في مارس/ آذار الماضي، بدأ عدد من السجناء والمحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا ذات خلفية سياسية إضرابًا عن الطعام، احتجاجًا على استمرار حرمانهم وحرمان ذويهم من أبسط الحقوق التي يكفلها الدستور والقانون ولائحة تنظيم السجون للمحتجزين، كملاذ أخير.
منذ ذلك الوقت، وعلى مدار شهر كامل، بدأ محامو وأسر السجناء المضربين في الحديث عمّا يتعرّض له موكلوهم وأبناؤهم من مضايقات دفعتهم لهذا "الموت البطيء"، على أمل حدوث أي تطورات أو مستجدّات إيجابية قد تحدث بناءً على هذا التحرك الذي يُعد هو أيضًا حقّ لهم، حسبما حكى بعضهم للمنصّة، وهم بين قلق وغضب على الغائبين.
حقوق غائبة
في 5 إبريل/ نيسان الجاري، تقدم المحامي خالد علي بثلاث بلاغات إلى النائب العام، لإثبات إضراب عن الطعام بدأه موكلاه أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح.
دومة، دارس القانون، والذي أضرب عن الطعام لقرابة أسبوع، هو مَن خرجت نداءات في الفترة الأخيرة للمطالبة بالإفراج الشرطي عنه، وذلك بعد أن قضى نصف المدة. وذلك على أمل تحقق طلبه الثاني في قبول أوراق ضمّه لنقابة المحامين للحصول على عضويتها، كما أقام دعوى في القضاء الإداري لتمكينه من دراسة الماجستير داخل السجن.
ليس كل مُضرب لا بد وأن يكون تعرّض لمشكلة أو اعتداء، فأحيانًا ما يكون الدافع إنساني بحت، وهو التضامن. وهذا ما كان في حالة الباحث أحمد سمير سنطاوي، حسبما أكد محاميه أحمد راغب، للمنصّة "وفقًا لما علمته، أحمد بدء إضرابه تضامنيًا مع أحمد دومة مثل سجناء آخرين. لكن ما أنا متأكد منه هو أنه لم يتعرض لاعتداء أو هناك مشكلة دفعته للأمر".
ويقول راغب عن الإضرابات التضامنية إنها "غالبًا ما تكون على مراحل، منها يومين أو أسبوع ثم يتم إنهاء الإضراب". وهذا بالفعل ما حدث مع سنطاوي، الذي بدأ إضرابه عن الطعام اعتبارًا من 28 مارس، لينهيه ودومة يوم 6 أبريل.
سنطاوي هو المقبوض عليه في فبراير/ شباط 2021. أثناء عودته للقاهرة في إجازة من النمسا حيث يدرس الماجستير في ملف لا علاقة له بالسياسة، وهو عن "تحريم الإجهاض في مصر". ليجد نفسه بعد ذلك، في دوامات الحبس والتجديد في أكثر من قضية، حتى صدر بحقّه حكم في 22 يونيو/ حزيران الماضي، بحبسه أربع سنوات وتغريمه 500 جنيه، ليبدأ إضرابًا عن الطعام استمر فيه شهرًا كاملاً، ثم أنهاه مثلما فعل الآن ودومة، قبل أن يتم إلغاء الحكم في فبراير 2022 لتبدأ إعادة محاكمته.
سنطاوي ودومة ليسا وحدهما مَن أقدما على هذه الخطوة الاحتجاجية، فمثلهما آخرين ما زالا يواصلان إضرابهما عن الطعام منذ مارس، وهما الصحفي هشام فؤاد، أحد سجناء "خلية الأمل"، والذي يكرر الآن ما فعله في يوليو/ تموز 2021، حين أضرب لمدة 12 يومًا احتجاجًا على استمرار حبسه احتياطيًا لأكثر من عامين؛ لتقضي بعدها محكمة جنح أمن الدولة طوارئ في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حكمًا بحبسه 4 سنوات في قضية أخرى رآها حقوقيون "منسوخة من تلك الأصلية المعروفة إعلاميًا بـ(خلية الأمل)"، والتي يرافقه فيها أيضًا المحامي والبرلماني السابق زياد العليمي، والمحكوم عليه بالسجن 5 سنوات.
زياد كان مع فؤاد ليس فقط في القضية، لكن أيضًا في خطوة الإضراب، وذلك منذ 28 مارس، ليتبعه بإضراب عن الطعام والشراب يوم 30 مارس، حسبما كشفت أسرته، ثم أنهاه في 3 إبريل، بعد أن ساءت حالته الصحية وهو الذي يُعاني أمراض منها الربو، وارتفاع ضغط الدم، بخلاف إصابته خلال فترة احتجازه بارتشاح في القلب.
أما زميلهم علاء عبد الفتاح، ففي إضرابه المفتوح عن الطعام الذي بدأه مع بداية شهر رمضان، وأعلنت عنه شقيقته منى سيف بعد زيارتها له، فرفض بسببه تسلّم الطعام، ودونهما الأدوية وأشياء النظافة والشاي فقط. ووصلت أخباره إلى تقارير في وسائل إعلام دولية.
وعلاء هو الذي يقضي عقوبة الحبس 5 سنوات في اتهامه بـ"نشر أخبار كاذبة" بموجب حكم صدر ضده في ديسمبر/ كانون الأول 2021، علمًا بأنه موقوف منذ 2019، بعد الإفراج عنه ببضعة شهور، حيث قبض عليه في العام 2013، وحُكم عليه بالسجن 5 سنوات.
جميع هؤلاء الذين أضربوا عن الطعام، سبقهم رفيق السجن طارق عبد الرحمن (موكا)، الذي بدأه وأعلن عنه يوم 14 فبراير الماضي خلال جلسة تجديد حبسه، وما زال مستمرًا فيه حتى الآن ولمدة قاربت شهرين، وفقًا لما أعلنته أسرته.
وموكا، الإضراب عن الطعام هو حيلته الوحيدة في الزنزانة، وقد سبق وأن لجأ إليه في ديسمبر 2020، ولمدة خمسين يومًا، حين كان حبيس قسم عابدين وتم إعلامه بتدويره للمرّة الثالثة على ذمة قضية جديدة، وكانت للقضية رقم 1056 لسنة 2020، باتهامات "الانضمام لجماعة إرهابية، وتمويل الإرهاب".
الآن، ووفقًا للأسرة ومحاميه "تم التعدي بالضرب على موكا لرفضه تسلّم التعيين (وجبة الطعام الميري) لأنه مضرب عن الطعام"؛ ثم بلغ الأمر بمرور الأيام تحويله إلى مستشفى السجن بسبب سوء حالته.
لكن سوء الحالة الصحية لموكا ورفاقه، ربما يهون، طالما أن الإضراب هو كلمة "لا" الوحيدة الممكن قولها في وجه سلطة يشكون مرارًا من إساءة معاملتها لهم، أو تحرمهم من حقوق لا تتعدى أمورًا بسيطة، مثل عدم التضييق في الزيارة، السماح لهم بالتريّض، السماح بدخول كتب، السماح بدخول مكتبة السجن. وهي جميعها ومعها حقوق أخرى مكفولة قانونًا لهم.
لكن، أحيانًا ما يكون للسلطات رأي آخر، تفرضه على السجناء.
ثمن الاحتجاج
قبل أعوام من موجة الإضراب الحالية عن الطعام، شهدت زنازين السلطة حالة إضراب أخرى، عايشها وشارك فيها سعيًا خلف أبسط حقوقه الصحفي أحمد جمال زيادة، والذي عُرِفَ آنذاك بـ"معتقل الكاميرا".
زيادة، الذي رحل عن مصر بعد إطلاق سراحه، حكى للمنصّة عن تفاصيل تلك الأيام، وما كان فيها من إضراب عن الطعام اختبره مرتين، عن أولاهما يقول "كانت حوالي 12 يوم تقريبًا، ولمطالب داخلية جوه السجن. وأذكر من اللي كان معايا عضو سابق في حركة 6 أبريل، ومجموعة من سجناء الإخوان".
لم يمرّ الأمر على زيادة مرور الكرام، إذ نال عقابًا بسبب إضرابه "وقتها مباحث السجن اعتبرتني من المُحرّضين؛ وتم وضعي في التأديب. لكن اللي تم إعلانه وقتها إن ده بسبب شغب مني وامتناع عن دخول الزنزانة. وبعدها المجموعة مكمّلتش؛ ففكيت الإضراب لأني حسيت إن مفيش دعم، خاصة إن الإخوان اللي كانوا مضربين معايا حصل تفاهم بينهم وبين مباحث السجن وفكّوا الإضراب".
في ذلك الوقت، ظن الإخوان أنهم نجوا، وأفلتوا مما طال زيادة من عقاب. لكنهم وبعد التفاهم والمواءمة والتنازل عن موقف كان مفترضًا أنه موحّد ومعلن وجماعي. لاقوا المصير نفسه، بحسب زيادة "بعد كده مفيش حاجة من التفاهم والاتفاق اللي كان بينهم وبين الضباط اتنفذ. بل كمان تم وضع بعض منهم في التأديب".
وفي 2014، تكرر إضراب أحمد، لمرّة ثانية بدأت في أغسطس/ آب، وطال أمدها ووقف فيها وحيدًا، احتجاجًا على استمرار حبسه احتياطيًا والذي كان وقتها بلغ تسعة شهور، ويسترجعه الآن "دي استمريت فيها لأكتر من 3 شهور. لأني كنت مُصمم إمّا أحقق مطالبي أو أموت. لكن اللي دفعني لفك الإضراب كانت رسالة من دكتورة عايدة سيف الدولة، بتعبّر فيها عن قلقها عليا؛ فتأثرت وأنهيت الإضراب".
انتهى الإضراب، وكان لرسالة الطبيبة أثر في نفس الشاب الذي صمد أمام ما تعرّض له من "تكديرات وضغوط" خلال فترة إضرابه "فعلاً وقتها مارسوا ضغط عليا بمنع الزيارة عني لمدة شهر كامل".
والتكديرات لم يتعرض لها الصحفي بصورة استثنائية، فحسبما وثّقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في تقرير أصدرته عام 2014 في إطار حملة عن إضراب السجناء عن الطعام، بعنوان "جوعى للعدالة"، كان من ضمن التهديدات "تحذير المضربين من الموت دون تحقيق أهدافهم".
وهو ما ضربت المبادرة مثالاً عليه بـ"تحذير مسؤول من وزارة الداخلية في سبتمبر محمد سلطان، من أنه سيذهب سريعًا طي النسيان عندما ينهي بقية النشطاء البارزين إضراباتهم"، كما طُلب منه إنهاء الإضراب عن الطعام أو التوقف عن شرب الماء "حتى تموت وتريحنا"، حسبما وثّقت للمسؤولين القائلين.
في ذلك العام، أضرب سلطان وسناء سيف وزيادة وغيرهم. وبعدهم، في 2016، أضرب سجناء "جمعة الأرض"، مَن قالوا لا في وجه إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية؛ والتي تنازلت مصر بموجبها عن سيادتها عن جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة.
والآن، يضرب سجناء آخرين. والأسباب معروفة لزيادة، الذي يعددها قائلًا "أكتر التكديرات شيوعًا، واللي بتدفع السجين للإضراب بتكون التجديد، يعني السجين مابيبقاش عارف ولا فاهم هو محبوس ليه، وبيبقى عايز ينزل محاكمة. وتاني سبب التضييق".
والتضييق هنا لا يقصده الصحفي في المعاملة فقط، بل وبمعناه الحرفي، فيقول "يعني فاكر في مرّة إن حصل وتم وضع سجناء أربع أدوار في دور واحد. فالناس بتكون فاقدة الأمل في كل حاجة، بس بتحاول توصل لأي مكسب"، ويتابع أسباب الإضرابات قائلاً "التريض. كان مثلاً بالنسبة لنا في أبو زعبل بيكون في طرقة صغيرة بين 3 زنازين، وكل اللي نفسك فيه إنك تنزل تتمشى شوية في حوش تحت".
مكاسب بسيطة
ربما تبدو مطالب زيادة ورفاقه بسيطة، لكن ما هو أبسط منها مطالب فئة أخرى، لا تحظى في إضرابها بالاهتمام نفسه الذي يناله السياسيون، وهي فئة السجناء الجنائيين، والذين يذكرهم الآن ويحكي عنهم قائلاً "كانوا بيصعبوا عليا جدًا، لأن للأسف مفيش تعاطف ولا تركيز معاهم، مع إن فيه منهم اللي كان ممكن وهو بيضرب عن الطعام والشراب بيخيط فمه. وده مع العلم إن طلباتهم بتكون بسيطة تمامًا وخاصة بالحياة داخل السجن".
ومن هذا المطالب، ما يذكره كمثال "يعني فاكر مرّة واحد فيهم أضرب لأنه عايز يتنقل لزنزانة تانية. ومن مطالبهم بتكون دخول دواء أو أي حق بسيط جوه السجن أو الاحتجاج على التعرض للاعتداء".
لهذا، وأمام رفض مثل هذه المطالب، ورغم تأثر صحته بما حدث، هناك قليل من المكاسب من إضراب زيادة، وإن كانت رمزية حسبما يذكر "ماحصلش أي تأثير على مسار القضية أو خرجت. إنما فاكر إن المجلس القومي لحقوق الإنسان زارني واعترف في تقرير ليه، ولأول مرّة، إن فيه تعذيب في السجون، لأن حصل اعتداء بدني عليا في المرّة الأولى".
وهذا ما يجعل زيادة يرى تأثيرًا ولو بسيطًا للإضراب "هو على الأقل سلطة السجن بيكون الموضوع بالنسبة لهم مُقلق. لأني لو أنا كمضرب مُت؛ هيكونوا هما مسؤولين. فكانوا بيتكلموا معايا ويضغطوا لإنهاء الإضراب، بحوار إني صحفي وماينفعش أعمل كده، وبتخويف من إني بسبب الإضراب ممكن اتعامل قدام المحكمة باعتباري سياسي، وأنا صحفي وماليش في السياسة".
الحوار موجود، لكن أيضًا بمنطق العصا والجزرة، كان للسلطات وسائلها في التعامل مع المُضرب زيادة "وأحيانًا كان بيتم تهديدي إن الإضراب لو لم ينته؛ هيتم وضعي في الحبس الانفرادي، وإنه هيكون بدعوى الحجر الصحي".
لكن السجين السابق ينفي وجود هذا الأمر تمامًا "هو مفيش متابعة صحية ولا حاجة أساسًا، وأنا عارف إن ده تنكيل. وخلال فترة الإضراب حصل مرّة واحدة بس إني اتعلق لي محاليل لأني اتعرّضت للإغماء".
تهديد للحياة
الدكتورة عايدة سيف الدولة، الطبيبة والعضو المؤسس في مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، هي مَن حثّت زيادة على فك إضرابه عن الطعام ونجحت بالاهتمام والخوف فيما لم تنجح فيه السلطة بالتهديد والقسوة، وهي أيضًا مَن تشرح آثار الإضراب عن الطعام على الجسد، والتي قد تتخطى مُجرد الإغماء الذي تعرّض له الصحفي والسجين السابق، وتقول "اللي بيحصل إن الجسم بيبدأ يستهلك من مخزونة. الأول الدهون، واللي بيطلع من العملية دي مركبات، ممكن تبقى خطيرة بالنسبة للشخص لو كان مريض سكر".
وتضيف للمنصّة "الخطر بعد كده، إن الجسم بيبدأ يستهلك بحرق الجلوكوز، أولاً من الدهون ثم من الأنسجة. بمعنى مُبسّط الجسم بيبدأ ياكل في نفسه.وطبعًا الخطر بيبقى أكبر لو كان الإضراب كمان عن الشراب، لأنه بكده بيبقى بيواجه خطر الجفاف".
يتّسق كلام سيف الدولة مع ما يذكره موقع ويب طب، عن تبعات الإضراب عن الطعام، والتي يقسّمها زمنيًا، فما يحدث "بعد 3 أسابيع، هلوسة وخرف نتيجة لبدء تضرر الدماغ. وبعد 4 أسابيع، تدمر خلايا العضلات، نتيجة لاستهلاك البروتين كنوع من أنواع الطاقة بالجسم بعد الانتهاء من مخزون الدهون. وكذلك تُصاب العظام بالضعف بسبب استغلال كافة مخزون الجلايكوجن بالعضلات، والانتقال إلى البروتين نفسه".
ويتابع الموقع "بعد 4 إلى 5 أسابيع من الإضراب عن الطعام، يكون هناك احتمالية حدوث ضرر دائم في الدماغ، والذي يتغذى على الجلوكوز الذي أصبح غير موجود، إلى جانب نقص المعادن اللازمة لعمل الأعصاب والدهون الضرورية لانتقال سيلان الأعصاب".
ومن بين المخاطر أيضًا "احتمالية حدوث ضرر دائم لأعضاء الجسم الداخلية، لعدم وجود الطاقة والجلوكوز والمعادن الضرورية لعمل الأعضاء، كما استغل الجسم جميع الدهون وكسر جزيئات البروتين لاستخدامها كمصدر للطاقة، ثم فشل محتمل في عمل أعضاء الجسم الداخلية بعد تضررها. وأخيرًا الموت".
والموت خطر وارد في الإضراب، وربما أشهر الحالات التي وقع فيها كان في "إضراب الوَسَخ" الذي شهدته أيرلندا في ثمانينيات القرن الماضي، احتجاجًا على معاملة السلطات البريطانية لمعتقلين سياسيين أيرلنديين.
.. ومسؤولية ضائعة
أمام هذه المخاطر، لم يضع المشرّع المصري أي مواد في لائحة السجون أو مراسيم وزارة الداخلية المتعلقة بإجراءات السجون تتصدى لقضية الإضراب. بل إنه وفي حالة الوفاة، لا توجد مسؤولية تُذكر على السجن وإدارته، وفقًا لراغب، والذي كان محاميًا لدومه في إحدى فترات سجنه التي أقدم فيها على واحدة من إضراباته عن الطعام، ويقول "مفيش في الموضوع أكتر من تقديم الرعاية من الجهة المسؤولة عن السجن. ولو حصل له حاجة يسعفوه. إنما حتى لو حصلت وفاة، فهنا بيكون الأمر بأكمله مسؤولية السجين المُضرب".
ويضيف "لكن، لا يوجد أي شيء يُدين إدارة السجن. بل إنه حتى في حالة الانتحار، المسؤولية تكون على المُنتحر، ولو حدث وكان هناك تحقيق في الأمر، فقد يكون في واقعة إهمال للتعرف على كيفية دخول أدوات الانتحار إلى زنزانته، لكن لا إدانة للسجن ولا إدارته".
أما هذه الرعاية الطبية الواجبة للسجين، فوفقًا لما ذكرته المبادرة في منشورها السابق، فإن التشريعات واللوائح المتعلقة بالسجون، نصّت على أن "من مسؤولية أطباء السجن تقديم العلاج والرعاية الطبية للسجناء".
وعن هذه الرعاية، تقول سيف الدولة "الاهتمام بالمُضرب لازم يكون من أول يوم، بمتابعة حالته الصحية من مستوى السكر والضغط والجفاف. والحالة الذهنية الخاصة بيه، بصورة منتظمة. لأن ممكن مايكونش مقاومة قد من إنه قرار من السجين المُضرب بالانتحار البطيء".
تتحدث الطبيبة عن الانتحار، وفي ذهنها أحد المضربين، وتذكره كمثال "وده (الانتحار) اللي أنا شاكة إنه موقف موكا. خاصة وإنه حاول ينتحر قبل كده. لأن وجوده في السجن عبثي. وعرفت إنه كمان رافض يستقبل زيارات.. فلو مقاومة، كان هيحتاج مقاومة ودعم، إنما هو رافض الزيارة، وسمعت إنه دخل المستشفى".
ما تحكيه سيف الدولة عن حالة موكا، يتماشى مع ما ورد في صفحة على فيسبوك تحمل اسم "الحرية لعبد الرحمن طارق (موكا)"، والتي كتبت يوم 29 مارس الماضي، الموافق اليوم 44 لإضرابه عن الطعام "عبدالرحمن محضرش الجلسة النهاردة وزمايله في القفص قالو انه كان جاي على كرسي بعجل ورجعوه لأن حالته الصحية لا تسمح وعلقوله محاليل".
ولهذا تنصح الطبيبة وتقول "فلازم يكون فيه نصايح طبية للمُضرب من طبيب السجن، ويلفت نظره للخطر المحتمل من الإضراب، ويفهّمه رفض الأكل أو الشرب أو المحاليل هيترتب عليه إيه"، مؤكدة أن الضغط غير وارد، وأنه "في كل الأحوال، الطبيب دوره النصح والمعلومات، والقرار الأخير للمُضرب".
مثلها، تُعارض اللجنة الدولية للصليب الأحمر الإطعام أو العلاج القسري للمضربين عن الطعام، وذلك لأنه "من الضروري احترام خيارات المحتجزين والحفاظ على كرامتهم الإنسانية"، مُشيرة إلى أن موقفها "يتفق بشكل وثيق مع موقف الجمعية الطبية العالمية والمعلن عنه في إعلاني مالطا وطوكيو المنقحين في سنة 2006".
هكذا، وبمراعاة للأمانة المهنية، تشدد المؤسسات الدولية على عدم إجبار السجين المُضرب على تناول الطعام، وتقول سيف الدولة أيضًا "مش من حقي كطبيب، بأي صورة، إني أجبره على فك الإضراب. وأصح تعامل معاه، هو التعرّف على أسباب إضرابه، وتحقيق مطالبه".
ما باليد
رفض الإطعام القسري، موقف يتبناه أيضًا المحامي مختار منير، ويقول عنه للمنصّة "ده طبعًا مرفوض، لأنه بيعدّ انتهاك لهذا الحق في الاحتجاج، ويُعدّ اعتداء على الجسد وانتهاك لحرمته"، مُشيرًا إلى أن الواجب على المحامي فعله هو "تحرير محضر. لإثبات إضراب السجين عن الطعام؛ بحيث تودعه إدارة السجن في إحدى المستشفيات لتلقّي الرعاية".
ومثله أيضًا المحامي أحمد راغب، الذي يقول عن هذا الأمر "الإضراب عن الطعام هو طريقة احتجاج سلمية معروفة في كل العالم، وإن اختلفت من زمن لآخر ومن بلد لآخر. ولا يوجد لها قواعد معينة، قانونية أو غيرها".
ويرى راغب أيضًا أن عدم فرض موقف على المُضرب لا يجب أن يحدث لا من السلطة ولا الطبيب ولا حتى محاميه، قائلًا "بالنسبة لي، الإضراب قرار الشخص وليس للمحامي سلطة أو حق اتخاذ القرار فيه نيابة عنه. فهو معناه أن الشخص وصل لمرحلة من اليأس والعجز عن إنه ينال حقوقه بالطريقة الطبيعية؛ فبيقرر ينهي حياته".
ويتابع "هنا، الواجب عليّا إنسانيًا إني أنصحه بأنه يوقف الإضراب حفاظًا على حياته. لكن في النهاية التقدير والقرار الأخير بيكون ليه. والمحامي محظور عليه بأي صورة التدخل في القرار، سواء بإنه يقول له إضرب أو فك الإضراب".
أما محمد عيسى، المحامي بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فيُقدم حيثيات وأسانيد لدعم هذا الحق وعدم انتهاكه، قائلاً "الإضراب حق لا يحتاج مادة قانونية لتنظيمه، لأن الأصل في الأمور هو الإباحة. كما أن الشخص المُضرب لا يضر أحدًا، والمفترض أن يكون ردّ الفعل على قراره هذا هو التحقيق في أسبابه".
ويضيف للمنصّة "ونحن كمحامين، حين يحدث إضراب عن الطعام بأي صورة، نثبت هذا في جلسة المحكمة أو النيابة ونطالب بالتحقيق في أسبابه".
ورغم هذا الضمانات المفترضة، إلاّ أن زيادة يستعيد ما مرّ به من إحباط، ويقول "أنا كنت بشتكي وبكتب مقالات. وكانت بالنسبة لي شكاوى للمواطنين. لأن في النهاية المحامين للأسف بيقدموا بلاغات للنيابة بخصوص شكاوينا، وفي النهاية ما باليد حيلة أكثر من كده".
ويُضيف "أنا كمان يمكن كنت في أيام محظوظ فيها شوية. والضباط كانوا بيحترموا ردود فعلي وبيقلقوا منها. وده ما ينفيش إن كان فيه تضييق عليا، بإنه بيتم تفتيشي بصورة مُشددة، بحيث لا يتم إخراج مقالات أنا كاتبها".
.. والكلمة للسلطة
تتحدث لائحة السجون وقوانينها عن رعاية طبية لم يحظ بها زيادة وغيره، إذ أنها غير مضمونة حتى نظريًا وبالأوراق، حسبما كشفت المبادرة المصرية، وذلك لأنه "مسموح باعتراض المدير العام للسجن أو من ينوب عنه على قرارات الأطباءـ بما فيها التي تنصح بنقل السجناء إلى مستشفيات لتلقي العلاج"، بقوة القانون 79 لسنة 1961 بشأن الإجراءات الداخلية للسجون.
التشريعات التي جعلت اليد العُليا للسلطة، حتى في الأمور المتخصصة المتعلّقة بالصحة، هي نفسها التي لم تأت على ذكر الإضراب، والذي يُعرّفه المحامي مختار منير، بقوله "هو أمر حقوقي كوسيلة للاعتراض. ولا توجد نصوص قانونية تنظّمه. فهو طريقة سلمية للتعبير عن الرأي"، مُستدركًا "لكن وبشكل مباشر، يكفل القانون حماية لهذا الأمر بهذا المحضر الرسمي، لأن الشخص الذي يقوم به يعرّض حياته للخطر. وهو الأمر الذي أسميه من زمان (موت بطيء)".
ويتابع منير أنه بخلاف المحضر، الذي يكون البت فيه قرار بيد السلطة، هناك أيضًا "الشكوى" من هذا الأمر (الإضراب) وأسبابه، موضحًا أنها "تكون ببلاغ للنيابة العامة".
ورغم ذلك يعترف المحامي بما في الأمر من مصاعب بقوله "لكننا في الواقع نكون أمام شخص أنت غير متمكن من متابعة حالته بصورة منتظمة، وتجهل تطوراتها، كما أن الإجراءات تأخذ وقتها"، مُعلّقًا "لهذا؛ فالأولى من وجود قانون أو قواعد لتنظيم الإضراب، هو النظر فورًا فيما دفع الشخص له، والتحقيق الكامل في أسبابه، والعمل على تحقيق مطالبه وتحسين أوضاعه".
من بين الضمانات أيضًا، ما ذكرها المحامي بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، محمد عيسى، قائلاً "المفترض مع بدء الإضراب عن الطعام، يتم تقديم طلب لإدارة السجن لتوفير الرعاية الصحية للمُضرِب. وفي حال عدم استجابتها؛ نقدم الطلب للنيابة التابع لها السجن".
ويضيف عيسى "خاصة وأنه محبوس احتياطيًا، أي بريء حتى تثبت إدانته، وله حقوقه الواجب ضمانها من قرائة ومراسلة وزيارة وتريض وغيرها. لأنه من المفترض أنه محبوس كإجراء احترازي خوفًا من هربه، وليس لتكديره. بل وحتى في حالة السجين المحكوم عليه، لا بد وأن تتخذ إدارة السجن الإجراء نفسه برعايته، وضمان حقوقه التي أضرب للحصول عليها".
الحقوق يفترض أنها مكفولة ومضمونة، وفقًا للمحامين ومنهم عيسى، الذي يؤكد ورودها في كثير من الوثائق الرسمية المصرية "تم تنظيم كل شيئ. فالدستور تحدث عن السجن باعتباره تأهيل، ولائحة السجون تضم حقوق عظيمة، بلغت حد تأسيس السجين غرفة على حسابه الشخصي. بل إنهم فيها لغوا كلمة محبوس أو سجين وسمّوه زائر". ويستدرك المحامي "لكن، للأسف، تطبيق مثل هذه الحقوق والموافقة على ما يطلبه السجين أحيانًا ما يخضع لسلطات تقديرية".
لهذا، وأمام هذه التقديرات، يضرب السجناء، وتتعدد تساؤلات أحد رفاقهم السابقين، زيادة، الذي تحدّث أيضًا بمنطق عيسى عن حقوق السجناء، مخاطبًا السلطات بأحد أسئلته، قائلًا "إذن، لو إنت بتقول إن السجن تأديب، ليه بيتم التعامل مع السجين بصورة بتدفع النزيل أو الزائر للإضراب؟".