ما القهر؟ هو السيطرة على شخص بالقوة، أو قمعه نفسيًا أو عاطفيًا أو جسديًا، أو إخضاعه بالقوة وإجباره على تجاهل رغباته ومشاعره وأفكاره.
يحدث القمع أحيانًا بشكل مباشر أو غير مباشر. يمكن أن نظن كنساء عربيات أن فروض المجتمع وقيوده تخصنا نحن فقط وترتبط بمجتمعنا الشرقي، لكن مع الاطلاع على فنون البلدان الأخرى نكتشف أننا لسنا وحدنا من نواجه قيود المجتمع على النساء. ربما نجد في ذلك العزاء، وربما تؤجج هذه الأفكار مشاعر الغضب والرغبة في التخلص من تلك القيود الاجتماعية التي تكبل المرأة في أي مكان كانت.
في الفيلم الجورجي My Happy Family تقرر البطلة فجأة في عيد ميلادها الخمسين أن تترك منزل عائلتها الذي تعيش فيه مع زوجها وابنها الذي بلغ عامه العشرين، وابنتها التي تزوجت معهم في منزل العائلة نفسه.
تظهر بطلة الفيلم كمعلمة تقوم بواجباتها كاملة تجاه أسرتها وزوجها ووالديها. لا تختار شيئًا بإرادتها. دائمًا هناك أولوية أخرى غيرها، تذهب للسوق فتشتري ما تطلبه أمها، ترتب المنزل كما كان دائما منذ سنوات، تأكل ما ترغب فيه العائلة، تشاهد ما يشاهدونه، وتستمع إلى ما يستمعون إليه، ليس لها الحق في تغيير شيء من موضعه في منزل العائلة، تفعل كل شيء تبعًا لاختيارات الآخرين.
في ليلة عيد ميلادها الخمسين، طلبت من زوجها بإلحاح ورغبة قوية ألا يدعو أحدًا من الأقارب أو الأصدقاء، وأن تقتصر الليلة عليهم فقط دون ضيوف أو واجبات اجتماعية، ولكن تجاهل الزوج رغبتها متعمدًا ودعا العائلة والأصدقاء؛ امرأة في الخمسين من عمرها، لكنها لا تزال غير قادرة على اختيار ما تريد، ولا يسمح لها أحد من الأساس بالاختيار، تقرر البطلة في تلك الليلة تنفيذ رغبتها، والتمسك باختيارها حتى النهاية، ولا تقابل الضيوف. ربما كان هذا القرار هو القرار الوحيد الذي اتخذته بإرادتها الحرة منذ سنوات.
أرمم الحياة
لسنوات طويلة كنت أحاول ترميم حياة بدا منذ زمن أنها ليست ما تمنيت، لاعتبارات مختلفة، أخرها تعارضها مع ما أرغب فيه أو ما أرجوه.
يعاملنا المجتمع، كنساء، على أننا جماد، لا ينبغي لنا التغير أو التطور؛ تزوجت في الرابعة والعشرين، وكنت قررت قبل الزواج بسنة ارتداء الحجاب، اتخذت قراري دون ضغط أو طلب من أي شخص، لا أمي أو خطيبي، في ذلك الوقت، وبعد أن صرت أمًا اخترت بشكل حر تمامًا التفرغ للأمومة، اختبرت كل لحظاتها و معانيها الجميلة مع ابنتي الأولى، كنا نحكي الحكايات ونصنع الأشغال اليدوية ونلون ونحضر الفعاليات الفنية، سنوات من الأمومة الخالصة دون أي شوائب أو اهتمامات أخرى. اعتقدت أنني أما مثالية بالتخلي عن كل أحلامي لصالح الأمومة، لكنه كان اختياري.
كنت أعتقد أن استعادة الأحلام بمثل سهولة التخلي عنها، غير أنني كنت ساذجة. الزوج والعائلة والمجتمع يساندون المرأة عند رغبتها في التخلي عن أحلامها، لكنهم لا يساندونها أبدًا عندما ترغب في استعادة تلك الأحلام المفقودة.
في مشهد من أهم مشاهد الفيلم، تغيب إحدى طالبات المعلمة لمدة شهر ثم تعود من جديد، فتسألها المعلمة عن سبب غيابها، فتخبرها أنها انفصلت عن زوجها، وعندما تسألها عن السبب، تقول لها "كنت كلما أردت شيئا لا يريده، وكلما أراد شيئًا لا أريده". تشبه تلك الجملة على بساطتها لحظات التنوير في الروايات، تلك اللحظة التي يكتشف فيها البطل الحقائق؛ اكتشفت المعلمة صاحبة الخمسين سنة أن اختلاف الرغبات أو عدم تلاقيها سبب كاف للانفصال.
تريللر فيلم MY Happy Family
هل يمكن أن يتخلى الأب عن أحلامه ورغبته للترقي في العمل أو تحقيق النجاح لمجرد أنه صار أب؟ لست في حاجة الآن إلى سماع تلك الجملة الكليشيهيه "الراجل غير الست"؛ بالتأكيد ثمة اختلافات بين الرجل والمرأة، بيد أنني لست بمعرض مناقشة الاختلافات، وإنما أحاول توصيل فكرتي الشخصية الطبيعية عن أن كل منهما إنسان، له أحلامه وأمنياته ورغباته التي ربما تخالف رغبات وأمنيات وأحلام الطرف الثاني، لماذا يطلب من المرأة دائما التضحية بهويتها وفرديتها ويتم كبتها من أجل ملائمة كتالوج المجتمع والعائلة والتقاليد والزوج؟
.. ثم أعنف نفسي
عندما فكرت في الانفصال لأول مرة، عنفت نفسي بقوة، كأن هناك شخصيتان تتصارعان بداخلي؛ شخصيتي التي ترغب في الانفصال بسبب اختلاف الطبائع والأفكار والأحلام، وأخرى تحمل بداخلها كل أفكار المجتمع عن أسباب الطلاق المعتادة، مثل الخيانة، أو البخل أو الإساءات الجسدية.
لم أستطع في بداية الأمر إقناع نفسي بأن اختلاف الطباع والأحلام والإرادة أسباب كافية للانفصال، استمررت لسنوات أحاول ترويض نفسي، وتغيير كل ما لا يناسب كتالوج المجتمع، والبعد عن كل ما يغذي اختلافي. سنوات طويلة لا أتكلم كما أرغب أو أرتدي ما أحب أو أفعل ما أتمنى، سنوات من محاولات التوفيق بين رغباتي وما هو مفروض علي.
كثيرات يمكنهن تخيل المشاعر التي كنت أشعر بها وأنا أحاول قتل هويتي الشخصية وكبتها من أجل المنزل والأطفال والمجتمع، كل صباح أفتح عيني محاولةً البحث عن سبب استمراري في الحياة، كنت أتعجب كلما رأيت شخصًا يضحك أو يشعر بالسعادة، كل اللحظات التي كان من المفترض أن تكون جميلة لم تكن كذلك بسبب هالة الاكتئاب التي أحاطت بي وبحياتي وبوجودي بالكامل.
تلك اللحظة التي اختارت فيها ألا ترضخ لإرادة زوجها وأن ترفض الواجبات الاجتماعية التي تحولت إلى عبء نفسي ومعنوي، جعلتها تجرب التحرر من إرادة الآخرين وتستعيد نفسها مقررة مواصلة التجربة للنهاية، وترك بيت العائلة وتعيش في شقة مستأجرة بمفردها، فيحاول جيش كامل من أفراد أسرتها إثناءها عن قرارها، لتظهر المشكلة الأساسية للفيلم: هل ستتابع البطلة سعيها للتحرر والاستقلال أم ستتراجع أمام الضغوط الاجتماعية كما تراجعتُ لسنوات؟
أستطيع في هذه اللحظة التي أعيشها الآن أن أتفهم تمامًا مشاعر البطلة، بعد أن تركت العائلة وبقت بمفردها في شقتها الصغيرة. شقة لا يمكن مقارنتها بالمنزل القديم بالطبع؛ بلا كماليات أو خزانة حتى لوضع الملابس. لكن ماذا يهم؟ يمكنها أن تستشعر حريتها، يمكنها أن تأكل وقتما تريد وتسمع الموسيقى التي تختارها أو حتى تصمت وتشاهد اهتزاز الأشجار من شرفتها دون شعور بالذنب. تتبع الكاميرا البطلة عبر مجموعة من المشاهد البطيئة والآسرة، واللقطات المصورة من فوق كتفيها أو اللقطات المقربة لوجهها المعبر وهي تتحرك بحرية وأحيانا بقلق بين المداخل والأبواب، تبحث عن بعض الخصوصية والأمان في متاهة كبيرة من السيطرة الذكورية والحماية الأبوية.
ربما تكون الحماية الأبوية هي كلمة السر والمفتاح المستخدم لقهر الكثيرات. لا يرتبط مفهوم الحماية الأبوية بالأب فقط، لكنه يمتد إلى الأم والعمات والخالات، والأخوة خاصة الذكور منهم، ظهر هذا المعنى بشكل واضح في الفيلم، عندما قررت العائلة بالكامل التدخل لإثناء البطلة عن قرارها وكأنها طفلة أو مراهقة لا تملك حرية الاختيار ولا حرية تقرير مصيرها، رغم بلوغها عامها الخمسين، ينظر الجميع إليها باعتبارها الابنة التي يفترض أن ترضخ لإرادة الكبار.
لسنوات طويلة كنتُ تلك البطلة التي يتوجب عليها الرضوخ لإرادة الجميع في كل ما يخص تفاصيل حياتي، حتى ما هو شديد الخصوصية منها، كل خطوة أخطوها، وكل كلمة أكتبها، وكل قطعة ملابس أرتديها، يجب أن توافق عليها العائلة، والزوج، وعائلة الزوج، والجيران في البناية، وأصحاب المحلات في الشوارع، ومعلمات بناتي وأمهات صديقات بناتي، والمجتمع والناس. كلما فكرت في فكرة أو رغبة يجب أن أضعها في اختبار المعايير العائلية والاجتماعية للجميع عداي.
نهاية سينمائية
في الفيلم كما في الواقع، يمكن للرجل أن يفعل ما يريد، ومن واجب المرأة قبل كل شيء الحفاظ على سعادة جميع من حولها من خلال طبيعتها المسالمة المضحية.
لا تجد بطلة الفيلم طريقة لشرح أسبابها للجميع، ليس لأنها لا تملك أسبابًا للرحيل، لكن لأن لا أحد سيتفهمها، هي تعرفهم جيدًا، لذلك كررت أكثر من مرة أن الأمر لا يتعلق بالعنف الجسدي أو العنف الجنسي، الأمر لا يتعلق فقط بالمشاكل التي يعترف بها المجتمع والتي نعرفها جميعًا، لكن الأمر أكثر عمقًا، والأذى الذي تعرضت له، وتعرضتُ له مثلها، بقهر الإرادة، وكبت الأحلام والإجبار على أن نكون أشخاص لا نعرفهم هو أذى لن يهتم لأمره أحد في مجتمع عالمي يبدو أنه يصر على إلغاء فردية المرأة وتدجينها وتحويلها إلى أداة لخدمة كل من حولها. رغم إصرار الأحباء أن أفعالهم نابعة من الحب، لكنها نابعة في الواقع من رغبة عميقة في السيطرة، للحفاظ على الصورة الاجتماعية المثالية.
التفكير في القرارات ربما يأخذ عمرًا كاملًا، سنوات كاملة مرت وأنا واقفة على ضفة وأتمنى القفز إلى الأخرى، لكنني مكبلة تمامًا مثل بطلة الفيلم.
منذ أن قررت الانفصال وأنا أشعر أنني أستعيد نفسي من جديد، نفسي التي فقدتها تدريجيًا على مدار سنوات. الهواء أصبح أكثر نقاءً، ألوان المجلات عند بائع الجرائد أصبحت أكثر سطوعًا وجمالًا، منزلي الذي ضقت به، اتسع من حولي وأحببته بعد أن كنت أكره كل تفاصيله، الشوارع التي نسيت المشي بها تذكرت خطواتي فيها؛ خطواتي التي تشبه خطوات بطلة الفيلم بعد أن استعادت نفسها. خطوات اخترت أن أمشيها بحرية كاملة، فتسللت إلى ذاكرتي بخفة لتمحو كل الخطوات التي مشيتها غصبًا في الشوارع التي لم أحبها يومًا، عدت للطرق والمحال و والفترينات المألوفة بعد أن أجبرت لسنوات على زيارة المولات المغلقة الباردة.
أشعر الآن أن حياتي مازال بها متسع لسماع موسيقاي المفضلة، ومشاهدة فيلم، وتدخين سيجارة. حياتي معي بالكامل، أو بالأحرى ما تبقى منها. أفكاري حرة مثل موسيقى هادئة تدور في خلفية حياتي. أرفع صوت أم كلثوم وأغني معها وأنا أفكر في معنى الحرية ومعنى البيت. جوهر الحرية هو أن أفكر فيما أريد ومعنى البيت يتلخص في احتضانه للحظاتي وأفكاري التي لا يعرفها أحد. بيتي الذي استمتع بوجودي فيه وأتنقل بين غرفه بحرية بعد أن تحررت من داخلي، بعد أن أصبحت أقترب كل يوم أكثر من نفسي. أصوات الإعلانات وأضواء شجرة الكريسماس التي تومض برتابة، وضجة الأطفال وأشياؤهم المبعثرة، وضجيج الشارع وأصوات الجيران والباعة. كل التفاصيل التي كنت توقفت عن الاستمتاع بها، استعادت بهاءها من جديد بعد أن استعدت نفسي وتغلبت على الخوف وقفزت إلى الضفة الأخرى في الحياة. الضفة التي أرغب أن أقضي بها سنواتي القادمة أيًا كان عددها وأيًا كانت أحداثها، يكفيني تمامًا أنني أحاول الاقتراب من نفسي التي أعرفها بلا زيف وبلا أقنعة وبلا محاولات لإرضاء الجميع وبلا رغبة في الاستمرار في تضحيات إجبارية وغير مقدرة وغير ضرورية.
.. وأخرى من الواقع
يبدو أنني أتتبع النهاية اللطيفة لمجرد رغبتي في إنهاء الكتابة بشكل يشبه نهايات الأفلام القديمة. أو ربما لم أجد تقاطعًا مع حياتي في نهاية الفيلم، خاصة عندما اختار زوج البطلة أن يزورها في شقتها المتواضعة ليعلق لها الأرفف الخشبية دون أن نعرف هل سيعودا إلى بعضهما البعض أم لا. لكننا كمشاهدين شعرنا بلطف العلاقة الإنسانية النابعة من المحبة رغم الانفصال، وهو ما لم يحدث معي في الواقع.
ربما استعدت جزءًا كبير من حريتي الآن بالفعل. يمكنني أن أصحو وقتما أريد وأنام وقتما أريد . أدخن سجائري دون اتهامات أخلاقية، أسمع الموسيقى والأغنيات التي أفضلها، لا ألتزم بالطهي يوميًا، أعمل وقتما أحب وأغلق اللاب توب في الوقت الذي يناسبني. لا أبحث عن جوارب ضائعة ولا أهتم لأمر الجوارب أصلًا. كلما فقدت فردة من جورب ما ألقي الفردة الأخرى في القمامة مباشرة دون تفكير. متعة كبيرة جدًا ألا أكون ملتزمة بالبحث عن جوارب شخص ما، كل شخص يجب أن يبحث عن جواربه لنفسه، أعتقد أن هذه أبسط قواعد الاستقلالية.
بالعودة إلى النهايات اللطيفة التي لم تحدث معي، وحتى لا تبدو الصورة وردية كما نهايات الأفلام، أنا مازلت عالقة. أدركت الآن معنى الجملة التي يقولها الرجال لمكايدة النساء اللواتي يرغبن في الانفصال "أنا هسيبك معلقة كده". أنا الآن معلقة لا متزوجة ولا مطلقة. يمكنني ببساطة تغيير الحالة الاجتماعية على فيسبوك من متزوجة إلى "منفصلة" وهي الأقرب لحالتي، لكن الأمر أعمق من مجرد تغيير الحالة الاجتماعية. الأمر هو أن الرجل لا يتقبل ببساطة رغبة المرأة في الانفصال. تنجرح ذكورته التي ضخمتها العائلة وضخمها التاريخ والمجتمع عندما تطلب المرأة الانفصال، ولا يجد دواء لكبريائه المجروح سوى أن يتركها معلقة، رغم معرفته أن الزواج سينتهي إن عاجلا أم آجلا، بحكم القاضي، لكن... . كأنما الوقت هو العقاب أو الثمن الذي يجب أن تدفعه النساء لاقتناص حريتهن.
ليس الوقت فقط، لكن البحث عن أسباب مقنعة للانفصال. أسباب مقنعة للأهل والأصدقاء ولجان التحكيم الأزهرية المكونة من رجال بعمائم وقفاطين. رجال لا أعرفهم نهائيًا وملزمة بأن أقابلهم وأقنعهم بأسباب الانفصال التي تخصني. ألا تكفي رغبتي؟ لا بالطبع لا تكفي. يجب أن أبحث عن أسباب تقنع رجال اللجنة، التي لا أنفي تعاطف بعضهم، واستنكار بعضهم، وغضب البعض الآخر. لا أحب أن يتحول الأمر إلى كليشيهات عن إجراءات الطلاق، وذكورية المجتمع، وقهر المرأة، في حقيقة الأمر لا أشعر أنني امرأة مقهورة، لكنني امرأة غاضبة أحيانًا، وحزينة أحيانًا، ومحبطة أحيانًا. تحول البكاء إلى ما يشبه عادة يومية دون سبب. أصبح العمل ضرورة بعد أن كان رفاهية. تغيرت الأولويات المادية بشكل كبير. زادت أسئلة الصغيرات عن أسباب الانفصال، وأنا ملزمة بإجابات لطيفة ومحايدة ونموذجية، لا أستطيع الالتزام بها طوال الوقت.
تتداخل النهايتان معًا، ولا يمكنني أن أرجح كفة إحداهما على الأخرى. أستمتع بالحرية المستحقة، وأتلاشى تمامًا في ثقوب الاكتئاب السوداء. أدخن باستمتاع تام، وأنا أبتلع* أقراص البنادول والفولتارين لأتجاوز آلام الرقبة من الجلوس لساعات أمام اللاب توب، لكنني متأكدة أن السنوات الباقية لي تستحق أن أكافح من أجل أن أعيشها كما أرغب تمامًا، فأدفع الثمن باختيار رغم بركان الغضب الذي ينفجر بداخلي كل يوم.
* لا تشجع المنصة على تناول الأدوية دون العودة إلى طبيب متخصص.