قد يبدو قرار تأجيل (أو إلغاء) الدورة السادسة من مهرجان الجونة السينمائي لعام 2022 مفاجئًا، لكن إرهاصاته التي ظهرت بوضوح منذ الدورة الماضية في 2021، جعلته كتتمة منطقية لسلسة من الاضطرابات، قد تضع كلمة النهاية لقصة محفل سيننمائي أحدث تأثيرًا إيجابي على الساحة الفنية العربية خلال سنوات قليلة.
مساء أمس الأحد، أعلنت الصفحة الرسمية للمهرجان على فيسبوك تأجيل انعقاد الدورة السادسة من المهرجان، التي كانت مقررة في الفترة بين الثالث عشر والثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، إلى العام المقبل من دون تحديد موعد لها، وعللت ذلك برغبتها في "تعزيز الدور الحيوي" الذي يلعبه المهرجان الجونة على المستويين الفني والسياحي، ورغم أن بيان المهرجان المقتضب لم يشر صراحة إلى الأسباب التي دعت إلى اتخاذ إدارته ذلك القرار، لكنه أشار ضمنيًا إلى تأثره بالمستجدات العالمية التي تحول دون انعقاده بالصورة اللائقة.
ويعاني الاقتصاد العالمي من تدهور لافت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات فيروس كورونا، التي أثرت سلبًا على الحركة التجارية والصناعية عمومًا، وقدرة بعض الدول على الإيفاء بحاجاتها الأساسية، لكن ثمة أسباب أخرى لم يشر إليه المهرجان في بيانه يبدو أنها ما أدت إلى تأجيل يتخوف البعض من أن يكون إيقافًا غير معلن لأجل غير مسمى.
فوضى في الجونة
بدأت تلك الأسباب تظهر منذ ختام دورة العام الماضي، باستقالة مديره الفني آنذاك، المخرج أمير رمسيس، ثم عودته المفاجئة للقاهرة دون حضور فعاليات الحفل الختامي وتوزيع الجوائز، وذلك بسبب خلافات إدارية وفنية بينه وبين باقي إدارة المهرجان وعلى رأسهم انتشال التميمي، مدير المهرجان.
وبعد استقالة رمسيس، تلقى المهرجان ضربة أخرى بمغادرة الفنانة بشرى إحدى مؤسساته، بمبررات فضفاضة مثل محاولة البحث عن تحديات جديدة في مسيرتها الفنية، لكن الأمر كان إشارة جديدة لتهاوي الحرس القديم للمهرجان دون ظهور أي علامات على وجود أفراد جدد يحملون تلك المسؤولية، حيث لم يعين مدير فني جديد على سبيل المثال.
اللافت للنظر أيضًا أن هاتان الخطوتان جاءتا قبل وقت قليل من إعلان انتشال التميمي، نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن تاريخ الدورات الثلاث الجديدة للمهرجان، أي السادسة والسابعة والثامنة، ما يوحي أن إدارة المهرجان كانت تعمل وفق خطة تضمن استمرار المهرجان لسنوات ثلاث قادمة على أقل تقدير، وهو ما عززه مشاركة وفد من المهرجان رأسه التميمي، في فعاليات الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي الدولي، التي انتهت فعالياتها الشهر الماضي، وهي خطوة تقدم عليه المهرجانات المحلية لبحث فرص الحصول على حقوق عرض الأفلام خلال فعالياتها، فعلى سبيل المثال تواجد مجموعة من مسؤولي مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وكذلك من مهرجان البحر الأحمر في المهرجان ذاته، وكلاهما المنافسان الأهم لمهرجان الجونة.
الأمر الذي يعني أنه حتى مايو/ أيار الماضي كانت الإدارة الفنية لمهرجان الجونة تعمل للتحضير للدورة القادمة، كذلك فإن المهرجان لم يتوقف رغم ظروف الحظر العالمية التي واكبت انتشار وباء كورنا خلال السنتين الماضيين، ورغم ما مثلته الجائحة من أخطار على الصحة العامة والاقتصاد العالمي، وهو ما يوحي في الوقت نفسه أن ذلك القرار جاء من مسؤولين "أعلى" منهم سلطة.
الوطن لا يتسع إلا لمهرجان واحد
ثمة إشارات كثيرة إلى أن قرار التأجيل الذي جاء على خلاف مسار عمل الإدارة، التي كانت تعمل وفق الظروف السياسية والاقتصادية نفسها، والتي لم يطرأ عليها أي جديد يذكر، إلى الأخوين ونجيب وسميح ساويرس، اللذان يمولان المهرجان السينمائي، حيث ربما تأثرت استثماراتهما بالمستجدات الاقتصادية إلى الحد الذي يعرقل عمل المهرجان.
غير أن مصيرًا آخر يلوح في الأفق هو ما يخشى أغلب المتابعين من وقوعه، فمهرجان الجونة السينمائي الذي أتاح فرصة كبيرة لكثير من المخرجين الشباب في المنطقة العربية، يشبه في تمويله وحجم ما كان يتيحه من مشاريع تدعم المخرجين الشباب، مهرجان دبي السينمائي، الذي استمر لأربعة عشر دورة، قبل أن يعلن في العام 2019 تأجيله، بنية إقامته كل عامين، من دون أن تعقد تلك الدورة المؤجلة حتى الآن، رغم مرور ثلاثة سنوات على ذلك القرار.
لا يعدم الأمر من مفارقة ملفتة، فمهرجان دبي حين أغلق أبوابه فجأة، فيما يشبه ما جرى مع مهرجان الجونة، كان مر عامين فقط على المهرجان المصري الذي أطلقته مدينة آل ساويرس الساحلية في عام 2017، وهاهي اليوم تعلن تأجيله إلى أجل لم تسمه، بعد عام واحد من انطلاق الدورة الأولى لمهرجان البحر الأحمر السينمائي التي انعقدت نهاية العام الماضي، وكأن المنطقة العربية لا يمكن أن تحظى بأكثر من مهرجان ذو تمويل ضخم.
خسارة فنية واحتفاء جماهيري
وسواءً صح ذلك الرابط بين توقف عمل المهرجانات العربية الضخمة بعد ظهور أخرى تماثلها من حيث الموارد، أو ثبت أنها مجرد مصادفة "محزنة"، فإن ردود الأفعال على تأجيل (أو إلغاء) دورة العام الحالي من مهرجان الجونة، جاءت شديدة التباين ولم تخلو من المفارقة أيضًا.
https://www.facebook.com/ElGounaFilmFestival/photos/a.267740450381624/1376549179500740/?type=3حيث شهد بيان إدارة المهرجان ردود فعل تباينت بين حزن على غياب هذه الفعالية السينمائية وسعادة شعبية تمثلت في ردود شامتة على انتهاء المهرجان الذي وٌصم طويلًا بأنه "مهرجان الفساتين" أو محفل "للعري" أو "المثير للجدل".
لكن غياب مهرجان الجونة، من دون شك سيلقي بأثر بالغ السلبية على المنتج السينمائي المصري ومتلقيه على السواء، فمهرجان مثله كان يقدم للمشاهد المصري، الذي لا يستطيع السفر لمتابعة المهرجانات العالمية بنفسه، الفرصة لمشاهدة أهم إصدارات العام على الشاشة الكبيرة، وهو ما أتاحه التنافس الذي جرى بين كل من مهرجاني الجونة والقاهرة، في السنوات الخمس السابقة للحصول على حقوق عرض أفلام مهرجانات كان وبرلين وفينيسيا وغيرها.
كذلك احتوى مهرجان الجونة على برامج متعددة ومحتلفة لدعم مشاريع الأفلام، سواء في مراحل قبل الإنتاج، أو ما بعده، كما أتاح لهم فرصة ضخمة للاحتكاك مع صناع أفلام وأشخاص فاعلين في الصناعة، مثل دعوته للمخرج العالمي دارين آرنوفسكي العام الماضي في ماستر كلاس امتد لأكثر من ساعتين.