يحكون عن لعنة الفراعنة التي لجأ إليها ملوك تلك العصور البعيدة للحفاظ على ما لهم من سطوة وثروة حتى بعد الموت. تلك التي ما إن تصيب أحدهم حتى تنقلب حياته رأسًا على عقب. تناولتها كُتب، أساطير، روايات، وأفلام كخرافة. لكنها لو كانت واقعية؛ لكان أبرز ضحاياها عائلة الشاعر الراحل نجيب سرور، والتي تعرّض أفرادها لنكبات وأزمات متتالية كأنها تعويذة وألقيت فوق رؤوسهم، لا تتأثر أو تضعف بمرور الزمان أو اختلاف المكان أو تغيّر السياقات.
ففي عام 1978 توفى نجيب سرور بعد حياة مريرة، وفي 2022 لحقت به زوجته إلى القبر بعد أكثر من أربعة عقود من المأساة الأولى، وحوالي أربع شهور من بدء صراعها مع المرض، وفشل مناشدات علاجها الموجهة للجهات الرسمية.
اللعنة ليست في الموت، بل في سياقاته. ما سبقه وأحاط به من أحداث. وهنا اللعنة، تنكيل بالأب نجيب لمجرد محاولته تناول أوضاع في سطور تُشبه ملهاة وكوميديا سوداء تليق بواقع ذلك الوقت، ومن بعده ابنه لمجرد أنه أخلص لتركة أبيه، وأخيرًا الأم؛ حتى أصبح اسم نجيب سرور وعائلته أقرب لأسطورة، لما في تفاصيلها من دنو للخيال وبعد عن الواقع، كما تشرح حكايات بالسطور المقبلة لمن لا يعرف، وتُذكِّر مَن يريد استعادة ما كان.
شاعر العقل
ما إن يُذكر اسمه؛ حتى يلحق به عنوان قصيدته المثيرة لجدل جمهورها وغضب السلطة ورجالها ومَن في صفها من رجال دين أو رقابة. تقول "نجيب سرور"؛ فتجد الرد "آه، اللي كتب الـ كس أميات". وقد نالت هذه القطعة الشهرة الأكبر بين ما كتبه، حد أن البعض ينظر إليها كعمل "خارج"، دون النظر إلى ما كُتبت فيه من أجواء وسياقات.
ففي تلك الآونة كان هو كغيره من شباب وشعراء عهد ما بعد الملكيّة، حين كان الجميع متفائلاً بجمهورية وليدة يرفع القائمون عليها شعارات "العدالة الاجتماعية"، ولم تكن بداياتها تنبئ بما هو آت من أحداث نغّصت عليه شبابه وهو المولود عام 1932، ليشهد وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره هزيمة 1967.
من هنا صار الشاب أكثر عُرضة لما في وقت الحرب من جروح حتى ولو كانت كلمات، أحدها "بمبي"، تلك الأغنية جعلته يتشاجر وصديقه الشاعر صلاح جاهين، الذي كتب عن الحياة البمبي بعد عام واحد من حرب 1973؛ فكان عتابه عليه بجملته الشهيرة "بمبي يا صلاح؟!".
الحديث عن نجيب سرور كان يمكن أن يتخذ نفس سياقات وطرق الحديث عن شخصية مشهورة، بذكر أنه المولود في قرية إخطاب بمركز أجا بمحافظة الدقهلية، في الأول من يونيو عام 1932، وأنه نشأ وترعرع في تلك البيئة والمدارس حيث بدت موهبته كشاعر شاب، ثم التحق بتلك الجامعة وتخرج منها ليعمل في تلك الوظيفة، ثم ينال جوائز وتكريمات، هي في الحقيقة لم تكن من البلد ومؤسساته العامة والخاصة، باستثناء القليل لاسمه بعد عقود من وفاته.
لكن، ولأنه نجيب سرور، الخارج عن الأُطر والتقليديات، فللحكاية مسارات أخرى. فهو الطفل الذي اختزنت ذاكرته واقعة صادمة حتى كتبها وهو شاعر في الرابعة والعشرين من عمره. فأن ترى في صغرك والدك يُضرب بحذاء عُمدة القرية، ليس بالحادث الهيّن. فكان وأن انحفر في وجدان الولد الصغير هذا القهر، فلم يخرج فقط في صورة قصيدته الحذاء، بل وصار واحدة من علامات مشواره الشعري، الذي ربما انظلم باختزاله في "الأميات".
اللانمطية التي بدأت من الطفولة، استمرت مع الشاب الذي لم يكمل دراسته في كلية الحقوق، مُفضّلاً عليها ما يليق بموهبته، فتخرّج من المعهد العالي للفنون المسرحية، لتولد علاقاته مع أهل الوسط الفني من كُتّاب وشعراء وفنانين، حين بدأ إنتاجه المسرحي بأعمال شعبية كان أبرزها ما حمل اسم بطلي الملحمة الشعبية الشهيرة ياسين وبهية.
في تلك المسرحية، وبعد ما كان منه في قصيدة الحذاء، ثأر سرور من "الباشا الإقطاعي"، بجعله "المجرم القاتل" لياسين، الذي مات دفاعًا عن شرف بهية. ومن هنا، بدا الطابع المنحاز للشعب وفقرائه سمة لأعمال نجيب، فخرجت للنور أعمال أخرى بين أشعار مثل بروتوكولات حكماء ريش، ومسرحيات مثل يا بهية وخبريني.
ولأنه نجيب سرور؛ انحازت أعماله لضحايا أي سلطة، كما كان في مسرحيته الذُباب الأزرق، التي منعتها الرقابة في مصر بعد حديث بين السلطات الأردنية المعترضة عليها وبين نظيرتها المصرية، لأن ممثلي الأولى رأوا فيها ما يُشير إلى واقعة تصفية جيشهم لعناصر في المقاومة الأردنية عام 1970، فيما عُرف باسم "أحداث أيلول الأسود".
إذن، شخص بهذا "الشغب" حيال سلطات البلاد والانحياز لمهمشيها وفقرائها؛ كان من الطبيعي أن يكون على القائمة السوداء لحُكّام مصر في الستينيات، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المديح؛ فكان وأن عرف سرور طريقه إلى سجون ستينيات صلاح نصر بكل ما اشتهرت به من تعذيب وتنكيل، بل وإلى المصحّات العقلية أيضًا وقد اُلصِقَت به تُهمة الجنون.
وبهذا، حلّت لعنة من فراعنة مصر أو آلهتها أو حُكّامها، أيًا كان مُسمّى صاحب الحكم والسلطة واللعنة، على نجيب سرور، الذي كي تكتمل كوميديا حياته السوداء كان لقبه "شاعر العقل"، وهو ما لم يكن مُقنعًا للسلطات التي قررت إيداعه المصحة العقلية لأكثر من مرّة بداية من عام 1969 والأخيرة في 1978، عام وفاته.
ربما كان هذا هو الخطأ، تعامل نجيب بعقل مع أوضاع وسياسات وأحداث غير منطقية، فصار "المجنون" في أعين السلطات سواء في عهد ناصر أو السادات من بعده حتى رحيله 1978، مَن يكفيه حب جمهور عرفه وفهمه حتى بعد أعوام من هذا الرحيل، وفخر من ابنه فريد يبدو في كتاباته عنه وهو الباقي حيًا، بعد رحيل الأول شهدي، ومؤخرًا والدتهما الروسية ألكسندرا، لتكتمل ثلاثية المأساة ذات التفاصيل الأقرب لخيال، عاشته وربّها، نجيب.
مأساة الوصية
في قصيدته الشهيرة تلك، أوصى نجيب بكريه شُهدي بحبها، بلده مصر، "اكره واكره واكره بس حب النيل.. وحب مصر اللي فيها مبدأ الدنيا. دي مصر يا شهدي في الجغرافيا ما لها مثيل.. وفي التاريخ عمرها ما كانت التانية".
وبسبب قصيدته تلك، حلّت اللعنة على الابن الذي لم يكن بعيدًا عن انحيازات نجيب للبسطاء والمُناضلين، حتى بأبسط الصور والرموز؛ فحمل هذا الاسم، شُهدي، كمُساهمة من والده نجيب في تخليد ذكرى ضحية التعذيب في سجن أبو زعبل، صيف عام 1960، المُفكّر الشيوعي شُهدي عطية الشافعي، مثلما حمل شقيقه فريد اسم ضحية تعذيب شيوعية أخرى رحلت عام 1959، وهو الدكتور فريد حداد.
اللعنة لم تكن في اسم أو نسب، بل وصية، حمّلها لشُهدي والده نجيب، فهو وكما أوصاه في أبيات قصيدته تلك بحب مصر، فإن وصيته الأخرى لم تكن تتمثل إلاّ في نشر القصيدة نفسها "الأميات". برّ الابن بوصية الأب؛ فكان له هو أيضًا من السجن نصيب، حين داهمت الشرطة منزله، وألقت القبض عليه في نوفمبر/ تشرين ثان 2001.
في تلك الواقعة، واجه الابن الذي كان يعمل آنذاك مصممًا لصفحات الإنترنت بصحيفة الأهرام ويكلي الأسبوعية، تهمة "حيازة مواد إباحية بهدف نشرها وتوزيعها"، على الرغم من أنه حذّر قبل نشر القصيدة عبر موقعه على الإنترنت من أنها تُصنف كواحدة من "شعر الصدمة"، وأنها "تحتوي على عبارات قد يعتبرها البعض غير مقبولة أو خارجة".
لكن أصدر القضاء المصري حكمه في 30 يونيو/ حزيران 2002، بالحبس لشُهدي "المُدان" سنة مع الشغل وكفالة 200 جنيه؛ ما مثّل بالنسبة لجهات حقوقية ومحامين تضامنوا معه آنذاك "سابقة خطيرة تهدد حرية التعبير بشكل عام، وحرية وخصوصية الإنترنت على وجه الخصوص، وحرية الإبداع الفني والثقافي".
من القاهرة وسجنها إلى الهند، طار شُهدي وأكمل مشوار حياته، حتى كان للمأساة موعدًا جديدًا معه بإصابته بسرطان الرئة، والذي أتاه بكل قسوته ليُسكنه المستشفى بعد أن تبيّن أنه سرطان من الدرجة الرابعة، لم يكن على قدر من القوة لمواجهته صحيًا أو ماديًا.
وظل شقيقه فريد يحاول جاهدًا مع رجال أعمال مصر ومن قبلهم مسؤوليها للتدخل وإنقاذه، وانتهى الأمر إلى وفاته هناك. فيرحل شُهدي ويبقى اسمه، ليس فقط كابن لنجيب سرور، بل كأحد أفراد صحيفة بحجم الأهرام، وكذلك كصاحب بُعد فني بدا في مشاركته مع مخرج بحجم يُسري نصر الله، في فيلمه سرقات صيفية.
لكن ولأنه ابنه، ابن نجيب سرور، وكي تكتمل المأساة، وكما لعنت وصية نجيب شُهدي، فلعنته وأخيه وصيته هو نفسه، حين لم يذكر كثيرون الراحل شُهدي إلاّ باعتبار أنه "كافر" هو وأخيه الذي نفّذ وصيته وحرق جثمانه، حسبما حكى الأخ فريد في منشور له وهو يخوض المأساة الثالثة بعد الأب والأخ، حين كان يحاول إنقاذ الأم.
مأساة الأم
حين كان نجيب سرور هناك، في روسيا، وقت كانت الاتحاد السوفيتي، حيث كان يشارك في بعثة دراسية بمجال الفنون المسرحية، لم يترك طباعه وقناعاته، وكان على رأسها مهاجمة سياسات وممارسات نظام عبد الناصر في مصر وسوريا، حين كانتا تعرفا باسم الجمهورية العربية المتحدة.
في ذلك الوقت، حلّ الغضب على نجيب من السلطات، وهو ما ردّه بعض مَن تناولوا سيرته بكل خلودها وجدليتها على أنه نجيب "الماركسي ذي التوجهات المُخالفة لأفكار الدولة المصرية"، ونفى البعض الآخر من المتابعين لمسيرته والمحبين له عنه أيّة انتماءات سياسية إلاّ المتعلقة ببسطاء الشعب ممن نشأ وسطهم. وفي الحالتين، ووفقًا لأصحاب الرؤيتين، هو في نظر ذوي نفوذ ذلك الوقت ارتكب "جريمة"؛ لينتهي الأمر إلى الغضب عليه.
وسط كل تلك التفاصيل السوداوية، كانت هناك مساحة بسيطة لتلك الفتاة، ألكسندرا كورساكوفا أو (ساشا)، التي لم تُفكّر كثيرًا قبل أن ترتبط به، وترافقه في رحلة حياته بكل ما فيها من عبث ومآسٍ، وصارت أم ولديه شهدي وفريد، من رافقتهما بعد والدهما حتى في الهند، حيث كان وداع شهدي، لتستمر هناك مع الأصغر ومن صار وحيدًا، فريد.
هذا الابن الذي لطالما سمع حكايات منها عن زوجها الراحل وأبيه نجيب "العظيم" التي كانت دائمًا تؤكد لابنها أنه سيأتي اليوم على مصر وشعبها "وسيتم تذكر وتكريم العظماء الحقيقيين في تاريخ مصر والعالم العربي، وتُسمّي ميادين وشوارع و مسارح باسمه ويُدَرَس في المدارس والجامعات ويخرجون عنه الأفلام"، حسبما حكى عنها.
تحكي الأم وتُبشر ابنها، لكن مع نظرة واقعية ربما تتآلف مع مسيرة رحلة هذه العائلة، فحين سألها الابن وهو القاص لذلك الحوار الدائر بينهما، عن الوقت الذي سيحدث فيه هذا الأمر، قالت "لا أظن إني هكون علي قيد الحياة".
وفعلاً، قبل أيام توفيت ساشا، رحلت إلى نجيب وشُهدي، لكن بعد رحلة لم تخل من الصعاب، ولم تقتصر على إصابتها بأمراض الشيخوخة وعلى رأسها ألزهايمر، التي وضعتها في رعاية ولديها؛ شهدي حتى رحيله، وفريد الذي تابع بعد الأخ رحلة كفاحه مع الأم، التي كان من بين مآسيها انقطاع معاش زوجها عنها منذ أول 2018، ولم يتم حل الأمر إلاّ بتدخل من قنصل روسيا في مومباي، الذي أرسل إثبات كونها على قيد الحياة من قنصلية بلده إلى نظيرتها المصرية.
لكن، ولأنها زوجته هو، زوجة نجيب، ولأن المأساة تحمل بداخلها كوميديا سوداء، فبعد اتخاذ كل الإجراءات مع الجهات الرسمية وإعلان بدء صرف المعاش، تعطّل الأمر بسبب ذكره ابنها فريد الذي سأل عن العطل، ويحكي الواقعة، ليأتيه الرد بأن إقرارًا شخصيًا من والدته ذات التسعين عامًا من العُمر أنها ليست متزوجة، مطلوب لاستكمال الأوراق.
ما واجهته ساشا في شيبتها، كان ختامًا لحياتها، التي قبل قليل من نهايتها ناشد ابنها فريد مسؤولي مصر بالسماح بعودتها إلى مصر لتلقى الرعاية المناسبة لحالتها، ومن بعدها الأصدقاء. تمامًا كما كان مع شُهدي. ثم توفيت الأم التي أوصت بدفنها بجوار زوجها. وفي تكرار مع اختلاف التفاصيل، وكما حمل شُهدي وصية نجيب، حمل فريد وصية ساشا، وكافح للوصول بأمه إلى مقرّ أبيه، وقبل الدفن أعلن أنها مُسلمة.
https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fpermalink.php%3Fstory_fbid%3D5242537282423626%26id%3D100000022171892&show_text=true&width=500الإسلام هو الدين الذي أعلن الابن اعتناق الأم له، وذلك بعد رحيلها وإثر جدل في مسقط رأس نجيب سرور باعتبارها "تلك السيدة الأجنبية المسيحية التي ستدخل مقابر مسلمي قريتهم".
وحتى في تلك القصة مأساة، فبحسب الابن "اعتنقت ساشا الإسلام إثر مواجهة من عمهم لها بعد شهرين من رحيل نجيب، بخيارين إما سفرها إلى روسيا بطفليها، أو يأخذهم هو منها باعتبارهم قاصرين وهي أجنبيه وليست علي دين أخوه".
أسلمت ساشا، وافتقرت إلى معاشها، وفقدت الزوج ومن بعده الابن، كما بقيت مقيمة بصورة غير قانونية لشهور في بلد لا هي ببلدها ولا بلد زوجها، الهند، بعد انتهاء الفيزا الخاصة بها منذ عام 2015، ومن بعدها تظل بلا معاش، قبل أن تعاني سواء في مستشفيات الهند أو بعد عودتها إلى مصر من تكلفة علاج، ربما كان من المتوقع سواء من جانبها أو جانب البعض أن تتكفل به جهات رسمية، ولو تكريمًا لاسم زوجها الأديب والشاعر الراحل.
لكن، ولأن ذلك الأديب والشاعر كان هو، واسمه نجيب سرور؛ فكان للوقائع والمآسي رأي آخر.