يقطع محفوظ الصمت، مبادرًا:
- إزيك يا نجيب؟
- إزيك أنت يا أستاذ. استقريت على التناول؟
نجيب محفوظ مبتسمًا:
- أي تناول؟
- التناول الذي ستقدم به شخصيتي. ألم تأت إلى هنا بغرض جمع المعلومات وأرشفتها -أيها الموظف المخلص- لإنهاء الشكل الذي ستتناول به شخصيتي عندما تقدمني في أحد رواياتك.
- ربما. ألم تقدم أنت نفسك تناولًا مسرحيًا عظيمًا لروايتي "ميرامار"؟
- وكتبت عنك قبلها كتابًا كاملًا، فكان رد الجميل خيانة سيادتك.
دار الحوار السابق بين نجيب سرور ونجيب محفوظ، في مستشفى العباسية للأمراض النفسية والعصبية نهايات 1969، بناءً على ما جاء في شهادة الطبيب جلال الساعي، الواردة في كتاب سرور، لطلال فيصل، الذي نشرته الكتب خان كرواية عام 2013.
قرأت الكتاب/الرواية متأخرًا عشرة أعوام، وبصدفة مركبة، بينما أعمل في المرحلة الأخيرة على كتاب عن سينما يوسف شاهين، وتحديدًا في فصل متعلق بمثلث "المثقف والسلطة والناس"، حيث يُشكل فيلم الاختيار، المُنتج عام 1970، عن قصة لنجيب محفوظ ويوسف شاهين، مادة أساسية للتحليل.
أدخلني "سرور" في حالة من الضيق بسبب قسوة القصص المروية فيه، ومصائر بعض شخصياتها، والجانب الذي يتناول منه حال الوسط الثقافي المصري في الستينيات، وبالذات بعد هزيمة 1967، بالإضافة لبعض الملاحظات حول الكتاب، لا محل لها هنا. لكنه نبهني لشيء لم يرد فيه، وهي العلاقة بين قصة نجيب سرور وصراعه مع محفوظ وفيلم الاختيار، الذي شارك في كتابته الأخير.
سرور يلتقي محمود
خاض نجيب سرور رحلة طويلة بين الاتحاد السوفيتي والمجر ومصر، انتهت بوفاته عام 1978. واتسم العقدان الأخيران من حياته بالكثير من الصخب، متحولًا من النجاح الكبير والنجومية البادئ في تحقيقهما في مجالي المسرح والشعر بعد عودته إلى مصر، إلى أزمة شخصية كبيرة تزامنت مع زواجه من ممثلة مبتدئة، واعتزاله للإخراج المسرحي، والتضييق عليه في العمل، ثم طلاقه من تلك الممثلة واتهامه لها علانية بأنها خانته مع روائي شهير. وتكتمل مأساته بعد قطع عيشه كمسرحي وككاتب، بتجواله في الشوارع مشردًا، وإدخاله عنوة لمستشفى العباسية، ولاحقًا مستشفى المعمورة بالإسكندرية، وكتابته خلال تلك الفترة قصيدته الأكثر رواجًا، حتى وفاته عن عمر ستة وأربعين سنةً.
هذا عن نجيب سرور، فلنقترب قليلًا من المدعو محمود.
يمكننا تلخيص قصة الاختيار في أن هناك أخان توأمان، سيد، الكاتب الشهير والطموح وصاحب العلاقة الوثيقة بالسلطة، ومحمود البحار، الفنان والصعلوك المتحرر تمامًا. يجد البوليس جثة أحدهما، ليبدأ التحقيق حول من منهما قتل الآخر، المثقف السلطوي أم المثقف الصعلوك المنتمي للناس، ليعيش القاتل حياة مزدوجة، حياة الشخصين، فيكون على علاقة ببهية قمر حبيبة محمود، وبشريفة زوجة سيد، التي أحبت شقيق زوجها، وكانت راغبة فيه وحاولت إغواءه. وينتهي الفيلم بالقبض على أحدهما لإيداعه مستشفى الأمراض العقلية، دون أن نعرف من هو، سيد أم محمود.
هذا عن القصة المباشرة، أما تفسيراتها التي امتنع محفوظ وشاهين عن تقديمها في الصحافة، ليتركا للمشاهدين حرية فهمها وتفسيرها كما يريدون، فتتراوح بين الحدوتة التشويقية المباشرة لبحث الشرطة عن إجابة للغز من هو الأخ القاتل، إلى معالجة مرض الفصام، مرورًا بالأهم؛ الانقسام والازدواجية في شخصية المثقف المصري في زمن الناصرية، بين الانتماء للسلطة أو الانتماء للناس، الحرية والتمرد أو التقاليد والقوانين، الحب المشروع أو الحب المحرم والمستحيل، وفكرة الخيانة.
يتم الإيحاء في الجزء الأخير من الفيلم، مجرد الإيحاء، بأن المثقف السلطوي قتل المثقف المتمرد، دون أي تأكيد. وهو ما يحيلنا لرمزية الواقع الآني في سنة التحول الكبرى، موت عبد الناصر بعد انهيار مشروعه. لا يفسر شاهين الفيلم في حوار مع يوسف شريف رزق الله، في روز اليوسف، بتاريخ 1 مايو/أيار 1971، لكنه يترك الباب مفتوحًا أمام احتمالية أن يكون محمود البحار شخصية وهمية اخترعها سيد أثناء كتابته لمسرحية بعنوان البحار، بحيث تكون ذاته الأخرى، المتحررة والمتمردة، التي يقتلها، فيقول نصًا "سيد فشل بالفعل في مواجهة نفسه، وبمعني أعم فإن مثقف 67 فشل في تلك المواجهة".
محفوظ يخلق سيد
يحضر نجيب محفوظ في عدة مواقع من كتاب "سرور"، سواء بتهمة خيانته للشاعر وممارسة الجنس مع زوجته في كواليس المسرح، أو عبر الحديث عن إخراج سرور مسرحية "ميرامار" المأخوذة عن رواية محفوظ، أو من خلال نص كتبه نجيب محفوظ عن نجيب سرور، ونشره في مجلة الإذاعة والتليفزيون من ضمن النصوص التي نشرها لاحقًا في "المرايا" 1970، لكنه لم يضمنه فيها، ويتحدث فيه محفوظ عن زيارته لسرور في مستشفى العباسية. انتهاء بشهادة جلال الساعي، طبيب سرور، الواردة في آخر الكتاب، ويشير فيها إلى تلك الزيارة تحديدًا.
لم يُنشر النص الذي كتبه محفوظ عن سرور في كتاب "المرايا"، مثلما لم تُنشر قصة "الاختيار"، فعلى الأرجح لم تُكتب مشتركة بين الاثنين، محفوظ وشاهين، كقصة للنشر، بل كخطوط أساسية ليعمل شاهين منفردًا على السيناريو والحوار. لكن نجيب سرور تصور أن دافع زيارة محفوظ له استكمال بناء درامي ما، وهو ما يظهر بوضوح في الحوار بينهما.
في زمن تلك الزيارة، أو بعدها مباشرة، يبدأ العمل في فيلم "الاختيار"، في الوقت نفسه الذي كان فيه نجيب سرور مادة من المواد الأساسية التي شغلت الوسط الثقافي المصري، وبالذات مسألة تشرده في الشوارع، أو وصفه بالجنون، أو اتهاماته لآخرين بالأسماء، ومن ضمنهم محفوظ، بالفساد، أو بعلاقات بالأجهزة الأمنية، أو بخيانة زوجته له بعمل علاقات مع بعضهم. فهل كانت قصة "الاختيار" هي ذلك البناء الدرامي الذي دفع محفوظ للزيارة مثلما توقع نجيب سرور؟
شاهين والمثقف الأعرج
يأتي فيلم الاختيار من ضمن أفلام مرحلة الصدمة والغضب في مسار يوسف شاهين، بعد انهيار المشروع الناصري في حرب الأيام الستة 1967. تبدأ تلك المرحلة بفيلم الأرض (1969)، وينهيها بـ عودة الابن الضال (1976). فتضم بالإضافة إلى الاختيار، العصفور (1972)، والفيلمين القصيرين سلوى.. أو الفتاة الصغيرة التي تكلم الأبقار (1972)، والفيلم المجهول، الموجود ربما في أرشيف القوات المسلحة، "انطلاق" (1973)، الذي نفذه عن حرب أكتوبر 1973.
إذا استثنينا الفيلمين القصيرين، سنجد أن طبيعة المثقف والسؤال حول دوره يشكلان همًّا أساسيًا في الأفلام الأربعة الطويلة. ويتكرر نموذج محدد للمثقف، هو المثقف "الأعرج" إن استخدمنا تعبيرات شاهين، أو للدقة المثقف المتردد والمنقسم داخل نفسه، بينه وبين ذاته الأخرى، مثل قصة "الاختيار"، إن اكتفينا بالفهم الرمزي لها، بحيث يكون كل من سيد ومحمود وجهان لنفس الشخصية، أحدهما مرتبط بالسلطة التي قررت أن ترسله إلى باريس في منصب ثقافي، بينما الآخر فنان صعلوك وحر، ينتمي للناس بشكل كامل ويعيش بينهم. والأهم، يلعب مع الأطفال وكأنه طفل مثلهم. بينما تقمع السلطة أهم رغبة للأطفال وللفنانين، رغبة اللعب المرتبطة بالإبداع والخيال والحرية، فنجدها في مشهد مركب مونتاجيًا، لتحويل عدد من الأماكن المختلفة لمكان واحد، وممثلة في مدير مكتب الوزير، سعد أردش، تسجن كرة اللعب داخل خزانة وتغلق عليها، فاللعب والإبداع والخيال ممنوعين.
لكن الوجود المحتمل لنجيب سرور في خلفية قصة الفيلم، أي المسألة التي فُرضت عليَّ الآن بسبب قراءتي بالصدفة لكتاب طلال فيصل، تدفع باتجاه قراءة مغايرة لـ"الاختيار" ورمزياته، بحيث تبتعد قليلًا عن الطرق السابقة لتفسيره وفهمه، وخصوصًا أن تحريات الأمن عن محمود الصعلوك تعرفه بـ"شوية كاتب أزجال، شوية ممثل". وهو ما يتطابق بدرجة كبيرة مع نجيب سرور.
هاملت
بطلا "الاختيار" توأم، كلاهما مثقف وفنان، محمود البحار المتجول الذي لف العالم، والآخر سيد المثقف/الموظف، الشهير والناجح بحكم المعايير التقليدية للنجاح، والمستقر دون ترحال كثير. وفي الحياة الواقعية نجد أنهما "نجيبين"، ويتطابق الاسمان بالصدفة، نجيب محفوظ المثقف الشهير الملتزم بمناصبه، غير المصطدم بالسلطات، ونعرف عنه أنه لا يحب السفر. ونجيب سرور برحلته كصعلوك وفنان حر وصدامي، من موسكو لبودابست للقاهرة.
المسرح بدوره حاضر في الفيلم وفي الحياة الواقعية. يجهز سيد في الفيلم مسرحية عن البحار، عن نفسه الأخرى. وفي الواقع أخرج سرور مسرحية عن رواية لمحفوظ. وبناء على ما يرويه، ويرد في كتاب "سرور"، يحدث فعل الخيانة في كواليس المسرح.
أجواء الخيانة، أو الشك في الخيانة، والمرأة "شريفة" التي تقف بين الرجلين، وهي زوجة أحدهما، بينما تعشق أخيه الذي يحبها، لكنه لا يستجيب لإغوائها، يمتد وجودها في الحياة الحقيقية. ويشير محفوظ إليها في نصه المذكور داخل رواية طلال فيصل، فيقول ما معناه إنها ليست مستقيمة ولها ماض "ما لبث أن انفرد بي أنا وصديقين آخرين، (المقصود نجيب سرور) يستشيرنا في رغبته بالزواج من إحدى الممثلات الشابات في ذلك الوقت، وتعجبت لاختياره فقد كنت أعرفها وأعرف طريقة تفكيرها وسلوكها وملابسها، فضلًا عن نظرة عينيها الساخنتين الجريئتين واستجابتهما الدائمة المثيرة للقلق".
كان هاملت على ما يبدو أحد هواجس نجيب سرور، وكان هاجس مبكر وأساسي عند شاهين طيلة مساره. تتحول نظرة هاملت، المثقف، للمرأة بعد خيانة أمه، فيري المرأة باعتبارها مرادفًا للخيانة والدنس، بل إنه يدين حبيبته أوفيليا ويقسو عليها. وعند هاملت وصورة المرأة يلتقي الثلاثة، محفوظ في النص السابق، مُدينا المرأة بناء على نظرة عينيها وملابسها، ونجيب سرور في كتاباته عن زوجته وعن النساء عمومًا بعد بداية أزمته، ونجيب محفوظ وشاهين في "الاختيار"، في مشهدي إغواء شريفة لشقيق زوجها. وهي صورة هاملتية بامتياز، فالمرأة هي التي تغوي، ولا تكتفي، ويقول محمود البحار متحسرًا على شيء ما لم يتحقق ويخالف الحقيقة "لما الإله خلق المرأة كان عايز يجسد بيها القناعة". وإن كان شاهين أقل الثلاثة، كمخرج، في الإدانة الأخلاقية لـ"شريفة".
يقتل في الفيلم أحد الأخين الآخر، أو تنقسم ذات المثقف إلى جانبين أو وجهين. وفي الحياة الواقعية يتبادل الطرفان، النجيبان، تقدير موهبة الآخر، يتصادقان، وتنتهي الصداقة باتهام سرور لمحفوظ بخيانته، شفويًا، وفي قصيدته الطويلة المشار إليها، والمنتشرة في الأوساط الثقافية منذ أيامها وحتى الآن. بل أنه يشير إلى اسمه بوضوح؛ "وقولوا بعدي نجيب رد الجميل لنجيب".
المثقف محفوظ/سرور
وُصف نجيب سرور في الأوساط الثقافية بأنه مدمن للخمر ومجنون. وهي الأوصاف نفسها التي تلتصق بمحمود البحار في الفيلم، سكير ومجنون، ويُقبض عليه مرتين بسبب السكر العلني. وفي كتاب طلال فيصل يتم القبض على سرور في الشارع بسبب السكر، يتشاجر مع الضباط في قسم الشرطة، فيسلمونه للشرطة العسكرية، التي تودعه مستشفى العباسية كمجنون.
يتكرر سؤالان في قصتي نجيب سرور و"الاختيار"؛ الأول عن الواقع والخيال، وإن كان هناك خطوط فاصلة بينهما، والثاني عن رحلة بحث الفنان عن نفسه. ويجيب شاهين ومحفوظ عن السؤالين، فربما ما نراه هو الحقيقة أو بعضًا منها، أو خيالًا أو بعضًا منه. فتصبح يقينية نجيب سرور حول خيانة الآخرين وفسادهم موضع شك. ويؤكد الفيلم في عدة مشاهد أن في نهاية رحلة البحث الطويلة لا يقابل الشخص سوى نفسه وفقط. فيهرب محمود للخمر كي يضمن أن يلاقي نفسه في نهاية الرحلة سكرانًا تمامًا.
ويراود السؤال نفسه حول الواقع والخيال، الوثيقة والرواية، أذهان من يقرأ كتاب "سرور"؛ وتحديدًا درجة الخيال المتدخلة في الوقائع المروية، والنصوص المقدمة كوثائق، والشهادات الشخصية. يتركنا طلال فيصل عند السؤال الشائك والمربك لتعلقه بشخصيات حقيقية، ترد بأسمائها الحقيقية، فهو يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه "يستقر في خاطري أن أفضل طريقة لكتابة هذا الكتاب، هي أن يكون رواية". فيفرض على قراءه أن يتلقوا بعضها، على الأقل، كوثائق حقيقية. ما علينا سوي الاستجابة، بوعي شاهيني هذه المرة، ألا وجود لخطوط فاصلة بين الحقيقي والمتخيل.
لكن الواقع والتاريخ يخبروننا أن من بين الشخصيتين المتصارعتين في الحياة الواقعية هناك من يدخل مستشفى الأمراض العقلية وتُدمر حياته تمامًا -مثل نهاية الفيلم- والآخر الذي يستمر في طريقه باتجاه النجاح والتحقق. وليتمتع طيلة عمره بالتمجيد الذي يُغرقه البعض على "الكبار"؛ تصويرهم بأنهم متفردون، من المحال تكرارهم، في مرتبة أعلي من الجميع، السابقين واللاحقين. فيكون نجيب محفوظ هو الأعظم في الكتابة ولن يتكرر، وأم كلثوم هي كل كواكب الشرق، وعبد ناصر هو الحاكم المصري الوحيد الشريف عبر آلاف السنين، ويكون نجيب سرور الأكثر عبقرية وجموحًا وحرية وصدقًا ومبدئية في نظر القليلين، في نفي كامل لاحتمالية مرضه.
تنتج الأزمان الرديئة بعض الناجحين، وتنتج الكثيرين من الموهوبين المنسحبين، أو المنفجرين نفسيًا وعقليًا بسبب الفساد والمحسوبية والخيانات الكبيرة والصغيرة، ممن لا نعلم عنهم. لكن الأسئلة التي ليس لها إجابات، وستظل غالبًا دون إجابات، هي لماذا شارك محفوظ في كتابة "الاختيار"؟ وما أراد قوله عبر الفيلم؟ هل رأي قصة نجيب سرور كمجرد قصة مثيرة تصلح فيلمًا؟ احتمالًا مستبعدًا، فمحفوظ نفسه متهم في تلك القصة. أم لتبرئة نفسه بوصف الآخر بأنه مجنون؟ أم كي يقول لنا إنهما الشخص نفسه، حتى وإن اختلفت تركيباتهما ظاهريًا، ومصائرهما جذريًا؟