لا شيء يشبه انتفاخ الإنسان على خوائه المعرفي، الجميع يريد أن يحذو حذو تشارلز بوكوفيسكي في الهيبية الأدبية، الجميع يبرر الانكفاء على الأخطاء في هفوات عبد الفتاح كيليطو، الجميع يقرأ منشورات أحمد خالد توفيق وأحمد مراد على فيسبوك بينما قلة ستقرأ الجحيم لدانتي، الجميع يريد أن يكتب الروايات ولا أحد يريد أن يكتب الأفكار، الجميع يريد الحقيقة دون المرور بالشّك.
أردد ذلك بيني وبين نفسي حينما أتطلع حولي وأرقب هذا الهوس الذي انتشر في الآونة الأخيرة وأصبح ظاهرة لافتة للنظر، فبالتزامن مع انعقاد الدورة الثالثة والخمسين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، تطفو على السطح عناوين كتب وروايات وأعمال تؤكد المثل القائل "ليالي العيد تظهر من عصاريها". تحولت هذه الظاهرة بحد ذاتها إلى إشكالية تدلل على وجود خلل في المنظومة الفكرية ككل، بدءًا من وعي الناشرين بأدوارهم، وانسياقهم وراء الربح المالي دون النظر إلى قيمة المعرفة والأدب، وتحولهم إلى دور نشر تطبع الكتب استجابة لطلب القراء في السوق، حتى وإن كانت إصدارات استهلاكية لا تضيف قيمة للمعرفة، وصولًا إلى مدعي الثقافة الزائفين "المهووسين" بالترميز حد التشفير، انتهاءً بالأفكار المعاد تدويرها حد الرجعية أحيانًا.
لماذا "الهوس" كمصطلح؟
إذا أردنا أن نكون أكثر دقة في توصيف تلك الظاهرة فنحن بحاجة لضبط المصطلح أولاّ، فعندما نتحدث عن "إقبال" أرى أنه مصطلح لا يفي بالغرض هنا، فهو بذاته يحمل دلالة معبرة في سياق ارتباطه بهذه الظاهرة، فهي تعني التوجه إلى الشيء دون تبيان طبيعة التوجه؛ حبًا، شغفًا، دراسةً، أو تأثرًا نفسيًا وفكريًا أو فضولاً، وهكذا يضاف إلى المعنى الالتفات إلى شيء بعد التنبه به، وكأن الاقبال عليه كان بداية معرفته من الأساس، لذلك قررت إقرانها بكلمة "هوس"، لتصبح "هوس الإقبال" حتى يستقيم ما أريد الإشارة إليه في هذا المقال، وحتى لا نعول على أن المصطلح سوف يفضي إلى ظاهرة ثقافية، حسبما أرى، وتتضح دلالة المصطلح صريحة تنطق عن معنى الظاهرة.
في مصطلح "هوس الإقبال"، أردت توضيح السرعة التي حدثت بها الظاهرة بفعل عوامل مثل وسائل الإعلام الحديثة، وتطور تقنيات تداول المعلومات وغيرها، وهذا يعني شيئًا واحدًا أن العالم نفسه طرأت عليه تغيرات بنيويه كبيرة من فرط سرعتها على الإنسان يصعب علينا ملاحظة توابعها.
وحين كان تأثير الانفجار المعلوماتي على الحياة الفكرية والثقافية متوقعًا ببراعة في عام 1968، قال رائد الإعلام الحديث الكندي مارشال ماكلوهان بأن العالم أصبح قرية صغيرة، بالتزامن مع إضفاء الطابع الديمقراطي السريع على المعرفة بطريقة تثقل كاهلنا في كيفية تحديد من وما هو المثقف، وأن الهوية البشرية في عصر تكنولوجي متزايد ستصيبها العديد من الاضطرابات، ببساطة وسائل الإعلام ستدفع البشرية إلى القبلية، وأوضح أنه نظرًا لعدم قدرتنا على استيعاب كل نقطة بيانات أو معرفة الكثير عن الأشخاص جيدًا، فإننا نعتمد على الصور المقدمة لنا عبر تلك الوسائل، وبالتالي ننخدع ببساطة فيما هو حقيقي وفيما هو مزيف، ومن ضمن ذلك صورة المثقف الحقيقي والهرطقات المزيفة.
استنادًا إلى هذه النقطة تحديدًا، فإن الهوسّ الملاحظ يمثل ظاهرة سلبية على المدى البعيد، لأن الهوس هنا يعني "ضربًا من الجنون وخفة العقل وتضخم الأفكار، وانتقالها السريع من موضوع لآخر دون تمييز بين قيم المعاني وسرعة تداعياتها"، ولنأخذ مثالاً واحدًا من جملة الأمثلة التي يمكن ملاحظتها بسهولة في حسابات بعض الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي، فالبعض يعطي دروسًا في تجربته مع القراءة وهو لم يتجاوز في خبرته سوى سنين تعد على الأصابع، البعض الآخر يقيم الندوات في مناقشة روايات محدودة الأفق وهو لم يكتب جملة من خياله الخاص ثم يظن أنه هضم معنى القراءة والكتابة من العمق.
أذكر تعليق إحدى الطبيبات حديثة العهد في الهوس الثقافي على اقتباس لجلال الدين الرومي تقول فيه "الله عليك يا أستاذ جلال"، ورفيقاتها يتتبعن نفس خطاها في الثناء على "الأستاذ" جلال وفي نفس الوقت يستعرضن على صفحاتهن الكتب التي قرأنها بطريقة تكشف عن عمق التفاوت في الاختيار، وصعوبة الفهم الحقيقي لمعنى أن تكون مثقفًا، ففي كثير من الأحيان يتجاوز الأمر منطقة الادّعاء وينتقل إلى منطقة الحماقة.
دليلك للحصول على لقب "مثقف"
هل سئمت من أن تبدو مثل "العامة" لا تشارك بشيء عميق وذكي على حسابك الخاص؟ هل تريد أن يعرف الجميع أنك تقرأ الأدب الروسي والتنظير السياسي الماركسي؟ هل تريد المشاركة برواية "ساخنة" في معرض القاهرة للكتاب؟ هل تريد أن يعتقد الجميع أنك مثقف؟ إذا أجبت بنعم فلا داعي للحيرة، أنت على المسار الصحيح في طريق "هوس الإقبال" على ادعاء التثقف، في السطور التالية أقدم لك دليلك البسيط سهل التطبيق من الخبرات والمراوغات التي يطبقها الآلاف من مدّعي الثقافة حول العالم.
أهم شيء يجب مراعاته "كمهووس" مستجد في ادّعاء الثقافة هو ضرورة استخدام مفاهيم عميقة غير ذات صلة بأي شيء، وفي كل الأحوال لن يفهمها أحد، عند كتابة منشورك على فيسبوك أو في أحد أعمالك الروائية، حاول دائمًا أن تبدأ جملتك بـ "نحن نعيش في مجتمع..." سيكون كل ما تقوله بعد ذلك مؤثرًا للغاية، لذلك كن جريئًا ومبدعًا في ذلك، تذكر أنك هنا على حسابك الخاص على فيسبوك لإبهارهم، ولإيضاح ثقافتك المكتسبة حديثًا ولا مانع من إنهاء جملك بهشتاج #اسمك الموجود أساسا على صفحتك.
بمجرد أن تبدأ أفكارك من المهم تذكر أنه لا يجب أن تشغل نفسك بفهم الآخرين لكلامك، أو حتى فهمك الشخصي له، أنت تعلم أنك مثقف الآن وأفضل منهم، تشرب القهوة السوداء وتقرأ كل منشورات صفحات الاقتباسات العالمية، وتستطيع أن تكتب ما يحلو لك، إذا لم يفهمك أحد فهذه ليست مشكلتك.
إذا أردت أن تبدو أكثر ثقافة وعمقًا، استخدم كل المصطلحات الأساسية: الرأسمالية، الليبرالية، البرجوازية، الإمبريالية، والبروليتاريا. لست بحاجة لمعرفة ماذا تعني هذا المصطلحات، المهم أن تحتوي جملك على أكبر عدد منها. تلك النصائح الآنفة ستساعدك بالتأكيد على البدء في المسار الصحيح للحصول على اللقب، لكن لماذا في الأساس يريد أي إنسان "عاقل" أن يظهر بهذا المظهر؟ ما الذي سيعود نفعًا عليه من محاولة إضفاء هالة من الحكمة على أشخاص متوسطي/ محدودي المستوى الفكري؟
مرجع هذه الرغبة يعود إلى مساحة الاستعراض التي تمنحها الدوائر المحيطة محدودة الأفق لذلك المثقف الوهمي، فيتوقع التأثير دون معرفة علمية حقيقية، ويتخيل الأهمية دون انتاج فكري يذّكر. بعضهم قد يعملون بجد لتوسيع قدراتهم العقلية وزيادة معرفتهم، لكنهم ينحرفون عن الهدف الفعلي، بدلًا من امتلاك معرفة عميقة ببعض الموضوعات، يحاولون الحصول على فهم سطحي لها جميعًا، و يمتلكون ما يمكن أن نسميه "رؤية النفق"، أي يرون فقط ما يحبون رؤيته ولا يمكنهم النظر في موضوع من وجهات نظر مختلفة، نتيجة لذلك ، غالبًا ما يفشلون في فهم الصورة الأكبر فيصبح لديهم منظور محدود لا يرون فيه سوى "الصواب والخطأ" أو "الأسود والأبيض"، يهتمون فقط بأن يكونوا على حق أو يُنظر إليهم على أنهم على حق، بعبارة أخرى، المثقف المهوس بادعاء التثقف هو شخص يتظاهر بأنه أكثر ثقافة مما هو عليه في الواقع.
انتفاخ معرفي أم نرجسية مفرطة:
يخيل للبعض أن اللذات بأنواعها هي لذة المال أو الأكل أو الجنس فقط، لا يدركون أن بعض الناس لديها لذة أخرى قد تتفوق عليها وهي لذة لفت الانتباه والتحرّق للأضواء، ويصف علم النفس تلك اللذة على أنها سلوك نرجسي يتمثل في سعي الإنسان الدؤوب لوضع نفسه في بؤرة الاهتمام، وصناعة نجومية هشّة، وتقديم النفس بصورة مثالية، وليس شرطا أن يكون حب الذات هو الدافع لهذا السلوك، فقد ينشأ من كراهيتها.
تشير دراسات عدة إلى أن السلوك النرجسي مثل ادّعاء التثقف وهوس الإقبال على رسم الصورة المثالية قد يكون مصدره الافتقار إلى الرضا وتدني مستوى تقدير الذات ووجود حاجة ملحّة لإثبات النفس، وإذا كان الأمر يمكن تفسيره في إطار الترويج الذاتي Grandstanding، وبالتالي لا يمكن لهذه الحالة من التبجح والادعاء الثقافي أن تصنع مثقفًا فاعلًا أصيلًا، لأن الثقافة موقف وعمق وجوهر وانتماء حقيقي غير سطحي، ببساطة المثقف الأصيل هو حامل الفكر الإنساني المتوقد، المدافع عن حقوق الوسط الاجتماعي ضد القهر السلطوي، على العكس من ذلك تمامًا بالنسبة إلى مدّعي الثقافة، العاجز عن تنوير المجتمع وتثقيفه وزيادة وعيه، كونه ليس هدفا من أهدافه من الأساس.
ينتهج المثقف الزائف سياسة غض الطرف، فلا يهتم بفهم العالم أو طرح وجهة نظر مختلفة، إنهم فقط يريدون تعزيز احترامهم لذاتهم، هم مشغولون جدًا في صياغة صورتهم الرائعة، الأمر كله يتعلق بهوس الظهور بمظهر جيد وإحداث انطباع إيجابي، فهم يحبون استخدام كلمات وعبارات معقدة (حتى لو كانت خارج السياق) لإظهار مدى اتساع مفرداتهم أمام الجميع، وبالتأكيد سيرغب المثقفون الزائفون في التأكد من معرفتك لمدى ذكائهم بطريقة واحدة هي "اختطاف المحادثة"، فربما تتحدث عن ما ستتناوله على العشاء فيبدؤون نقاشًا حول الحكم العثماني في مصر، ودافعهم الوحيد هو إقناع الآخرين. لديهم دائمًا ما يقولونه عن كل شيء، وجميع الإجابات، كخبراء في الطب الآن، وخبراء إعلاميين بعد قليل.
حقيقة لست ضد التثقف، لكن ضد التعبير عنه بهذا الشكل من السذاجة والسطحية وحب الظهور. عندما تتحدث إلى مهووس زائف لن يقبل ببساطة الأفكار الجديدة، ما يجعلك تشعر بأنك "محاصر" في محادثة سامة، وقتها ما عليك سوى الانحناء والخروج وعدم المشاركة، فقط انسحب بهذه السهولة.
وربما نجد فيما صاغه لنا المفكر الإسلامي الراحل علي عزت بيجوفيتش، في كتابه هروبي إلى الحرية ملخصًا للحالة الثقافية ونقيضتها في الإدعاء حين قال "القراءة المبالغ فيها لا تجعل منا أذكياء، بعض الناس يبتلعون الكتب وهم يفعلون ذلك بدون فاصل للتفكير الضروري، وهو ضروري لكي يهضم المقروء ويبنى ويتبنى ويُفهم".
إن في ظاهرة المثقفين الجدد، الذين انجرفوا في "هوس الإقبال" على ادعاء التثقف وصاغوا من أنفسهم طبقة جديدة دخيلة على المجتمع الثقافي المعتاد قد اسميها "مثقف البوب كورن/ الفشار" بوصفه ينتفخ ويصدر أصواتًا صاخبة، وهو محض حبة فشار، في السياق أتذكر المثل الإنجليزي الشهير "الأواني الفارغة هي التي تصدر الأصوات الأكثر ضجيجًا"، علينا أن نتذكر في النهاية أن الثقافة الحقيقية خبرة تراكمية مثل الزهرة تتفتح شيئًا فشيئًا في ذهنك، فدعها ولا تستعجل عليها.