أنها "بدون ترخيص"، تقول السيدة التي استقبلت المنصة في بيتها على نيل الزمالك، بينما يسد مدخله كراتين تضم أمتعتها "يرضي مين أحط حاجاتي كلها في كراتين وأتبهدل كده وأنا عندي 87 سنة".
أخطرت وزارة الري 32 عوامة سكنية، تم بالفعل إزالة ثلاث منها هذا الأسبوع، تردد أنه كان متحفظ عليها لأنها مملوكة لقيادات في جماعة الإخوان المسلمين، وفي تصريحات لمدير الإدارة المركزي لحماية نهر النيل في القاهرة الكبرى، أيمن أنور، قال إنه سيتم إزالة 15 عوامة يوم 28 من شهر يونيو الجاري وإزالة 4 عوامات أخرى يوم 4 يوليو/ تموز المقبل، بدعوى أنها غير مرخصة، وأن أصحابها يرفضون دفع المستحقات المالية التي تفرضها الدولة عليهم.
حق الدولة أم ليس من حقها؟
استلمت منار مجدي، جارة إخلاص، إخطارًا هي الأخرى يحمل التحذير نفسه بإزالة عوامتها التي تقيم فيها مع أسرتها، وعندما تواصلت مع جيرانها سكان العوامات الأخرى اكتشفت أنهم استلموا أيضًا خطابات بالمحتوى، تقول للمنصة إن القرار لا يترك لهم الوزارة أي فرصة للطعن عليه أو التفاوض بشأنه "ثمانية أيام فقط للتنفيذ، فلا مجال للطعن على القرار ولا فرصة للنقاش مع المسؤولين"، موضحة أن أصحاب العوامات لجؤوا إلى محكمة مجلس الدولة للطعن على القرار، مطالبين بوقف تنفيذه "لكن احنا عارفين إن مفيش محكمة هتفصل في طعن في أسبوع، خاصة أن عندنا جمعة وسبت المحكمة مش شغالة"، تضيف منار وصوتها يحمل مرارة من فوجئ بقرار ينزعه من مكانه دون سبب واضح.
وتنفي ساكنة النيل أنها تخلفت عن ترخيص عوامتها أو دفع ما يستحق عليها من مصاريف للدولة، مؤكدة أن اشترت العوامة التي تقيم فيها حاليا هي وعائلتها منذ 4 سنوات، وقبل أن تتم عملية الشراء، ذهبت إلى وزارة الري ومحافظة الجيزة، والجهتان أكدتا عدم وجود مشكلة في شراء العوامة شرط دفع المستحقات المالية التي تدفع سنويًا أثناء الترخيص، وتضيف "احنا ناس بتحب تدفع حق الدولة قبل ما تاخد حتى حقها، ومن أول ما اشترينا واحنا ملتزمين بدفع كل المستحقات، والتراخيص حتى قررت المحافظة وقف الترخيص".
في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2020، أصدر محافظ الجيزة اللواء أحمد راشد، قرارًا بإيقاف إصدار أى تراخيص جديدة للمطاعم والمراكب والمراسي النيلية والعوامات المتواجدة بطول شارع النيل لحين البت في مدى التزام تلك المنشآت بشروط التراخيص الممنوحة، وقال رئيس إدارة حماية النيل إنه "منذ قرار وقف تجديد التراخيص للعوامات السكنية أرسلنا إنذارات مسجلة بعلم الوصول لأصحابها بإخلائها استعدادًا لإزالتها".
لكن منار تؤكد للمنصة أنها ذهبت إلى محافظة الجيزة للسؤال عن أسباب وقف التراخيص، فأخبروها بأن هناك لجنة للبت في الجهة التي ستكون تابعة لها العوامات، سواء يستمر الوضع كما هو عليه أو تنقل إلى جهاز المشروعات التابع للقوات المسلحة، و"طالبونا بالانتظار حتى تقول اللجنة رأيها"، مضيفة "وقتها كان ذروة وباء كورونا والدنيا كلها كانت متلغبطة.. بس دا مش ذنبنا هما اللي وقفوا الترخيص وقالولنا هنقولكم لما يحصل بت بشأنها، ومحصلش وفوجئنا بقرار الإزالة". وأطلعتنا منار على آخر ترخيص حصلت عليه من محافظة الجيزة "رخصة ملاحة".
تشرح الروائية أهداف سويف، التي تمتلك عوامة نيلية ومهددة هي الأخرى بالإزالة، أن الإقامة في عوامة نيلية يستلزم الحصول على أكثر من رخصة، لافتة إلى أنه بالإضافة إلى رخصة الملاحة، "نحصل أيضًا على رخصة من وزارة الري، وندفع أموال لوزارة الزراعة نظير استغلال المساحة من الطريق للوصول إلى العوامة".
وتشير أهداف في تصريحات إلى المنصة إلى أنه "منذ 2013 وهناك زيادة مستمرة في قيمة التراخيص وكنا ندفع"، وتابعت أنه في عام 2017 أصدر وزير الري قرارًا باحتساب مساحة العوامة بالمتر المربع وليس بما تشغلها على النهر بالمتر كما كان الوضع قبل القرار، وهو ما نتج عنه تقييمات تعجيزية، حسب سويف التي تقول "وصل الترخيص إلى حوالي 70 ألف جنيه، وبالتالي أقمنا دعوى قضائية أمام مجلس الدولة ضد قرار الوزير ولم يتم الحكم فيها حتى الآن"، ولا تجد أهداف مثل منار إجابة على سؤال "لماذا تعتبرني غير مرخص ومخالف وأنت الذي رفضت تجديد الترخيص؟"، وتقول إخلاص إن موظفي الوزارة كانوا يتعاطفون معنا "بيقولي هنعمل إيه ياحاجة الموضوع أكبر مننا"، وتسأل "أنا مش عارف ليه يطردونا واحنا أصحاب حق، مش بيقولوا السيسي بيحب الناس الكبيرة وبيعطف عليهم".
الثلاث سيدات اللاتي تحدثوا مع المنصة يرون أن الحديث عن عدم تجديد التراخيص ورفض استلام الالتزامات المالية من المقيمن في العوامات مجرد مبررات لتنفيذ قرارات الإزالة.
استخدامات لا يمكن لفظ اسمها
في تصريحات تلفزيونية، قال مدير الإدارة المركزية لحماية نهر النيل في القاهرة الكبرى أيمن أنور، إن 70% من هذه العوامات غير سكنية، لافتًا إلى أنه يتم استخدامها في أغراض أخرى "أنا مش هقول الحاجات الخارجة، بتستخدم في حاجات معينة مقدرش أقولها"، في إشارة إلى استخدامات منافية للأداب.
حديث مسؤول الري أشار أيضًا إلى أن بعض العوامات السكنية تستخدم لأغراض تجارية، لكن منار تؤكد أن هذه العوامات مقار سكنية وليست "للنزهة"، تقول "هنا ناس اتولدت وعايشة في العوامات دي طول عمرها، في سيدات عجائز كانت بتخبي السلاح والفدائيين في عواماتها أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر"، وتضيف "جهاز مشروعات القوات المسلحة عدى علينا كذا مرة فجأة ولقانا متواجدين"، بينما تشير أهداف سويف إلى أنه كل فترة يمر عليهم موظفين من المحافظة ومن وزارة الري بشكل مفاجئ للتأكد من إقامتهم في العوامة و"يجدونا بالفعل مقيمين بها"، مضيفة "ساعات كمان بيجوا بلانش من النهر وساعات يجوا من على الشط وفي كل مرة بيتأكدوا من عدم مخالفتنا".
وترفض منار وأهداف تلميحات رئيس إدارة حماية نهر النيل إلى أن بعض العوامات تستخدم في استخدامات مخالفة أو غير قانونية، مطالبينه بتفسير تلك المخالفات والتعامل مع كل حالة على حدة، "إذا كانت هناك مخالفة، لماذا لا يتم التعامل مع صاحب العوامة؟" تقول منار، وتضيف "الآن هناك 29 عوامة، أعرف أصحاب 15 منها يقيمون بها بشكل مستقر، و14 آخرين غير قاطنين بها لظروف سفرهم خارج البلاد أو لأسباب أخرى، احنا جيران وعارفين بعض".
من بين ما قاله رئيس الإدارة المركزية لحماية النيل في القاهرة الكبرى، في إطار حملته ضد العوامات السكنية أنها "تلوث مياه النيل ويتم استخدامها في أنشطة وأمور تضر بالنهر، وأنها متهالكة وتشوه المظهر الجمالي للنيل"، تلك الصورة التي يحاول أنور تثبيتها عن العوامات السكنية ترفضها أهداف ومنار في حديثهما مع المنصة، وتؤكدان أنه بشهادة الجهات التي تصدر التراخيص نفسها "هذا كلام غير صحيح"، وقالت منار إنها لا تحصل على ترخيص إلا بعد تقرير من لجنة فنية تؤكد صلاحية العوامة وعدم خطورة الإقامة فيها، وتضيف "عشان أخد رخصة لازم أخد شهادة صلاحية، بيعاين مهندسين العوامات والدفاع المدنى بيعاين الأمن والسلامة والطفايات".
وتكمل "يمكن في عوامتين أو تلاتة حالتهم متهالكة ودول تقدر المحافظة أو الوزارة التنبيه عليهم بتجديدها أو التعامل معهم لكن باقي العوامات حالتها كويسة جدًا، وأصحابها مهتمين بيها لأنهم مقيمين بالفعل فيهم".
وتتعجب منار من حديث المسؤول في وزارة الري بأن العوامات "تلوث مياه النيل"، وتسأل عن نوعية التلوث الذي يحدث، وتضيف "كيف نلوث مياه النيل، الصرف الصحي للعوامة موصل بالصرف الصحي الرئيسي للشارع.. صرف الحكومة العادي"، وتتابع "إذا كنا نلوث مياه النيل فكيف كنا نحصل على التراخيص حتى 2020". بينما تؤكد إخلاص أنهم يحافظون على نظافة النيل ويساعدون في حمايته، وأشارت إلى مجموعة من الأوز تعوم حول عوامتها "الوز دا بتاعي أنا بربيه، مش بدبح منه حاجة، بيصعب عليَّ، الناس كانوا بيقفوا فوق الكوبري ويبصوا عليه ويتبسطوا".
ليس هناك غير الخسارة
لا يعد الطرد والإزالة الأزمتان الوحيدات اللتان يواجههما أصحاب العوامات، ولكن سيكون عليهم دفع غرامات باهظة لوزارة الري أيضًا رغم الخسارة. تقول منار إنه بعد استلامها قرار إزالة العوامة في 20 يونيو، فوجئت في اليوم التالي بمطالبة وزارة الري لها بدفع مبلغ 420 ألف جنيه، غرامة الرسو على النيل سنتين من دون ترخيص "سألت الموظفين، أنا ذنبي إيه إنتو اللي كنتوا موقفين التراخيص مش أنا اللي امتنعت عن الدفع، قالوا ملناش دعوة دا كان قرار محافظ الجيزة مش وزارة الري".
وتشير أهداف سويف إلى أن الغرامات كبيرة جدًا ومختلفة "في ناس جاي عليهم غرامات 750 ألف جنيه وناس عليهم مليون ونص، يعني هيزيلوا العوامات وكمان بيطالبوا الناس بدفع فلوس".
تؤكد أهداف ومنار أنه تم إبلاغهم من الموظفين بعدم وجود تعويض لهن بل ستكونا ملزمتين بدفع الغرامات، تقول منار إنه عندما حضر الموظفين "سألتهم هل هتنقلوا مكان العوامة لمكان آخر لأني أسكن فيها مع عائلتي (..) قالولي لا هناخد العوامة إلى مكان تبع وزارة الري، ويتم تخريدها وبيع ما بها كخردة… ويارب بس تمن الخردة دا يدفع الغرامات اللي عليكم، ولو مكفاش هنحجز على أموالكم في البنوك"، وتضيف منار "يعني هياخدوا عوامة ثمنها النهاردة فوق الـ15 مليون جنيه ومفيش تعويض كمان".
يؤكد أيمن أنور، رئيس إدارة حماية نهر النيل في تصريحاته التليفزيونية عدم وجود تعويضات لسكان العوامات النيلية، "دول مخالفين وموجودين بدون ترخيص، ومش عاوزين يدفعوا مستحقات الدولة.. دا في حجز على أموالهم في البنك كمان".
إنهم يرعون التجار
الغريب في رأي منار وأهداف أن قرار الإزالة مقتصر على العوامات السكنية فقط، مؤكدين أن هناك إزدواجية في التعامل مع النوعين المختلفين من العوامات "بالعكس مفروض العوامات السياحية والتجارية تكون هي المشكلة مش السكني"، ويؤكد أيمن أنور أن القرار بالفعل يشمل العوامات السكنية فقط، و"أنه لا علاقة له بالعوامات السياحية أو التجارية، احنا قننا وضعهم"، ويقترح أنور أن يقوم أصحاب العوامات السكنية المتضررين حاليًا بسحب عواماتهم والتوجه بها إلى الجهات المختصة ويغيرون نشاطها إلى تجاري إذا أرادوا استمرارها وعدم إزالتها"، وهو ما لم ترفضه منار وترى أنه غير مفهوم، مؤكدة أنها تريد الوقف الفوري لقرار الإزالة، وتدخل السلطات العليا في الدولة في هذا الملف "احنا ناس بنحب البلد.. ومحتاجين نعيش في أمان ومحدش يطردنا من أماكن سكنا خاصة وأننا ملتزمين وبندفع كل اللي علينا".
يبدو قرار تحويل النشاط من سكني إلى تجاري حلًا، لكنه رغم عبثيته ورغم ما سيدره من أعباء أخرى على أصحاب العوامات المهددة بالإزالة ورغم أنه غير منجز، لا يبدو يسيرًا على الجميع فإخلاص المرأة الوحيدة التي اقترب عمره من الـ90 سنة، التي عاشت حياتها كلها في النيل، ولا تعرف كيف تتصرف، لا تريد من الحياة سوى أن تتركها كما جاءت إليه من النيل "قولهم والنبي إن في ست عجوزة هتترمي في الشارع وملهاش مكان تروح فيه، قولهم إن كان نفسي أموت على النيل زي ما اتولدت عليه".