1
في العام 1937، في جزيرة بعيدة ومنسية من العالم، على شواطئ الكاريبي، كان يتعايش الناس، البيض والسود معًا، حتى وقف رفاييل تروخيو، رئيس جمهورية الدومنيكان، وجندي المارينز السابق، يخطب في شعبه ويخبرهم أنه وجد حلًا للهايتيين السود الذين يشيعون في بلده الأبيض كالطاعون. قال تروخيو "اليوم تم القضاء على 300 الهايتيين، ونحن مستمرون في هذا العلاج".
لفترة طويلة كانت الدومنيكان وهايتي بلدًا واحدًا، أو بالأدق جزيرة واحدة، تدعى هيسبانيولا كما سماها المستكشفون الأوائل. جزيرة متوسطة الحجم في البحر الكاريبي، تتمتع بالجو الصافي، والشواطئ المبهرة، ويعيش فيها جمع كبير من البيض ذوي الأصول الأوروبية، جنبًا إلى جنب مع السود ذوي الأصول الإفريقية. وفي العام 1804 حصل السود على استقلال دولتهم في نصف الجزيرة الغربي وسميت هايتي، وبعدها بسنوات قليلة، اقتدى بهم البيض وحصلوا على الاستقلال لدولتهم في الجزء الشرقي وسميت الدومينيكان، ومن هنا كانت الشرارة الصغيرة للكراهية والتمييز بين الدولتين، بناءً على اللون، وإن استمرت الحياة المتجاورة بشكل يومي.
في العام 1930 وصل تروخيو للحكم، بدأ ينفرد بالسلطة، ويستولي على المصانع والمزارع لنفسه، ويقتل أي معارض، وعندما اشتد غضب الناس ضده، أعلن أنه سيقوم بالإصلاح، وبأنه سيحمي البلد من الخطر الأسود، من الهايتين؛ قال إنه سيستعيد مزارع السكر ومصانع الطاقة منهم، وسيرجع شرف كل امرأة اغتصبها أسود هايتي. وبالفعل، بدأ رجال الجيش الدومينيك ملاحقة أي أسود البشرة في شوارع العاصمة مدينة تروخيو، سان دومينجو سابقًا، وكل المدن الأخرى، وعلى الحدود.
كان لا بد من الإصلاح، ولا بد أن يستمر القتل كي تطهر البلد كما أراد تروخيو.
2
في العام 2013، في أواخر يوليو/ تموز، كان الصيف حارًا جدًا وصلت فيه درجات الحرارة إلى أرقام قياسية، وكانت القاهرة تغلي؛ تغلي حرفيًا.
بعد أن عُزِل الرئيس، لم يهدأ الشارع أبدًا. ومنذ أيام، كان الجنرال الذي عزل الرئيس بمباركة نصف الشعب تقريبًا، يطلب من الناس التفويض للمواجهة. هكذا بدون أسباب، قالها فقط من وراء نظارته الغامقة، التي لم تظهر لون عينيه.
امتلأ الميدان فعلا لأجل طلب الجنرال. في تلك اللحظة كان يدخله شابان، لنسميهما الأول والثاني ، قادمان من الميدان الآخر الموالي للرئيس والممتلئ أيضًا. دخلا الميدان المعادي لرأيهما بدافع الفضول، واستكشاف حقيقة ما يقوله فيسبوك بأن أحدًا لم يستجب للجنرال.
لكن الصدمة كانت قوية، اتضحت لهما الهوة التي سقطا فيها فجأة، وسط الأعلام الكثيفة، والأنوار الخضراء التي تبرق في السماء، والأعداد التي تفوق أعداد ميدانهما الآخر، والأدهى أن كل هؤلاء الناس الذين يتراقصون بهستيريا، لا يرددون سوى شيئًا واحدًا: اقتلهم.
خرج الشابان من وسط التدافع المميت، عائدين إلى ميدانهما، كان كل منهما خائفًا ويشعر برجفة خفيفة، إلا أن أيًا منهما لم يعترف بأي خوف، بل سارا صامتين دون أي نقاش، حتى ركبا أول ميكروباص يمكن أن يتجه بهما إلى الميدان الآخر، البعيد جدًا.
في العودة إلى ميدانهما، كان الميكروباص ينهب الطريق شبه الخالي، بينما ظل "الأول" يراقب أعمدة الإنارة المتتابعة، ويتساءل في نفسه كنتيجة لصدمة الأعداد التي رآها: هل يمكن أن ينهزموا؟ بينما كان "الثاني" يعد النقدية ليدفع الأجرة. توقف السائق بغتة وأخبرهما أنه لن يكمل الطريق خوفا من الكمائن، وعليهما أن يكملا الباقي مشيًا.
سارا بخطوات غير ثابتة، كانت الشوارع فارغةً تمامًا، ولا يمكن التكهن أو معرفة أي شيء. سأل "الثاني" رفيقه "الأول" بشيء من الرهبة: تفتكر ممكن يفضوا الميدان الليلة؟ كان السؤال صاعقًا لكنه ملح بشكل ممرض. قال "الأول" إنه لا يعرف، وهو يداري خوفه من هيستريا الوجوه التي رآها تملأ ميدان الجنرال وكل الشوارع المحيطة به، وتلك الهتافات الزاعقة التي مازال رنينها المرعب يشرخ أذنيه. سأل "الأول" دون أن يظهر أنه يسأل: طب احنا عاوزين زيهم؟ هز "الثاني" رأسه دليلًا على عدم الفهم، وأخرج هاتفه ليستطلع ما يحدث في ميدانهما. لكنهما وجدا نفسيها فجأة في قلب كمين للجيش، تحيط بهما البزات الكاكي. كانا قد وصلا بالقرب من أرض المعارض، فاقترب منهما جندي ريفي يعلق شارة حمراء على ذراعه الأيمن، طلب منها البطاقات الشخصية، وألقى عليهما سؤالًا بنبرة إلهية.
- رايحين فين دلوقت؟
3
من منتصف سبتمبر/ أيلول وحتى أواخر أكتوبر/ تشرين الأول في العام 1937، عاش الهايتييون أسوأ شهر في حياتهم. بدأت الملاحقات والتصفيات المجنونة تطال كل شخص، وكل الأعمار ذكورًا وإناثًا. وكان المجندون الدومنيكان لا يقتلون بإطلاق الرصاص أبدا، وإنما باستخدام المناجل العريضة التي تستعمل عادة لتقطيع الموز وقصب السكر، كان لابد من إسكات الرصاص حتى لا يظهر الأمر وكأنه جريمة مدبرة، وإعلاء صوت المناجل ليبدو أنها انتفاضة من الفلاحين ضد الأغراب السود.
لكن السود لم يكونوا أغرابًا، وإنما كانوا يشبهون كثيرًا من أهل الدومنيكان، يشبهونهم في طريقة الحياة، وطريقة الحب، وحتى في الملامح ولون البشرة، فقد كان ربع الدومنيكان أو ثلثهم تقريبًا من ذوي البشرة السوداء، أو القمحية التي تميل إلى الأسود، وحتى في المناطق الحدودية، كانت العائلات متداخلة بشكل كبير، يتزوجون من بعضهم، ويعيشون مع بعضهم كيفما اتفق. لكن حكومة تروخيو، أبو الأمة كما لقب نفسه، لم تكن لتقتنع بذلك، فمنذ سنوات لم تصدر كلمة في الراديو أو الجرائد إلا وتهزأ من الهايتيين وتحط من قدرهم، كأنهم ليسوا بشرًا، ولا يستحقون الحياة أصلًا.
حاول الهايتيون النجاة بكل الطرق، الهرب من ملاحقات الجيش، الجري والاختباء في الأوكار، التخفي في الغابات البعيدة والحقول، أو الصعود إلى الجبال، أو العبور من الحدود والعودة إلى وطنهم إذا حالفهم الحظ الإلهي. في تلك الأثناء كان الجنود الدومنيكان، الذين ارتدوا أزياء مدنية بالطبع، لا تتملكهم ولو لحظة شفقة عند جز رأس أي أسود، مهما ترجاهم أو بكى أو حتى قبل أرجلهم ووعدهم أنه سيرحل ولن يعبر الحدود أبدًا.
لكن المشكلة الكبرى التي واجهت الجنود الدومنيكان كانت في التفرقة بين السود من هاييتي والسود من الدومنيكان. ظلت المشكلة متضخمة في بداية الملاحقات حتى توصل الجنود إلى السير في الشوارع ممسكين حزمة من البقدونس وإجبار الضحايا على نطق اسمها باللغة الإسبانية.
يدعى البقدونس في الإسبانية "بيرهيل"، لكن اللسان الهاييتي ينطق تلك الكلمة بدون الراء تمامًا، وكانت تلك نقطة الضعف التي تكشف الضحية. كان المشهد في غاية العبث، فنبتة البقدونس تلك مسالمة لأبعد حد، حتى أنها لا تنتصر لنفسها بأي تمييزات شكلية أو عطرية تميزها عن غيرها من النباتات الورقية الأخرى، بل وقد تعد مهملة جدًا في معظم الأكلات والمطابخ، إلا أنها ولسوء حظها العاثر كانت هي كشاف القتل الذي يقود الجنود لتصفية ضحيتهم. حتى قيل فيما بعد: ورقة البقدونس كانت هي الفاصل بين الحياة والموت.
لم يُعرف إلى الآن عدد ضحايا حملة تروخيو تلك، إذ تم رمي الجثث في الوديان والأنهار، وحرقها حتى لا يوجد لها أي أثر. يمكن أن يكون العدد أربعة آلاف، أو خمسة عشر ألفًا، أو عشرين ألفًا، لكن الأكيد أن كلهم كانوا سود البشرة، ولم يستطيعوا قول بقدونس بالشكل اللائق.
سيُسأل تروخيو فيما بعد عن أهم ما قدمه لبلده، سيقول إنه أنقذها من الهايتيين، أي قتلهم.
4
في تلك الليلة، ازداد الجو حرارة، حتى أحس الشابان في وقفتهما أمام الجندي كأن الهواء سيسقط فوق رأسيهما في أي لحظة.
حاولا تأليف أي كذبة تجعلهما يهربان منه، وكانت المفاجأة أن الجندي، القروي غالبًا، اصطنع أنه صدقهما، لكنه لم يسمح لهما بالعبور، وإنما قال لهما إنه سيجعلهما يعبران من أرض المعارض إلى الجانب الآخر، وبرر فعلته تلك بقوله: لأن فيه ضرب نار.
سارا في أرض المعارض المظلمة والصامتة كالمدفن، لم يتكلما، كان كل منهما يسترجع صورة الميدان الآخر وكلمة الجندي عن ضرب النار، غارقان تمامًا في تفكير يستهلك قلبيهما، كانت تلك لحظة من لحظات الشك الخالصة التي تهدم كل ما يؤمن به المرء في حياته، حبه الأول، أفكاره السياسية، صلواته، الشتائم اللتي أضمرها ولم يقلها، وحتى الميدان الذي يتظاهر فيه.
عندما خرجا من بوابة أرض المعارض التي تطل على طريق النصر، سارا لدقيقة واحدة حتى كانت المفاجأة، أن هناك ضرب نار بالفعل، تخشبا في مكانيهما، أخرج "الثاني" هاتفه بسرعة ليتصل بأي شخص، أما الأول فوقف يراقب ما يحدث، رأى الأجساد السوداء كالغربان وهي تتحرك بسرعة خاطفة والبنادق تبرق بين يديها في اتجاه الناس، لم يكن يرى الناس بالطبع، ولكنه تخيل شكلهم بالدماء والعرق والخوف الذي يفلق العيون في تلك اللحظات.
كان "الثاني" يرى الهول متجسدًا على وجه زميله، فسحبه من يده، والتفا حول من طريق بعيد حتى يصلا الميدان من الناحية الأخرى. كانت مسيرةً طويلة ومرهقة، ولم يستطع أي منهما قول أي شيء، سوى سؤالين، خرج واحد من كل منهما. سأل الثاني صديقه: لما نوصل هنلاقي حد حي؟
وصلا بعد الفجر، كان الظلام يغادر السماء ببطء، لكن الجو لم يضيء بعد. دخلا الميدان متخليين عن أي دهشة أو مفاجئة، كان السؤال يلتقي في أعينهما: هل متنا؟ عبرا من الأجساد الخائرة من التعب، وسط رائحة الدخان الخانقة، وكثافة العرق التي تسيطر على كل شيء، وصلا حتى مدخل الميدان، حيث كانت تقف الأجساد السوداء كالغربان في الليل. جلس الأول على الرصيف متعبًا، بينما تابع الثاني عدة خطوات أمامه، ثم عاد إلى زميله، كان الجنون يحكم كل شيء، وعلى الأرض أمامهما تشكلت بقعة دم غامقة مخلوطة بالتراب، فقد كان على أحدهم أن يدفع الثمن.