في فيديو قصير، لم يتجاوز عشرين ثانية، أطل فرانسيس فورد كوبولا، بوقاره المعتاد، يجلس في مكان مفتوح، ويرتدي ملابس ذات ألوان شبابية، بينما ينظر إلى الكاميرا، ويعرف المشاهد بنفسه، قبل أن يدعوه للاحتفال بذكرى مرور خمسين سنة على صدور فيلمه الأيقوني The Godfather عبر مشاهدته في السينما، يقول كوبولا "إنها فرصة لا تعوض (...) اقطعوا تذكرتكم الآن"؛ أليست تلك أبسط وأذكى دعاية لفيلم سينمائي؟ لا يتطلب الأمر أكثر من دعوة تأتيك من كوبولا نفسه، وكأنها تخصك وحدك.
إلى السينما ذهبتُ تدفعني اللهفة، ثمة شعور أختبره للمرة الأولى، ليس موعدًا غراميًا، بل لقاءً خاصًا مع عائلة دون كورليوني؛ أشهر عائلات السينما العالمية، هذه ليست أول مرة أشاهد الفيلم؛ شاهدته عشرات المرات، وأحفظ مشاهده بالترتيب، لكنني في هذه اللحظة، وأنا على عتبات السينما رأيته فيلمًا مختلفًا، وتقدمت، بخطوات مسرعة، ألبي الدعوة التي تلقيتها قبل أيام من كوبولا.
أبطال قدامى على بوستر جديد
في الصالة الخارجية لسينما فوكس بمول مصر، تعددت أفيشات الأفلام المعروضة، تجولت بعيني ورأيتُ البوستر الجديد لفيلم The Batman، يجاوره مارلون براندو وآل باتشينو في بوستر The Godfather، ابتسمت، والتقطت صورة لهما معًا في الكادر نفسه، بطل خفافيش الظلام ومدينة جوثام إلى جوار زعيم المافيا، من ينزع الآن عن الآخر دور البطولة المطلقة؟ من يتصدر إيرادات شباك التذاكر؟
قطعت التذكرة وتلمست طريقي إلى القاعة رقم سبعة، مرتبكة بينما أمشي في الطرقة الطويلة المفضية إليها، وأخمن شكل الجمهور الذي قرر أن يشاهد فيلم الأب الروحي في ظهيرة يوم عمل عادي. ثمة انطباع راودني أن من يشاهد الفيلم في هذا اليوم وذلك التوقيت بالتحديد هم رجال كبار في السن، قرروا أن يستعيدوا ذكريات الفيلم السبعيناتي الأهم على الإطلاق في مرحلة شبابهم. تنطوي الفكرة على شيء من النوستالجيا لا يمكن إغفاله، كانت المفارقة أن رجلين تشي ملامحهما بأنهما تجاوزا الخمسين بقليل دخلا قاعة غير قاعتنا المنشودة، لمشاهدة The Batman بأيادٍ لم تخل من الفيشار والقهوة الساخنة.
ما حركني لمراقبة طبيعة الجمهور الذي قرر أن يشاهد الأب الروحي في السينما، هو سؤال دائم يشغلني؛ سؤال يخص ويتأثر بعملية الصناعة على مستوى العالم: لماذا نذهب إلى السينما؟ لماذا نختار دخول فيلم بعينه؟ ولماذا نذهب لنشاهد فيلمًا كلاسيكيًا متاحًا بالفعل عبر منصات المشاهدة الرقمية؟
ليس ثمة إجابة أبلغ من الجلوس في قاعة السينما، منتظرةً لحظة غلق الأنوار وانبعاث الضوء نحو شاشة العرض العملاقة.
دعوة كوبولا للجمهور للاحتفال بفيلمه الأب الروحي في دور السينما
في كتابه علم اجتماع السينما وجماهيرها يطرح الكاتب الفرنسي إيمانويل إيتيس تساؤلات عمّا أسماه "لغز القرار عند شباك التذاكر السينمائي" في محاولة منه لفهم أوجه التشابه بين مجموعات معينة من الجمهور قرروا أمام قاعة السينما أن يختاروا فيلمًا معينًا لمشاهدته. إنه قرار لحظي، لا ينطوي على توقعات معينة كما أنه غير محسوب مسبقًا. يصعب عليّ الآن تخيل أن كل من كانوا حولي في القاعة اختاروا دخول الفيلم بقرار عفوي، بل يعرفون جيدًا أنهم سيشاهدون فيلمًا مرت على عرضه الأول خمسون سنة. ثمة رغبة مشتركة بيننا داخل القاعة، رغبة متفاوتة، لم نتواطأ عليها أمام شباك التذاكر ولكن عبر سنوات من الرغبة في خوض التجربة عن قرب، وفي المكان الصحيح. وربما لأول مرة.
داخل الغرف المغلقة
كل شيء مختلف داخل القاعة، أو هكذا شعرت؛ الكراسي، الجمهور، رائحة السينما، كأننا في استقبال قديس قادم من زمن بعيد، سيلتقي أناسًا يتأهبون للسفر عبر الزمن. قلت لنفسي: هذه القاعة تحمل الكثير من الوعود.
الوافدون على العرض، كانوا فئات عمرية مختلفة: ثنائيات من العشاق، مجموعات شبابية من الذكور، رجل وحيد في عمر الستين أو أقل، فتاة عشرينية وحيدة، وصاحبة هذه السطور. نصف القاعة الصغيرة، التي تضم قرابة سبعين كرسيًا، كانت ممتلئة، الأغلبية من الذكور وهو أمر له دلالته أيضًا.
أذكر صديقة أخبرتني أن الفيلم لم يعجبها من دون أن تعرف السبب، خمنت؛ لأنه ذكوري للغاية ولا تتماس خشونته وغلظة شخصياته مع رقتها المفرطة. شاهدت صديقتي الفيلم مثلي قبل سنوات على شاشة لاب توب، وقبل فترة قصيرة بطبيعة عملها في جهاز الرقابة. أقنعتها لو أننا شاهدناه معًا في السينما ستكون التجربة مختلفة، وستتيح لنا فرصة للحديث عنه أكثر بعد الانتهاء من الفرجة، وافقت وتحمست للتجربة. لكني آثرت أن أشاهده للمرة الأولى وحدي، كالعادة.
كانت الأعوام من 2009 إلى ما بعد ثورة يناير، مرحلة النشأة والانتشار الأكبر للسنفيليين الشباب (Cinephile تطلق على الشخص المهتم جدًا بالسينما)، كل شيء بدأ على الإنترنت، مواقع ومنتديات ثم جروبات ناشئة على فيسبوك تحولت لاحقًا إلى لقاءات حية بين أعضائها في دوائر مغلقة، نتبادل الهاردات ولينكات التحميل ونصنع مكتباتنا الخاصة من الأفلام التي نستكشفها لأول مرة، وكذلك آراءنا فيما شاهدناه من أفلام. كان ذلك كوننا الخاص وبوابتنا السرية لرؤية العالم والسينما التي لم نختبرها بعد، سينما مغايرة عن تلك التي تتصدر البوكس أوفيس والأخرى التي نقضي أمامها السهرة على قنوات الأفلام الأجنبية المتخصصة، التي تمارس رقابتها على الأفلام، ومختلفة أيضًا عن الأفلام التجارية التي مرت أشرطتها على أجهزة الفيديو في بيوتنا.
عبر صفحات تلك الجروبات، استعدت علاقتي بخريطة العالم، وتعرفتُ وجيلي من محبي السينما، على فن بلاد لا نعرف عنها شيئًا، أفلام سويدية وبولندية وإيرانية، موجات سينمائية وتجارب تتحرر من قوالب السينما الهوليودية السخيفة. في زحام التجارب السينمائية المختلفة كان الأب الروحي الأمريكي حاضرًا دائمًا كاستثناء لا يختلف عليه اثنان.
حينها، كانت تحفة كوبولا واحدة من الأفلام الذي نسمع عنها ولم نشاهدها، نعرف مارلون براندو من صورته الشهيرة، الرجل صاحب الصوت الرخيم والانفعالات الهادئة والبدلة السوداء التي تزينها وردة حمراء ناعمة، يداعب بيد خصلات شعره الخفيف وبالأخرى يمسك قطة صغيرة كأب حنون وزعيم مافيا مراوغ في آن، شخصية غير أحادية، ورجل يصلح كمثل أعلى، إذا تحدث لا يقول إلا كلامًا حكيمًا يصلح لأن يكون فلسفة في الحياة.
لسنوات كانت صورة الدون هي ما يضعه أغلب السنفيليين على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل. ها هو الدون يتحول من صورة على صفحة شخصية إلى جسد يتحرك أمامك على شاشة السينما، وللحظة تشعر أنه يجلس معك في الغرفة نفسها ويمكنك لمسه.
عندما تكررت انفعالات الفتاة التي جلست إلى جواري في القاعة، مع كل مشاهد القتل، أدركت أنها مرتها الأولى في مشاهدة الفيلم، بينما يقطع صديقها الجالس إلى جوارها صمته، بين الحين والآخر، ليشرح لها بعض التفاصيل الصغيرة لما يدور من أحدث. في الاستراحة تخيلتُ الحوار الذي دار بينهما، عندما كان يعرض عليها أن تصطحبه إلى السينما ليشاهدا معًا الفيلم الذي يحبه. إنه عرض لم تستطع رفضه.
شاهدتُ الأب الروحي للمرة الأولى، قبل عشر سنوات، على اللاب توب. منطلقة من كونه يحتل المرتبة الثانية في قائمة أهم 100 عمل على IMDB، حملته من إحدى مواقع الأفلام. شاهدت النسخة المسروقة وأذكر أني لم أشاهده كاملاً، بل على مرتين: قبل هروب مايكل إلى صقلية وبعد عودة مايكل إلى أمريكا. قلت لنفسي إنه فيلم طويل جدًا لأشاهده كاملاً. أعجبني لكن أرهقني. تكررت مشاهداتي له لاحقًا مع نسخة جديدة أكثر نقاءً من السابقة، ثم نسخة جديدة بلوراي مازلت أملكها حتى الآن، شاهدتها عشرات المرات وفي كل مرة يزداد إعجابي بالفيلم؛ في عام 2017 طُلب مني تقديم محاضرة عن السينما وسُمح لي بعرض مشاهد من الأفلام، اخترت المشهد الافتتاحي للأب الروحي كأجمل افتتاحية فيلم في العالم.
عندما أصبح الفيلم متاحًا على المنصات الرقمية شاهدته على شاشة التليفزيون في البيت، وهذه المرة داخل قاعة السينما، شاهدته كاملاً دون أن ألتفت إلى موبايلي أو أشعر بالملل. شاهدته كأنها المرة الأولى، ولكن كان ثمة شعور لا يمكن تجاهله، كأنما الفيلم تحول فجأة، إلى شيء حي، وأنا صرت جزءًا من العائلة، أجلس في طرف غرفتهم المغلقة، وأشاركهم الفرح الكبير وأراقب معهم خطط الانتقام التي تحاك على نار هادئة. لا يمكن مقارنة شاشتي الصغيرة بتلك الضخمة التي تضع الشخصيات والأماكن في حجمها الطبيعي، بل وتترك انطباعًا مختلفًا. بإمكاني تأمل الإضاءة، الديكور، تجاعيد وجه دون كورليوني، ونظرات مايكل وهو يكاد يتمزق تأهبًا لأول جريمة قتل يرتكبها في حياته.
موسيقى الفيلم لنينو روتا
بإمكاني القول إن السنوات الأخيرة أكسبتنا عادة مشاهدة الأفلام في الغرف المغلقة، أصبحت المشاهدات الفردية طقس حميمي ومعتاد، ثمة شيء مفتقد في تجربة المشاهدة الجماعية، تحولت الغرف إلى قاعات سينما بينما القاعات على أرض الواقع مهجورة، لأنها لا تعرض الأفلام التي نريد مشاهدتها بالفعل، من جهة أخرى تغيب التفاصيل الدقيقة عند المشاهدة عبر شاشات صغيرة.
بدا لي الذهاب لمشاهدة الأب الروحي في السينما بعد مرات من المشاهدات المنزلية ممارسة ثقافية أكثر منها ترفيهية، إنها اختبار لتجربة السينما أكثر منها الجلوس بصحبة الفيشار أمام فيلم لعصابات المافيا. عندما قال كوبولا لا تفوتوا فرصة تجربة مشاهدة الفيلم في السينما، كان يدعونا للسينما نفسها، يدعونا للتجربة، قبل أن يدعونا للفيلم.
قرأت تعليقًا على خبر صدور الفيلم بإحدى صفحات فيسبوك المتخصصة في السينما، يقول صاحب التعليق إنه على استعداد أن يدفع كل أمواله ليشاهد الفيلم في السينما إلى الأبد، فقط ليستمع إلى موسيقاه التصويرية. رغم أنها مبالغة ستتطلب تبديد كل أمواله لكنه صادق تمامًا في تقديره لموسيقى نينو روتا.
لم يذكر صاحب التعليق تمثيل مارلون براندو مثلاً، أو مشهدًا بعينه يريد رؤيته مرارًا، ذكر الموسيقى فقط وكأنها حكاية موازية تستحق أن ينفق أمواله من أجل الإنصات إليها.
انطباعات الخروج
في المشهد الأخير من الفيلم أغلق الباب في وجه كاي زوجة مايكل كورليوني ونزلت شارة النهاية. أضاءت القاعة أنوارها وخلت تمامًا من الناس، بقيت وحدي لم أتحرك، تصاحبني الموسيقى، لن أنكر أني فكرت بجدية في أن أحجز مقعدًا في الحفلة التالية، لكن الوقت لم يسعفني. وأنا أتحرك من القاعة إلى الطريق الطويل ذاته سألت نفسي: كيف سأتخلص من الفيلم؟ ولماذا أشعر به عالقًا في حواسي بهذه الطريقة؟
يمكننا قراءة الأفلام وفهمها بعيدًا عن القصة السينمائية وقريبًا من الجمهور، إنها قراءة اجتماعية تضعنا أمام عملية التلقي تستخلص من الجمهور ما هو جذاب في الفيلم الذي يشاهده.
ثمة علاقة نشأت بين الجمهور وبين شخصية دون كورليوني، زعيم المافيا الذي لا يسعك إلا أن تحبه رغم أنه، شئنا أم أبينا، مجرم، إنهم يحبونه أو يقدرونه، شاهدوا مقاطع من مشاهده القليلة في الفيلم لكنهم على الأغلب لم يشاهدوا الفيلم كله، وربما لا يذكرون جيدًا أفلامًا أخرى لمارلون براندو. إنها علاقة خاصة ومعقدة يمكننا استعارة مصطلح "اختراع الجسد السينمائي" من الكاتب إيمانويل إيتيس الذي يصف نشأة نجوم السينما الأمريكية باعتبارهم يلعبون دورًا محوريًا في الصناعة القومية للسينما من جهة، وينشئون علاقة خاصة يتماهون فيها مع الجمهور في قاعات السينما. وإذا كان جسد النجم السينمائي يقرب المسافة بينه وبين الجمهور فماذا عن نجم لم يعد على قيد الحياة لكنه جسده الدرامي مازال قادرًا على جذب أجيال متفاوتة من الجمهور، من عاصروه قديمًا ومن يقطعون تذكرة السينما ليكتشفوه عن قرب.
ما أتأمله الآن أن الأفلام تترك انطباعات مختلفة لدى الجمهور، لكن الانطباعات التي قرأتها بعد مشاهدة الأب الروحي متشابهة إلى حد كبير، بدءًا من تأثير الموسيقى وحتى الشخصيات ومشاهد القتل والصراع والبكاء وصولاً لمشهد النهاية.خرجت من القاعة أفتش عن شخص أتحدث معه لأصف له مشاعري الطازجة وكأني أفقت لتوي من حلم لا أميزه عن الحقيقة وأخشى أن أنساه. أما الفتاة التي جلست إلى جواري، رغم أنها انشغلت بالتهام طبق الفيشار كله مثل أغلب المتفرجين في القاعة، أعجبها الفيلم، وابتسمت للشاشة وهي تعزف موسيقى النهاية قبل أن تغادر القاعة.