لم يكتف النائب العربي بالكنيست الإسرائيلي، منصور عباس، بدعم وإنقاذ الائتلاف الحكومي الذي يقوده رئيس الوزراء نفتالي بينيت، ولا بتبنيه وإقراره قوانين عنصرية مررها برلمان الاحتلال لتقنين قمع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، ولا حتى بتماهيه مع سياسات وسرديات المشروع القومي الصهيوني، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما غض الطرف عن جريمة اغتيال قوات الاحتلال للزميلة الصحفية شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة في فلسطين، وما تبع ذلك من الاعتداء على جنازتها أمام أعين العالم.
سألته الزميلة رشا قنديل في برنامجها بلا قيود، المذاع على قناة بي بي سي عربي، قبل أيام عن اكتفاء القائمة العربية الموحدة التي يتزعمها بإدانة حادث الاغتيال دون أي إشارة إلى الفاعل، فأجاب عباس "حمَّلنا المسئولية لحكومة إسرائيل من باب أن كل الحالة هي حالة احتلال"، مشيرًا إلى أنه تواصل مع وزراء في حكومة بينيت للمطالبة بضرورة إجراء تحقيق في الحادث "خاصة أنه كان هناك محاولة لإيجاد أكثر من رواية".
منصور عباس يتحدث لـبي بي سي
الصهاينة العرب
رواية عباس وبيان قائمته التي تمثل الذراع السياسية للحركة الإسلامية الجنوبية، لا تختلف كثيرًا عن الطرح الإسرائيلي الذي تم تصديره للرأي العام في البداية كمحاولة للتمويه على حقيقة اغتيال جنود الاحتلال لأبو عاقلة، بالدعوة إلى تكوين لجنة تحقيق مشتركة مع الجانب الفلسطيني، وهي محاولة تراجعت عنها دولة الاحتلال بعد أن هزمتها شيرين وهي في نعشها وأجبرتها على البحث عن خدعة أخرى لتخفيف الضغوط الدولية.
عباس ورفاقه في الحركة الإسلامية الجنوبية، الذين انشقوا منتصف تسعينيات القرن الماضي عن الحركة الإسلامية الأم، التي كانت تعد جناحًا لحركة الإخوان المسلمين في الأراضي المحتلة، إثر خلاف على الاعتراف باتفاقيات أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ثم خلاف آخر على المشاركة في انتخابات الكنيست تصويتًا وترشيحًا، تماهو خلال الفترة الماضية مع اليمين الإسرائيلي المتشدد للدرجة التي جعلت البعض يصفهم بـ "الصهاينة العرب".
أنقذ عباس حكومة بينيت ومنحها فرصة جديدة بعد أن "سيَّح" تجميد عضويته في الائتلاف الحكومي وصوت هو ونواب قائمته صباح اغتيال أبو عاقلة ضد مقترح بحل الكنيست، وأكد في تصريح صحفي أن "القائمة العربية الموحدة ستبقى جزءًا من الائتلاف"، وبرر ذلك بأنه يسعى إلى الوصول لتفاهمات من أجل "تحسين المجتمع العربي الذي يئن تحت أزمات خطيرة أبرزها ظاهرة الجريمة المنظمة التي تسيطر على المدن والقرى العربية"، بحسب ادعائه في حواره مع بي بي سي عربي.
ودعا عباس إلى عدم تحميل قائمته تبعات احتلال 1967، و1948 ووعد بلفور "لا أدري المنطق في التعامل مع هذا الملف.. القائمة تقوم بدورها وتريد أن تحمي الوجود العربي في داخل دولة إسرائيل".
بالطبع لا يسعى عباس إلى حماية الوجود العربي داخل دولة الاحتلال كما يدعي، فجل مواقفه خلال الأعوام القليلة الماضية، تدعم فكرة أنه يعمل على "تذويب" المجتمع العربي في بوتقة القومية اليهودية التي تتبناها الأحزاب الإسرائيلية اليمنية المتشددة وطمس الهوية الفلسطينية.
النائب "الإسلامي" أيد قبل شهور قانون القومية العنصري، وكرر الكذبة التي يحاول الصهاينة تدويرها بأن إسرائيل "دولة يهودية وستبقى كذلك"، زاعمًا إلى أن نظرته تلك قائمة على "رؤية واقعية". وقال خلال مداخلته في مؤتمر إسرائيل للأعمال الذي نظمته صحيفة جلوبس في ديسمبر/كانون الثاني الماضي إن "دولة إسرائيل وُلدت كدولة يهودية وهكذا ستبقى.. نحن واقعيون. ولا أريد أن أوهم أي أحد.. والسؤال ليس ما هي هوية الدولة وإنما ما هي مكانة المواطن العربي فيها".
تصريحات عباس عن يهودية إسرائيل دفعت السلطة الفلسطينية إلى اتهامه بأنه ينتمي إلى تيار يعزز المشروع الاستعماري الصهيوني، "بدلًا من أن يدين الاستيطان وعمليات القتل والتهجير التي يرتكبها الاحتلال، ومخططات المتطرفين الإسرائيليين لتفريغ الأراضي الفلسطينية، نراه اليوم يكرر ما تروجه الحركة الصهيونية من أكاذيب لا تمت للتاريخ بصلة".
بعد أيام من تصريحاته عن يهودية إسرائيل ساهم عباس وقائمته في تمرير قانونين يسمحان لجيش الاحتلال بمشاركة الشرطة في قمع الأسرى الفلسطنيين في السجون، والسيطرة على الاحتجاجات التي يقوم بها عرب 1948 داخل الخط الأخضر، واقتحام بيوتهم دون إذن قضائي، كما وافق في وقت سابق على مقترح لتعزيز الميزانية العامة بأموال إضافية لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية وحماية المستوطنين.
آخر سقطاته التي تثبت انحيازه للمشروع الصهيوني كانت في فبراير/شباط الماضي عندما رفض استخدام تعبير الفصل العنصري "أبارتهيد" لوصف العلاقات بين اليهود والعرب في إسرائيل، وقال في مداخلته بندوة لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى على الإنترنت "لن أسمي ما يجري بالفصل العنصريّ"، مشيرًا إلى أنّه عضو في الائتلاف ويمكن أنْ ينضم إلى الحكومة نفسها إذا أراد ذلك، على حدّ تعبيره.
كان عباس يناقش مع المشاركين بتلك الندوة تقرير لمنظمة العفو الدولية اتهم إسرائيل بممارسة سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين "اتهامات مماثلة، لا تساعد في حل المشاكل.. هذه فرصة لنا لننظر فيما يحصل، ونتأمل في ما يُمكن إصلاحه".
الموت في جنين
مجلة إيكونوميست البريطانية أشارت في تقرير لها نشر قبل أيام إلى أن حادث اغتيال شيرين أبو عاقلة قد يهز الائتلاف الحكومي المأزوم بعد انسحاب نائبة من عضو حزب بينيت وهو ما أفقده الأغلبية بالكنيست.
تقرير موت في جنين، الذي نشرته المجلة توقع أن يطيح مقتل أبو عاقلة بالحكومة الإسرائيلية، لافتًا إلى أن الحادث وضع القائمة العربية الموحدة في حرج أمام جمهورها، وهو ما قد يدعوها إلى الانسحاب "بقاء الحزب الإسلامي في الائتلاف بعد مقتل أبو عاقلة أمرًا صعبًا".
لا يبدو في المدى المنظور أن عباس وقائمته يرغبون في الانسحاب من الائتلاف الحكومي، لم يفعلوها عندما تكررت الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى خلال شهر رمضان الماضي واكتفوا بـ"تجميد عضويتهم"، ولم يجرأوا على إعلانها بعد اغتيال شيرين أبو عاقلة، الأمر الذي تسبب لهم في وضع بالغ السوء أمام الرأي العام العربي في الداخل وفي باقي دول المنطقة.
تخشى الحركة الإسلامية من التوجه إلى انتخابات جديدة، فشعبية القائمة متراجعة وهو ما قد يؤدي إلى عدم تجاوزها نسبة الحسم التي تؤهلها لدخول الكنيست بحسب استطلاعات للرأي نشرتها وسائل إعلام عبرية خلال الأيام الماضية.
براجماتية عباس الرخيصة دفعته إلى البحث عن مكاسب سياسية ضيقة حتى ولو حساب المبادئ والثوابت ليس الفلسطينية أو العربية فحسب بل الإنسانية أيضًا، "ستكون لتجربة عباس العظيمة فرصة أفضل للنجاح إذا استمرت هذه الحكومة لفترة كافية لتمكين القائمة العربية الموحدة من تقديم مكاسب ملموسة للقاعدة الانتخابية للحزب"، تقول كاري كيلر لين المُراسلة السياسية لـتايمز أوف إسرائيل في تحليل منشور على الموقع قبل أيام.
ويتوقع مراقبون أن تؤدي مواقف عباس إلى تصاعد الأزمة الداخلية في الحركة الإسلامية الجنوبية، فتصريحات الرجل ومواقفه أصبحت عبئًا على الحركة التي مارس بعض أعضائها النضال المسلح "الجهاد" في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ضد الاحتلال.
موقف الحركة الأخير من حادث اغتيال أبو عاقلة سيخرج الغضب الداخلي المكتوم إلى العلن، وقد تصل الأمور إلى انشقاق قيادات تاريخية على الحركة اعتبر بعضهم أن مواقف عباس "خروج عن ثوابت الحركة وقناعتها الدينية والوطنية الراسخة" بحسب الشيخ إبراهيم صرصور الرئيس السابق للحركة الإسلامية الجنوبية، الذي دعا زميله عباس إلى الالتزام بتلك الثوابت نصًا وروحًا
مأزق الفرع الجنوبي للحركة الإسلامية يزداد عمقًا يومًا بعد الآخر، وتلوّن نواب الحركة ولعبهم على حبال الحكومة الإسرائيلية جعلهم هدفًا لهجوم كل الأطراف المعنية بالصراع، ففصائل المقاومة في غزة والضفة تتوعد وتهدد، والفرع الشمالي للحركة بقيادة الشيخ رائد صلاح يتبرأ ويغسل يديه من الرفاق السابقين، والمعارضة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتينياهو تحرض وتتهم حكومة بينيت بـ"الاستسلام والانبطاح أمام إخوان إسرائيل"، بحسب كلمة رئيس حزب الليكود في الكنيست صباح الاثنين الماضي.
يسعى عباس إلى نيل رضا الإسرائيليين حتى يظل هو وقائمته وحركته الإسلامية رقمًا في معادلة الحكم سواء استمر الائتلاف الحكومي بزعامة بينيت أو انهار وتم حل الكنيست وبدأت الترتيبات لانتخابات جديدة.
عباس ورفاقه في الحركة الإسلامية الجنوبية يحاولون تحقيق ما فشلت فيه إسرائيل منذ تأسيسها، وهو الفصل بين قضايا فلسطينيي الداخل وباقي الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والشتات، وضرب الثوابت الفلسطينية، وطمس وتذويب الهوية العربية التي صارع الفلسطينيون من أجل الحفاظ عليها على مدار أكثر من 7 عقود، معتبرًا أن أي حديث عن الحقوق فلسطين التاريخية ما هو إلا محاولة لـ"تقديس أفكار بالية وشعارات خرقاء لا تخدم مشروعًا ولا مجتمعًا وتحقق الهدف المعاكس".
لن تشفع لعباس وحركته مواقفهم "المتصهينة" فمهما قدموا من تنازلات وخدمات مجانية لدولة الاحتلال سيظلون "إرهابيين محتملين" في عيون الصهاينة الذين لا يؤمنون بالآخر ولا يقبلون بالأغيار.
فقد الرجل رصيده لدى مجتمعه العربي، ولن يكسب شيئًا يُذكر بتنكره لهويته وأبناء شعبه، ووضع نفسه وحركته في مأزق يزداد عمقًا يومًا بعد يوم.