في الفترة التي اجتاح فيها الكوفيد العالم، قررت الحكومات الإغلاق الكامل لكبح الجائحة، عندها وجد الناس أنفسهم محبوسين في البيوت ومحرومين من الشوارع. ازدادت معدلات الكآبة والتوق إلى العودة إلى الشوارع وروتينها اليومي. مع استطالة مدة الإغلاق، تحايل الناس على الحبس الاضطراري في المنازل، بالخروج إلى البلكونات باعتباره خروجًا جزئيًا إلى الشارع. انتشرت على منصات التواصل مقاطع فيديو متعددة لأشخاص يتبادلون الأطعمة والحديث من البلكونات، والعزف والغناء أيضًا، تكررت المقاطع من مدن مختلفة كروما والإسكندرية وغيرها، وكأن البشرية أعادت اكتشاف فعل بديهي بسبب الجائحة وهو الجلوس في البلكونة.
في حلقة أنتجتها نتفلكس ضمن مسلسلها الوثائقي Abstract يقول المعماري الدانماركي بياركيه إنجلس أن "العمارة هي اللغة التي تعيد صياغة علاقة الإنسان بالفراغ"، معبرًا عن وجهة نظره الثورية في إنتاج تصميمات جديدة ومختلفة كليًا عن الرائج على مستوى العالم، خاصة في انفتاح المبنى على البيئة المحيطة به ليصير من داخله امتدادا لها. فإذا كانت العمارة هي لغة الإنسان مع فراغ المكان حوله، فيمكننا اعتبار البلكونة هي القنطرة التي تصل بين اللغة/ العمارة، والصمت/ الفراغ.
مولد البلكونة
تشكل البلكونة في الوعي الجمعي أكثر بكثير من مجرد نتوء حجري يمتد من الغرفة، أو مكان هامشي يستخدم لتخزين ربطات الثوم أو البصل كما تفعل أمهاتنا، بل تتجاوز ذلك بمراحل، فأحد أشهر مشاهد التراجيديا الرومانسية على الإطلاق كان في البلكونة بين روميو وجولييت، ومن بلكونة القصر الإمبراطوري في فيينا أعلن أدولف هتلر ضم النمسا في بداية الحرب العالمية الثانية، ومن بلكونة قصر باكينجهام أيضًا أعلن تشرشل وسط العائلة الملكية نهاية الحرب، وغير ذلك من اللحظات الفارقة في تاريخ البشرية، أو حتى اللحظات الاعتيادية اليومية.
يعرِّف معجم المعاني البلكونة أو الشرفة على أنها بناء صغير خارج من البيت يطل على ما حوله. لا يمكن الجزم تاريخيًا بأول مرة ظهرت فيها البلكونة كاختراع معماري. في كتاب "ضوء الشمس والظل في المدن الأولى" تقترح الباحثة ماري شيبرسون أن أول ظهور للبلكونات كان في العمارة الفارسية، حيث استخدمها سكان بلاد ما وراء النهرين لتظليل مساحات من الشارع وتجنب أشعة الشمس الحارقة. بينما يعارضها باحثون آخرون بأن البلكونة قد ظهرت في بلاد اليونان بهدف غرض معاكس تمامًا وهو زيادة الضوء داخل البيوت والحصول على التهوية الجيدة.
في مصر الفرعونية ظهرت البلكونات كإضافة معمارية احتفالية أو هرمية، كما يشير الباحث باري كيمب أنه تم تصميمها ليظهر القادة أمام رعاياهم بشكل مسرحي يغذي فوقيتهم وحكمهم للشعب. وهو النمط الذي سيتكرر كثيرًا في روما واليونان، ليتفرج القادة وأعضاء مجالس الشيوخ من البلكونة على عروض المصارعة وغيرها، وليظهروا لشعوبهم في مظهر من يطل من أعلى دومًا.
مع الوقت صارت البلكونات أكثر تفصيلًا وملائمة للجو العام للبلدان والثقافات المختلفة، ففي العصور الوسطى في المدن العربية ظهرت المشربية، لتؤدي وظيفة البلكونة من التهوية وإتاحة رؤية الفضاء العام، مع الحفاظ على خصوصية البيت وحريمه بالذات.
في عصر النهضة صارت البلكونات نمطًا معماريًا شائعًا للقصور والمباني الفخمة، وكان هدفها الأساسي هو الجمالية، ثم أصبحت أعمالًا فنية حقيقية، تُعرض بفخر ويتم العناية بتصميمها وتشييدها. بلكونات مدينة البندقية أفضل مثال على بلكونات تلك العصور، فقد اشتهرت المدينة ببلكونتها شديدة التنوع والفريدة في تصميماتها، حيث حاول المصممون المعماريون العثور على سبل لتنقية الهواء، وإضافة الرحابة إلى البيوت في مدينة ذات شوارع ضيقة ومبنية على جداول من المياه الراكدة.
في تلك الأزمنة اكتسبت البلكونة قيمتها المعنوية من مجرد فرجة في جدار البيت إلى مساحة لرؤية الشارع والإعلان عن الذات ، فمن ناحية اجتماعية في تلك الأزمنة، كان البقاء في المنزل، والحبس أحيانًا، هو التاريخ العام لنساء ذلك العصر، فأتاحت البلكونات متنفسًا لذلك الوضع القسري، وتمردًا عليه أيضًا، فعلى سبيل المثل في قصة جولييت بطلة شكسبير، بعدما حبست في منزلها، لم تجد سوى بلكونة المنزل، حيث كانت المكان الوحيد الذي أتاح لها إعلان حبها ومشاركته.
وفي كتابها Livre de la Cité des Dames أو كتاب مدينة السيدات تقدم الكاتبة كريستان دي بيزان تخيلًا لأماكن متعددة حيث يمكن للمرأة أن تختلي بنفسها بعيدًا عن سطوة الرجال، تلك الأماكن في خيال كريستان كانت بلا مطابخ ومتصلة ببعضها عن طريق صالات للعرض تشبه إلى حد كبير بلكونات بيوتنا هذه الأيام.
بلكونات العصر الحديث.. برج مراقبة أحيانًا
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتشرت البلكونات في التصميمات المعمارية على نطاق واسع، صاحب ذلك صعود جورج هوسمان كمحافظ للسين واتخاذه قرارات جريئة بتجديد باريس عن طريق توسعة الشوارع وإضافة شبكات الصرف الصحي وتصميم واجهات المباني بشكل أنيق وفخم، متضمنة البلكونات بالطبع، ليجعل من باريس وكأنها غرفة المعيشة لكل المدن البرجوازية في القرن التاسع، وصارت البلكونة رمزًا لأسلوب الحياة الحضاري والحديث.
بالطبع انتقلت عدوى التجديد إلى كل المدن الأوربية في ذلك الوقت ومنها إلى مدن المستعمرات أيضًا، كبلكونات القاهرة الخديوية والمَلكية، أو ما يعرف حاليًا بمنطقة وسط البلد، وهنا انتقلت البلكونة من وظيفتها الجمالية والفنية إلى أخرى أكثر حيوية وإنسانية، فصارت مساحة للمشاركة الاجتماعية والاختلاء الذاتي، ونقطة وصل الفضاء الخاص للبيت والفضاء العام للشوارع، ويمكننا القول إن التسلية الأساسية في مدن القرن العشرين قبل اختراع التلفاز كانت الجلوس في البلكونة وتبادل الأحاديث والأخبار مع الجيران.
في العام 1911 نشر الرسام الإيطالي أمبرتو بوتشيني لوحته الأيقونية بعنوان: الشوارع تدخل النافذة. في اللوحة تظهر امرأة تتكيء على سياج بلكونتها وتطل على الشارع الذي تنثني عماراته وتتداخل مكونة شحنة عاطفية هائلة، تنكسر في اللوحة الفروق بين الداخل والخارج، وتتماهي الحدود بين الحياة المعاشة داخل البيت والحياة المرصودة من البلكونة. تبرز اللوحة تلك المشاركة المجتمعية التي لم يعد من الممكن تجنبها بعدما صارت البلكونات هي عيون البيوت المفتوحة دومًا على الشارع، وترصد فعل المراقبة الصامت من على حافة البلكونة.
في اللغة الإسبانية ظهر فعل "balconer" وهو يعني أن تراقب عن كثب من البلكونة دون أن تشارك فيما يحدث، وهو التعبير الأدق عن وظيفة البلكونة في العصر الحديث، تلك اللحظة من ترك البيت والاستمتاع بالتلصص على الشارع من نظرة فوقية دون المشاركة الفعلية فيما يحدث في الأسفل.
في الدارجة المصرية يوجد تعبير شائع يردده الناس باستمرار حينما يقولون "هخرج أشم هوا في البلكونة"، يمثل ذلك التعبير الحالة التي تخلقها البلكونة في وعي الناس من مفرداته في الخروج وشم الهواء، وكأن البلكونة تصبح مكانًا مستقلًا بذاته، وخروجة منفصلة عن جو البيت، حيث يتجدد الهواء والمشاعر والمزاج العام للشخص.
يبلور الكاتب عزت القمحاوي تلك الحالة التي تخلقها البلكونة بين الفضائين الخاص والعام في كتابه الأيك حيث يقول:
تحقق الشرفة مسعى الوجود نصف المفتوح. حتى لو كانت خالية غير مأهولة؛ فمجرد الإحساس بوجودها وعد، حيث تجعل إمكانية الانفتاح بين الطرفين موجودة دائمًا. ساكن البيت يستطيع أن يعبر من الداخل إلى الخارج دون الاستعداد الذي يحتاجه عندما يتوجه إلى الباب. يستطيع دون عناء الإطلال على حركة الحياة خارج البيت، حيث توفر الشرفة فرصة حوار الوجود الذاتي مع الموجودات الأخر .وتخاطب الشرفة في العابر تحتها النزوع الإنساني نفسه نحو أن يكون موجودًا ومرئيًّا. يشعر الإنسان بالأمان والألفة في مدينة لبناياتها عيون تراه، وتبوح له بالكثير عن أصحابها.
ماذا يرى المصريون عندما يفتحون بلكوناتهم اليوم؟
في مصر تنتشر اليوم حمى معمارية لا يمكننا إنكارها، بين مشاريع الدولة من جهة ومشاريع الكومباوندات التي يشيدها المستثمرون من جهة أخرى. نموذج الكومباوندات بات وجهة لكثير من المصريين الهاربين من زحمة المدن الكبرى وخنقتها، في ذلك النموذج لا تملك البلكونة أي ميزة مجتمعية إطلاقًا، فهي شيء مهمل لا يشكل فارقًا في حملات الدعاية التي ترصدها الكومباوندات، لأن الهدف الأساسي المرغوب تحقيقه من الكومباوندات هو العزلة، بما يتعارض مع الحالة التي تخلقها البلكونة أصلًا.
لا تهتم مشاريع الدولة الخدمية بجمالية البناء ولا بعده الاجتماعي، بل يمكن وصفها بالعشوائية والعبثية أحيانًا، فمن فترة انتشرت صورة بشكل فيروسي لأحد الكباري الذي يخترق شارعًا رئيسيًا ويلاصق بلكونات الشقق تمامًا.
تلك الصورة العبثية تعطي انطباعًا عما يراه الناس يوميًا من بلكونات بيوتهم من مشاريع إنشائية تستهدف تفكيك الفضاء العام وإعادة تشكيله بما يناسب مزاج الدولة. في كتاب نشتري كل شيء.. تحولات السكن والعمران في مصر والذي يقدم نقدًا للتغيرات التاريخية والاجتماعية لأنماط العمارة في مصر وتأثيرها على حياة الناس، يشير الباحث أحمد زعزع في الفصل السابع إلى تلك المشكلة التي تخلقها المشاريع الجديدة التي لا تعنى بآراء الناس في الفراغ المحيط بهم، إذ باتت معظم المساحات العامة والخضراء التي كان يراها الناس من بلكوناتهم أو يتفاعلون فيها في حياتهم اليومية، مهددة بالاختفاء أو اختفت تقريبًا، مما نتج عنه غياب الراحة عن المدينة، فكل الفضاءات العامة تحولت إلى كبارٍ تقريبًا، وكل الكباري صارت مواجهة للبلكونات في تحد سافر ومقلق، أو كما يقول أحمد زعزع بتعبيره "سكان القاهرة لا يفقدون ذاكرة المدينة فحسب، بل يفقدون أيضًا ألفة المدينة".
تلك الألفة التي باتت مفقودة يمكن القول إنها نتيجة لانهيار التوازن بين الفضائين الخاص والعام، فإذا كان الفضاء الخاص كالغرفة أو المنزل أو السيارة يمنح المرء إحساسًا بتفرده وخصوصيته، فلا بد أن يمنحه الفضاء العام إحساسًا بالأمان والراحة والقدرة على المشاركة، ولذلك كانت البلكونة حلقة وصل بين الفضائين، يخرج منها الإنسان من خصوصيته إلى المشاركة العامة، ثم يعود إلى خصوصيته مجددًا. لكن ماذا يرى المصريون عندما يفتحون بلكوناتهم اليوم؟ الكثير من الأعمدة الخراسانية العملاقة، والمزيد من الشعور بالعزلة.