لا تزال أزمات المجتمع وأحداث الشارع وانشغالات الرأي العام هي المحرك الأول لإبداعات فناني الكوميكس (قصص مصورة) من أبناء الجيل الحالي، بما يمتلكه من مزايا بصرية ومراوغات تعبيرية قادرة على تخطي الحواجز وتفجير القضايا وخلخلة الثوابت، بإنتاج محتوى انتقادي ساخر بمضامين غير مباشرة، قد لا يفهمها من يمارسون دور الرقيب.
ورغم أن الصورة الراسخة لدى فئة كبيرة من الجماهير عن فن الكوميكس تقصره في "النمط الشعبي" الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تحت مسمى الميمز المستوحى من صور للمسؤولين والشخصيات العامة أو لقطات من الأفلام السينمائية، فإن هذا التوجه المبسّط (الذي يحتضن هموم الجماهير أيضًا) لا يعبر عن حقيقة فن الكوميكس الراسخ كفن للقصص والرسوم والأشرطة المصوّرة.
بابتسامة تفاؤل، استقبل فنان الكوميكس الشاب فريد ناجي، المنصة، مستحضرًا حدثين حركا "المياه الراكدة" حد وصفه، فيما يتعلق بفن القصص المصورة الاحترافي الذي ينتجه محترفون، وأحيانًا هواة ومهتمّون، وهما معرض القاهرة الدولي للكتاب 2022، ومهرجان كايرو كوميكس (نوفمبر / تشرين الثاني 2021)، اللذان شهدا انتعاشًا لإصدارات الكوميكس بعد عامين من الركود تحت وطأة جائحة كورونا وظروف أخرى متشابكة.
يقول ناجي"الماء الراكد عاد للتحرك نسبيًّا، وبدأ الفنانون يطلقون من جديد إصداراتهم الخاصة والجماعية، إلى جانب بعض المنصات الرقمية"، ويدلل على وجهة نظره بالقول إن "الكوميكس فن لا يقبل الحلول الوسطى، لأنه اقترن منذ بدايته بالانفلات والانطلاق والتحليق في مدارات عليا خارج السيطرة، مرتادًا آفاقًا لا تبلغها الفنون البصرية الأخرى من التحرر والحدة والتطوير والتجريب وكسر التشابه والنمطية، واستشراف مستجدات الواقع وتحولاته العميقة".
"كنتُ أتصور، بالخطأ، أن الكوميكس بالنسبة للأغلبية قد جرى اختصاره في صور الميمز، المنتشرة عبر السوشيال ميديا، حتى شهدتُ بعيني في كايرو كوميكس ومعرض الكتاب نفاد نسخ الكثير من أعمال الأصدقاء وأعمالي الشخصية" يقول ناجي.
وتتضمن أعماله في المعرض مجموعته الأحدث عدسات لاصقة، التي تحكي قصصًا بطلاتها مجموعة من البنات يواجهن معاناة وضغوطًا في تحركاتهن اليومية، وكذلك كتاب حكايات المدينة، الذي يتضمن قضايا اجتماعية متنوعة. ويرجع ناجي، نجاح الكوميكس إلى "الوعي المجتمعي الفطري، والثقافة البصرية المتراكمة لدى العاديين الذين اقترنوا بالصور، وصار لديهم مخزون بصري وذائقة متفوقة".
يعتبر ناجي الكوميكس "فن اللحظة الراهنة"، معددًا مميزاته بين "المرونة في التنقل بين المشكلات المتشعبة، والهموم الإنسانية المختلفة، للتعبير عنها بعمق من خلال الرسوم والحكايات المصوّرة". يوضح: تناولتُ باستفاضة الاغتراب والانعزال والفراغ الروحي، وقضايا فلسفية ووجودية، وسيطرة الآلة على البشر في عالم مادي ميكانيكي. تعاملتُ بحرية مع قضايا المرأة والنسوية في مجتمعاتنا الذكورية الأبوية, وعلى رأسها التحرش. تقصيتُ أحوال المدينة (القاهرة نموذجًا) بعد ربيع الثورات العربية، وكيف أصبحت المدينة من حيث الفاعلية والسلوكيات والمظاهر الحضارية والأخلاقية، وكيف يُدار الصراع بين البشر، وتتشابك العلاقات، وتتعقد الأزمات.
ويزيد فنان الكوميكس الشاب: هذا الفن الطموح يتخطى التعبير عن أزمة ما إلى تحليلها ومحاولة التصدي لها ولو بالتوعية. وهنا يستشهد ناجي بتجربة فنان آخر، في مؤشر يعكس تضافر أبناء ذلك الفن على خلاف التنافسية الشديدة التي تتسم بها مجالات أخرى راسخة.
يذكر ناجي بفخر تجربة الفنان أحمد نادي مع إحدى دور النشر، حيث نشرت له ملصقات كوميكس كبيرة متنوعة، جرى عرضها داخل محطات مترو الأنفاق، حول التحرش الجنسي, ومدى الإساءات التي تتعرض لها النساء، وقد لقيت هذه الملصقات اهتمامًا واسعًا من الجمهور العادي، الذي تفاعل معها ومع ما تحمله من رسائل، وهكذا أدى الكوميكس دوره في التوعية كما ينبغي، بما يؤكد أنه "أقوى وسائل التعبير والتأثير بين الفنون، وأنه فن التحرر من القيود، والثورة على ما هو سائد، والتغيير إلى المحمود والمأمول"حد وصفه.
في بداياته، نشر ناجي قصص الكوميكس في مجلات الأطفال المعروفة مثل سمير وقطر الندى. ومع انطلاق إصدارات الكوميكس المتخصصة مثل جراج وحدث بالفعل وقالك فين وتوك توك ومجنون والشكمجية، بدأت مرحلة جديدة مع الكوميكس لدى فريد، بما أحدثته تلك الإصدارات من ثورة في الجمع بين أعمال الفنانين المحترفين والهواة من مختلف الأرجاء، خالقة حالة من التفاعل بين الرسامين، أدت إلى زيادة إنتاج الكوميكس وتحوله إلى فن جماهيري.
الآن ترك ناجي بصمة في هذا الفن حديث الانتشار نسبيًا في مصر والعالم العربي. ونُشر لناجي إصدارات عديدة كما شارك في معارض خارج مصر، جعلته في واجهة فناني الصف الأول الشباب في هذا الميدان.
إنتاج متنوع وثائر
تتعدد مجالات اهتمام ناجي بين الشأن السياسي والطرح الاجتماعي والقيم الإنسانية، فمن تحية ضحايا أولتراس أهلاوي، والمجد للشهداء، ويسقط كل من خان، إلى نقد ذلك العالم الافتراضي الذي أصبح كل شيء فيه متشابهًا في قصته لا شيءَ حقيقيًّا، لا شيءَ جديدًا.
ومن سحابات المدينة الرمادية بما تحتويه من الوجوه ووحوش المتحرّشين، إلى الهروب في فضاء الأحلام، فنجده يستدعي القائد الفرعوني أحمس، ويتخيل تفاعله مع التكنولوجية في إهدار وقته أمام الموبايل والسوشيال ميديا، كما يستعرض اغتراب آدم في محطات الأرض. وأخيرًا، يصور آمال الشباب وخريجي الجامعات والمعاهد العليا مع ذلك الإحساس القاسي بالعجز، وضآلة وتآكل الرسّام الذي لا يجد في دروب الحياة غير عبارة "اطلعْ بره".
اتجه ناجي فور تخرجه في كلية الفنون الجميلة في العام 2012 (شعبة الرسوم المتحركة) إلى الكاريكاتير والكارتون، ثم خطا بقوة نحو الكوميكس كأحد المتخصصين في هذا الفن الجديد. وعن ذلك يقول "شغفتُ في البداية بالكاريكاتير وأفلام الكارتون القصيرة، وكلاهما كان ذائعًا قبل موجة الكوميكس. كان هدفي دائمًا مع رفقاء جيلي تعرية الواقع ونقده نقدًا بنّاء عبر السخرية، لكنني بعد فترة استشعرتُ أن هذه القوالب تقتنص مواقف لحظية مجتزأة فقط من حركة الحياة، فلجأت إلى الكوميكس كشكل سردي قصصي مصور، يتسع لإخراج طاقتي كاملة باستيعاب وجسارة، ونقل ما أود الإفصاح عنه من أمور ذاتية خاصة، وجماعية عامة".
فن القضية
كانت الانطلاقة الكبرى للكوميكس بمصر، في أثناء ثورة يناير / كانون الثاني 2011، وما أعقبها من تحركات وممارسات شعبية. عُرف الكوميكس بأنه فن الالتحام بأحداث الشارع الساخنة وقضايا الناس التي يتخذها منطلقًا. يشير ناجي إلى "القضية" أيًا ما كانت كمحرك رئيسي في فن الكوميكس. يوضح: القضية هي الأهم بالنسبة للكوميكس، هي ليست بالضرورة قضية سياسية، لكنه أيضًا (الكوميكس) ليس مجرد وسيلة للتسلية.
يقول ناجي: فن الكوميكس تأصّل في مصر، وامتد إلى سائر الفئات والطبقات، فهو ليس مجرد فن للتسلية والمتعة الجمالية فقط، لكنه فن العمق والاشتباك مع أزمات المجتمع ومشكلاته واهتماماته. ولعل من هذا المنطلق، اقترنت عادة افتتاحيات مجلات وإصدارات الكوميكس بقضايا عامة كبيرة، كما في مانفستو (الشكجمية) على سبيل المثال "الشكمجيّة شايلة جوّاها حكايات عن العنف الجسدي والجنسي اللي بتتعرّض له البنت المصريّة في حياتها".
ولطالما كانت حكايات الشارع ومشاكل الناس، مواد يستوحي منها ناجي قصصه، يستخدمها لكسر الأنماط والتقاليد، وتطويع شكل جديد لقصة سردية؛ واقعية أو فانتازية. وقد أثبتت التجارب المختلفة لدى عشرات الفنانين الشباب أن الكوميكس هو أقوى وسائل النقد السياسي، وأمضى آليات النقد الاجتماعي، وأكثرها تأثيرًا. وقد جاء تلاحم الكوميكس مع الثورات العربية على هذا النحو ليثبت أنه فن التثوير بامتياز، إذ يسمو مجال النقد ليتحول إلى رسم عالم بديل، وهدم أسقف وحوائط وأبنية فاسدة.
إن هذه التناقضات والارتباكات والأزمات والأحوال غير المستقرة التي سادت الشارع خلال العقود الأخيرة، على كافة الأصعدة، كما يؤكد ناجي، أسهمت في تغذية فن الكوميكس وتعزيزه بمصر، حيث "فرضت الحالة الثورية حضورها وإرادتها على الجميع، والتقى الفنانون وأبناء الشعب على صيحات الاحتجاج وأبجديات التعبير المختلف، والتهكم على الجمود القائم، وفي مثل هذه الأجواء يصير الشكل الفني أكثر بلاغة من محتوى الكلمات في الوصول إلى الجوهر وتلمس الأوجاع تحت الجلد وتفجير الفكاهة من رحم المأساة".
ويُرجع ناجي انتقاء أبطال أعماله عادة من العاديين والبسطاء، ومن المطحونين والمغلوبين على أمرهم والمنبوذين، إلى رغبته في التعبير عن الفئات المهمّشة المقهورة، بأساليب فنية غير نمطية، لتوصيل صوتهم ونبضهم إلى أبعد مدى ممكن، على أمل التأثير في هذا الواقع المرير المحيط، ولو بشيء بسيط.
ولم ينفصل فنانو الكوميكس من أبناء الجيل الحالي عن روح ميدان التحرير وثورة يناير، ويرى رسام الكوميكس أن"الجرأة لم تُنتقص لدى هذا الجيل من الفنانين الشباب، فعلى الرغم من المحاذير يتحلى الفنانون بالجسارة والمغامرة، سواء على مستوى المضامين والأفكار والقضايا المطروحة، والقصص والرسوم، وكذلك التقنيات والمذاهب والاتجاهات والعناصر والمفردات المتطورة.
وحول مدرسة الكوميكس السائدة في مصر يقول ناجي "هي متسقة في معظمها من حيث طريقة السرد وستايل الرسم والموضوعات المثارة مع المدرسة الأوروبية، خصوصًا الفرنسية، وكذلك مع بعض أنماط الأكشن الأمريكية، والمانجا اليابانية. وتبقى النكهة المحلية أمرًا ضروريًّا في الكوميكس المصري المتميز، وذلك من حيث الرؤية واللمسة التعبيرية الخاصة للفنان، واستشفاف أجواء المكان وطقوسه وتاريخه وجغرافيته، وحساسية الشارع، ونبض البشر".
وإلى جانب ما حققه الجيل الجديد من فناني الكوميكس من تنوع وزخم في هذا الفن، وتعزيز للجرأة والاقتحام، فإنهم تمكنوا من تسخير ودمج الأدوات الحديثة والتكنولوجيا لتكون أداة أسهل في تنفيذ الأعمال الفنية، مثل الرسم الرقمي، والتطبيقات الجديدة على الموبايلات والشاشات الإلكترونية، لتتولد مساحة جديدة لنشر القصص "أون لاين"، بدون الحاجة إلى طباعتها.
وعلى الرغم من حماسة فريد ناجي، وطموحه، وتفاؤله بشأن حاضر الكوميكس ومستقبله، فإن المتابع لمؤشر تطور فن الكوميكس في مصر، من أوجهه الجمالية والتعبيرية والتفجيرية، وكذلك تمثلاته الترويجية والتسويقية، يجد أن الطريق لا تزال طويلة صوب استعادة مرحلة الوهج الكبرى في أعقاب ثورة يناير.
حيل للتغلب على المعوقات
يعترف ناجي بوجود بعض المعوقات والمحظورات والمحبطات في المناخ العام الراهن، على أنها "من الممكن التغلب عليها، بالتركيز أكثر على النشر الإلكتروني والمنصات الرقمية، وتوسيع مجالات القضايا التي يجري التعبير عنها، لتاخذ طابعًا اجتماعيًّا أو إسقاطيًّا أو ترميزيًّا". ومن هذه العقبات: تردي الأحوال الاقتصادية، وعدم وجود دعم مؤسسي، وركود صناعة النشر "في العموم، فإن شراء مجلة أو كتاب أو حضور مهرجان أمر مكلف في بلد لا تتوفر فيه متطلبات الحياة الأساسية، من مسكن وعمل ومأكل ومشرب ومستوى معيشي مقبول. فإذا كانت الاحتياحات الضرورية غير متوفرة، فكيف يمكن للإنسان البسيط أن يهتم بالكماليات أو يلتفت إلى ما قد يراه أمرًا ترفيهيًّا؟".
ومن الأمور الأخرى، المتعلقة بالنشر الورقي احتكار دار النشر المكسب في حالة النجاح، وتركها الفنان للخسارة وحده عند الإخفاق "هكذا يتجه الفنان إلى نشر قصصه بنفسه بشكل مستقل، وهذا بالتأكيد عبء غير محتمل لدى البعض. كذلك، فإن فنان الكوميكس في مصر غير متفرغ لفنه، أي أنه مجبر على أن يعمل في مهنة أخرى، ليستطيع أن يكسب رزقه.
يتابع "يبقى الكوميكس مجرد عمل جانبي في أوقات فراغه، فليست هناك وظيفة فنان كوميكس. وهذا غير ما يحدث في الخارج، ففنانو الكوميكس في فرنسا مثلًا محترفون، عملهم هو كتابة أو رسم القصص المصورة، ويتقاسمون المكسب مع دور النشر العادلة، بما يمنحهم الطمأنينة والاستقرار والتركيز، ويؤمّن لهم شروط التطوير والإجادة".
ولم يكن هناك من حل لمواجهة هذه الصعاب المتشابكة سوى اللجوء إلى النشر الخاص، الورقي والإلكتروني، كما يوضح ناجي، وذلك عبر الكتب الجماعية والفردية، والمجلات. ويبقى النشر الرقمي، هو النافذة الأرحب، والأقل تكلفة، والأسرع انتشارًا. ويستعرض الفنان بعض هذه التجارب المهمة في النشر المستقل مثل مجلة "توك توك"، التي أسسها الفنان شناوي بالاشتراك مع مجموعة من فناني الكوميكس. كما ظهرت مطبوعات وسلسلة "فوت علينا بكره" للفنان شريف عادل، ومجلة "قالك فين" لمؤسسة مزج.
وإن هذه التجارب الحديثة كلها، وغيرها، وفق فريد ناجي، تؤكد توالي المحاولات المستمرة من الجيل الجديد من فناني القصص المصورة لتعزيز الكوميكس ودعمه، على الرغم من الصعوبات والتحديات التي أثرت بالسلب على مسيرة الفن التاسع.
* المدينة الرمادية إحدى قصص الكاتب حصلت المنصة على إذن النشر منه.