شهر على بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وهي جملة كان مستبعد الوصول إليها، إذ كان يعتقد النظام الروسي، وكثير من المتابعين للوضع أن تنتهي الحرب خلال أيام، لكن المفاجأة كانت في فشل الجيش الروسي في حسم الحرب، بل يمكن القول إنه، حتى الآن، لم يحقق أي من أهدافه العسكرية، التي كان على رأسها السيطرة على المدن الكبرى، بما فيها العاصمة كييف، والتي كان يتوقع دخولها بسهولة، ولم تدخل القوات الروسية إلا مدينة خيرسون المطلة على البحر الأسود، وتتعرض فيها إلى هجمات بالإضافة إلى المظاهرات التي خرجت رافضة للاحتلال الروسي للمدينة.
وحتى جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، المعلنتان من جانب واحد، التي تقول روسيا إنهما منحازتان لها حتى من قبل الحرب، لم تستطع القوات الروسية الوصول إلى حدودهما الإدارية التي كانت قبل أحداث 2014، وتتعرض إلى هجوم من جانب الجيش الأوكراني والجماعات القومية كل فترة.
وتحول الجيش الروسي إلى استراتيجية حصار المدن الكبرى واستخدام الطيران لدكها، كما يفعل حاليًا مع مدن شرق وشمال شرق وجنوب أوكرانيا. في وقت تتزايد مأساة المدنيين مع تكثيف هذا القصف الجوي وارتفاع عدد المهجرين والنازحين، إذ سجلت الأمم المتحدة ترك 10 ملايين شخص منازلهم، بينهم أكثر من 3.5 مليون شخص هربوا من أوكرانيا إلى دول الجوار.
الفشل العسكري
سواء كان ذلك بسبب ما تسوقه روسيا بأنها تحاول تجنيب المدنيين الحرب، أو بسبب سوء تقدير الجانب الروسي للقوات الأوكرانية ومقاومتها، يبقى في النهاية أن روسيا حتى الآن، وبعد مرور شهر كامل من العمليات العسكرية لم تستطع تحقيق أي من أهدافها العسكرية، بل تصاعد الحديث عن فشل كبير للجيش الذي يصنف باعتباره ثاني أقوى جيوش العالم في هذه الحرب.
ورغم المبالغة في تصريحات كل من طرفي الحرب في تقدير خسائر الطرف الآخر، كان تقرير صحيفة كومسومولسكايا برافدا الروسية والمؤيدة للحكومة مفاجئًا، إذ أفادت بمقتل 9861 جنديًا روسيًا وإصابة أكثر من 16 ألفًا آخرين منذ بداية الحرب مع أوكرانيا، في 24 فبراير/ شباط.
وسرعان ما حذفت الصحيفة التقرير، ولم تعلن وزارة الدفاع الروسية الروسية عن خسائرها في الحرب، بشكل منتظم، والمرة الوحيدة التي تحدثت فيها عن خسائر كانت في بداية مارس/ أذار الجاري، وقالت وقتها إنها خسرت نحو 500 جندي في المعارك.
لكن وسائل الإعلام الغربية والأمريكية استغلت ما نشرته الصحيفة الروسية في تأكيد معلوماتها أن الجيش الروسي يعاني خسائر بشرية كبيرة.
وبشكل عام، لا يحق سوى لوزارة الدفاع الروسية إعلان الخسائر البشرية في صفوف قواتها، وفي المقابل يبدو أن ثمة أزمة حقيقية، خاصة مع الحديث عن مقتل جنرالات كبار في الجيش الروسي، ففي الوقت الذي تقول أوكرانيا فيه إنها قتلت نحو خمسة جنرالات كبار في الجيش الروسي لم تعلق روسيا، وفي 19 مارس أعلنت عبر شبكة الإذاعة والتلفزيون الروسية الحكومية GTRK مقتل العقيد سيرجي سوخاريف، قائد فوج الهجوم بالمظلات التابع للحرس الوطني رقم 331.
على أي حال، وبعيدًا عن الدعاية من جانب طرفي المعركة يبدو أن الجيش الروسي في أزمة حقيقية عنوانها فشله في السيطرة على الوضع رغم مرور شهر كامل على بداية عمليته العسكرية، وكذلك ما تظهره مقاطع الفيديو التي تبث على مواقع التواصل الاجتماعي وتظهر معدات روسية مهجورة والمدمرة على حدود المدن.
السجن للمعارضين
وأمام هذا الفشل في الحسم في أرض المعركة العسكري، يبدو أن الحسم في الداخل أسهل، فالنظام الحديدي الذي صنعه بوتين وأرسى قواعده خلال الـ22 سنة الماضية تمكن من السيطرة على الحركة المعارضة للحرب، وتصدى بحزم لكل المحاولات التي ظهرت للتعبير عن رفضها، واعتقل المئات منهم خلال أيامها الأولى.
والأسبوع الماضي، أفادت منظمة أو في دي-إنفو غير الحكومية المتخصصة في رصد التظاهرات، عن اعتقال أكثر من 800 شخص تظاهروا في 37 مدينة في أنحاء روسيا ضد العملية العسكرية.
ولمواجهة هذه الحالة من رفض الحرب أقرت روسيا قوانين تجرّم التظاهر، تصل مدة الحبس فيها إلى ثلاث سنوات، وتبنت قانونًا يحظر على وسائل الإعلام الروسية نشر أي معلومات عن خسائر الجيش الروسي إلا من المصادر الرسمية، ووافق المشرّعون على قانون يمنع ازدراء وإهانة الجيش الروسي في وسائل التواصل الاجتماعي، وفرض عقوبة، على من يقوم بذلك، بالسجن تصل إلى 15 سنة.
وكذلك نشرت وسائل إعلام روسية نتيجة استطلاعات رأي لمؤسسات روسية حكومية تقول إن "نحو 68%من الروس يؤيدون قرار إطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا".
وفي حديث لي مع مواطن روسي من أصل سوري يعيش في موسكو، وصف الوضع بـ"الصعب"، بعد أن تردد أكثر من مرة في الكلام معي خشية أن يكون هاتفه مراقبًا، خاصة مع فرض قيود على الوصول إلى موقعي فيسبوك وتويتر داخل روسيا، وأكد المواطن لي أنه غير مسموح بالحديث عن الحرب الروسية إلا بتأييدها، لافتًا إلى أنه يعرف أربعة شبان قُبض عليهم نتيجة حديثهم عن رفضهم للحرب.
ومع هذا الستار الحديدي لجأ عدد كبير من المعارضين للحرب إلى مغادرة روسيا، حتى يتمكنوا من إعلان رفضهم للحرب، وكذلك في محاولة للبحث عن أمانهم الشخصي، غير أن قادة النظام الروسي أكدوا أنهم سيلاحقونهم، ووصفهم دميتري بيسكوف المتحدث باسم الرئاسة الروسية بـ"الخونة".
وقال بيسكوف في تصريحات نقلتها وسائل إعلام روسية "في مثل هذه الأوضاع تظهر حقيقة الكثير من الأشخاص على أنهم خونة ويخرجون من حياتنا بمفردهم. يستقيل البعض والبعض الآخر يغادر البلاد. إنها عملية تطهير. ويخالف آخرون القانون ويعاقبون وفقًا للقانون".
وهو ما أكده بوتين نفسه عندما قال في خطاب بثه التليفزيون إن الغرب صنع "إمبراطورية الكذب"، استخدم فيها وسائل إعلام ومواقع التواصل و"طابور خامس من الخونة" يعيشون داخل روسيا، يهدفون لتحقيق أهداف معادية للدولة، وقال "كل شعب وخاصة الشعب الروسي سيكون قادرًا دائمًا على التعرف على الحثالة والخونة ولفظهم تمامًا كما تلفظ ذبابة دخلت إلى الفم"، مضيفًا "أنا متأكد من أن مثل هذا التطهير الذاتي الحقيقي والضروري للمجتمع لن يؤدي إلا إلى جعل بلادنا أقوى".
العقوبات تؤلم الشعب
عادة ما يكون الشعب هو المتضرر الأكبر في الحرب، ورغم أن الوضع لم يتأثر كثيرًا حتى الآن على المستوى المعيشي في روسيا، بحسب المواطن الذي تحدث معي، يخشى الجميع إطالة أمد الحرب، ويرون أن تأثيرها سيكون كبيرًا على الجميع.
بوتين نفسه وأعضاء حكومته لم يتوقعوا رد الفعل القوي من الغرب على الحرب، حيث فرض عقوبات عليه شخصيًا بالإضافة إلى وزير الخارجية سيرجي لافروف والعديد من الأفراد الآخرين، وكذلك تم تجميد أصول البنك المركزي الروسي وإبعاد البنوك الروسية الكبرى عن شبكة تحويل مدفوعات سويفت الدولية.
ومُنعت شركات الطيران الروسية من المجال الجوي فوق الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا، وكذلك حظرت أمريكا استيراد النفط والغاز الروسيين. ويعمل الاتحاد الأوروبي إلى خفض واردات الغاز بمقدار الثلثين في غضون عام، وأيضًا تسعى بريطانيا إلى التخلص التدريجي من النفط الروسي بحلول نهاية عام 2022، وأوقفت ألمانيا الموافقة على خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 الروسي.
العقوبات طالت أيضًا الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية، وتمت مصادرة أملاك رجال أعمال روس في أوروبا وأمريكا.
هذه العقوبات أدت إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية الروبل بنسبة 30%، ولجأت الحكومة إلى حزمة من الإجراءات في محاولة لإحداث الانضباط المالي كفرض رسوم تصل إلى 30% على مشتريات الأفراد من العملات الأجنبية، وألزمت الشركات التي تعمل في مجال التصدير بتحويل 80% من عائداتها إلى الروبل.
كذلك أعلن بوتين أن روسيا لن تقبل إلا الدفعات بالروبل ثمنًا لضخّ الغاز للدول التي وصفها بـ"غير الصديقة"، وتشمل جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي فرضت عقوبات على بلاده. ويرى البعض أن هذه الخطوة ستعمل على تعزيز العملة الروسية، مع استمرار اعتماد عدد من الدول الأوروبية على روسيا في الحصول على معظم إمداداتها من الطاقة.
وحقق الروبل مكاسب مقابل الدولار الأمريكي واليورو، بعد إعلان بوتين وقفز إلى أعلى مستوى له منذ ثلاثة أسابيع أمام الدولار ليصل إلى سعر صرف 95 روبل للدولار قبل أن يستقر عند سعر مائة روبل للدولار.
واتخذ البنك المركزي إجراءات عاجلة مثل رفع سعر الفائدة من 9.5 % إلى 20%، ومع استمرار الحرب بدأت بعض المؤسسات المالية تتوقع انهيار الاقتصاد الروسي، وانكماشه كما حدث عام 1998 حين تخلفت روسيا عن سداد ديونها، وتوقعت بلومبيرج إيكونوميكس انكماش الاقتصاد بنسبة 9% على الأقل هذا العام.
وتأكيدًا على تأثير العقوبات والعزلة على روسيا، أعلنت وزارة الاقتصاد الروسية، الأربعاء، أن التضخّم السنوي قفز بنسبة 14.5% خلال الأسبوع الذي انتهى في 18 مارس، وهو أعلى مستوى تضخم منذ عام 2015.
على أي حال يمكن أن يكون ما قاله الشاعر الألماني برتولت بريخت ملخصًا للوضع في روسيا حاليًا، حين قال "عندما انتهت الحربُ الأخيرة، كانَ ثمَّةَ
منتصرونَ ومهزومون
في جانب المهزومين جاعَ الشعبُ القَنوط
وفي جانب المنتصرين جاعَ الشعبُ القنوطُ أيضًا".