قضت ميادة* عدة أشهر في السجن بعد القبض عليها عام 2019 ضمن من قبض عليهم بالتزامن مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وعند خروجها في العام التالي تعرضت لابتزاز من طليقها برفع دعوى لإسقاط الحضانة عن ابنتهما كونها "معتقلة سابقة" وتشكل "خطرًا" على الطفلة، في حال رفعت دعوى تطالبه بالنفقة المستحقة لابنته بعد أن توقف عن دفعها منذ سجن الأم.
ميادة، وهي صحفية وناشطة حقوقية، واجهت أمام نيابة أمن الدولة العليا قائمة الاتهامات المعتادة، من "الانضمام لجماعة إرهابية مع العلم بأغراضها" و"إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي". وعندما خرجت إلى مجتمع ما قبل السجن وجدت أن عليها بدء رحلة مختلفة كليًا للتعايش.
"بضعة شهور فقط كانت كفيلة أن تشعرني بالتقدم في العمر لعشرين عام بعد خروجي من المعتقل" تقول ميادة قبل أن تضيف "المواقف أصبحت غير مؤثرة مثل ذي قبل ومررت بمرحلة من التبلد في استقبال كل المشاعر بنفس رد الفعل وهو المناقض تمامًا لفترة ما قبل الحبس".
بعد القبض عليها وإيداعها السجن "حاول طليقي أخذ ابنتي مني لتعيش معه وبالفعل نجح في ذلك" حسبما تخبر المنصة. لم تكن هذه كل المشكلة بالنسبة للصحفية التي تضيف "قام بالاعتداء عليها بالضرب ومعه زوجته. حررت والدتي محضرًا له بهذه الاعتداءات"، عادت الطفلة لتعيش مع جدتها "فتعنت (الأب) في الإنفاق عليها وهو أبسط حقوقها".
ما زالت حضانة الطفلة مع والدتها ولكن دون النفقة التي يتعين على الأب دفعها "استغل طليقي أزمة حبسي ليضيع حقوق ابنته، عندما حاولت بعد خروجي من المعتقل البحث عن حقوق هذه الطفلة من والدها ورفعت قضية نفقة، تم تهديدي ومقايضتي على التنازل أو أن يرفع طليقي قضية بإسقاط حضانتي لأني غير آمنة عليها كوني سجينة سياسية سابقة".
فقدت ميادة شغفها بكل شيء بعد الخروج من المعتقل، ورغم البدء في رحلة العلاج النفسي من داخل السجن، إلا أنها تؤكد أنها "حينما خرجت توجهت للعلاج بمركز النديم بعد محاولات انتحار متكررة، حتى أني أصبحت غير قادرة على المكوث بالمستشفى فقط لأنه يُذكرني بالسجن كأيّ مكان مغلق وطلبت الخروج".
تعتقد ميادة أن المجتمع ينظر "بطريقة مختلفة" للمعتقلات السابقات حتى لو كان اعتقالهن لأسباب سياسية "أهل والدي شافوا أني فضحتهم تمامًا وتم وصفي بالعاهرة لأني جلبت لهم العار، لدرجة أصبحت هناك مشاكل مع والدي فقط لأنهما احتضناني بعد خروجي، وحدث خلاف بين عمي وأبي على إثره تم ضربي وسحلي من أعمامي، وعندما لجأنا لعمل محضر كان عمي يخبر الضابط أني رد سجون ولي ملف".
وتتابع "حياتي المهنية بعد الخروج كانت انتهت حاولت اشتغل في أكثر من مكان كان دائمًا الرفض هو الرد الدائم، ملحق بمبررات عشان المشاكل، الوضع مختلف مش عايزين نخبط، وهكذا، وعندما عُرض علي العمل كان بشرط الكتابة في أقسام الفن والبعد عن أيّ شيء متعلق بالسياسة".
وتختتم ميادة قصتها بأنها "حاولت قدر الامكان البُعد عن أي شيء ربما يأتي لي بالمشاكل حتى وأن كان صح، أصبحت أرى أن لا فائدة منها الآن، كل ما أفكر فيه هو أن أعيش حياة هادئة لكن هذا لم يُجنبني الانتهاكات فهي مستمرة ولا اعتقد أنها ستقف، لأنه من الصعب تغيير ثقافة المجتمع وليس بيدي تغيير عقليات البشر".
لم أعد كما كنت
متاعب الحصول على عمل واجهت صحفية أخرى هي آلاء* التي قضت سنتين في السجن بعد إدانتها في قضية سياسية، لتخرج ومعها شعور مستمر "بالوصم" وذلك "مع الانتكاسة التي يمر بها الربيع العربي أصبح المعتقل من الموصومين، خاصة أن النظام لا يرضى عنك وهو الأقوى وعلى كل المستويات".
وتضيف "طبيعة عملي في مجال الإعلام تكاد تكون دُمرت، لكن لا يسعني أن أحمِّل الأمر أكبر مما يستحق، لأن عقدتي الأكبر أنني أصبحت من أصحاب السوابق، وأيّ شركة أخرى في مجال آخر سترفضك لأنك شخص ذو سابقة، ورغم أن الأمر ينطبق على الجنسين ولكن الوضع يظل مختلفًا بالنسبة للنساء".
وتشرح آلاء أكثر كيف كان "يتم التعامل معي كست تم حبسها وتشويه سمعتها وبالتالي فهي متاحة تمامًا ويمكنها أن ترضخ لأيّ وضع غير أخلاقي مقابل العمل أو المساعدة المالية وغيرها، لذلك يمكن القول إن النساء بعد الحبس حتى يصبحن في نظر المجتمع نساءً مستباحات وهو أمر لا ينطبق على الرجال، وبالتالي أصبح غير متاح لي العمل في أي مجال آخر، ووجهت كوارث كبيرة".
ورغم أن آلاء نجحت في الحصول على فرصة عمل لائقة فإنها تدرك أن "حدود المجتمعات التي تشبهنا مثل العمل بالمجتمع المدني هي بالفعل ضيقة للغاية، ولن تكون هناك وظائف تساعنا جميعًا مع هذا الكم من الاعتقال".
وبحسب تقديرات حقوقية يبلغ عدد المحبوسين لأسباب سياسية نحو 65 ألف شخص، بينما لا تفصح السلطات المصرية عن أعداد المحبوسين والسجناء على ذمة هذه القضايا، وينفي رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي على الدوام وجود معتقلين سياسيين في البلاد.
آلاء لم تعانِ على الصعيد المهني فقط، وإنما عانت وصمًا عائليًا كذلك "رغم خروجي من سنتين إلا أن أخي يرفض التعامل معي نهائيًا لأنني تسببت له في صدمة وسط المجتمع كفتاة تعيش بمفردها اعتقلت على خلفية إهانة الرئيس. لم نسمع يومًا عن رجل قطعت أسرته علاقتها به لأنه اعتقل على خلفية سياسية ولكن الفتاة، أيًا كانت الأسباب، فدخولها إلى السجن يعني جلب العار".
لعقود طويلة ظلت المجتمعات تفرق في المعاملة بين السجناء الذين أدينوا بارتكاب جرائم جنائية والسجناء السياسيين، غير أن آلاء لم تلمس هذا الفرق حيث ظل الجميع يعتبرونها "رد سجون"، حسب وصفها إذ تضيف "أنا امرأة حبست على خلفية سياسية وتم تلفيق قضية جنائية لها. من سيرضى التعامل معها أو حتى تربطه بها صلة؟ النساء موصومات في كل الحالات".
وإلى جانب الوصم الاجتماعي فإن سيطرة الدولة على غالبية وسائل الإعلام جعلت فرصة حصول آلاء على أكثر صعوبة، حسبما ذكرت.
بحسب ورقة بحثية صادرة عن مؤسسة نظرة للدراسات النسوية عام 2017 العنف ضد النساء و الوصمة المجتمعية للسجينات، تعاني السجينات من وصمة مجتمعية داخل وخارج السجن حتى من قبل أسرتها. فبالرغم من تحملهن عقوبة السجن لحماية عائلاتهن، إلا أنه في أغلب الأحيان يتبرأ الأهل من السجينة التي جلبت لهم العار بدخولها السجن وقد يمتنعون عن زيارتها.
السجن أفضل من شبح المطاردة
وقفت أسماء بمفردها في منتصف المترو، ترفع لافتة مكتوب عليها "أنت يا سيسي عليك اللوم ليه الغلا في شهر الصوم؟"، اعتراضًا على قرار الحكومة برفع أسعار تذاكر مترو الأنفاق، ليتم القبض عليها وتعرض على النيابة مرات متتالية في القضية رقم 718 لسنة 2018، ووجه لها اتهامات بمشاركة جماعة إرهابية أهدافها، وتعطيل الدستور والقانون، والاشتراك في تظاهرة لتعطيل المواصلات العامة، والإضرار بمصلحة المواطنين، ليتم بعد ذلك إخلاء سبيلها بالتدابير الاحترازية.
ببكاء شديد تصف أسماء لحظة خروجها وتقول "وقت خروجي تركوني بجلابية السجن ومشيت في شوارع منطقتي مرتدية ملابس الحبس، لأني أسكن بجوار قسم الشرطة، الجميع كانت يشاهدني، وهذا الأمر كسرني، حتى أني غير قادرة منذ عامين ونصف العام على الذهاب إلى منطقتي التي ولدت وتربيت بها خوفًا من نظرات الناس لي".
تتحدث عن أزمتها النفسية وتقول "فضلت اتعالج من اضطراب ما بعد الصدمة في مركز النديم لأني كنت أعاني من نوبات هلع أكثر من 3 مرات يوميًا، كل شيء يٌذكرني بظروف حبسي. أشياء ليس لها علاقة ببعض؛ ضوء النهار، الشبابيك الحديد، الجبن، اللون الرمادي والأبيض والأسود، مواعيد التمام، كلمة قناطر".
تشير إلى أن أكثر ما ترتب على سجنها عدم الاستقرار لأن في أيّ لحظة الأمن ممكن يدخل البيت ويقبض عليه، وتواصل فأنا دائمًا جاهزة بشنطتي خاصة في وقت المناسبات مثل ذكرى يناير أو 20 سبتمبر وهكذا، وبعد الساعة الثامنة لا أمشي في الشارع لأني معرضة لمقابلة كمائن والكشف علي لأصبح تسلية الأمن.
تختم أسماء برغبتها "نفسي أنام على سرير وأشعر أنه سريري، وفي النهاية قد يكون الخوف وهمي وقد يكون حقيقي. وبعد مرور ثلاث سنوات أصبحت قادرة على المحاولة لكني لازلت أعاني من اضطراب ما بعد الصدمة فانا بلا أرض أو وطن مثلما يقال".
يأخذن السجن معهن إلى الخارج
تعلق الدكتورة عايدة سيف الدولة، إحدى مؤسسات مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، والذي كان عاملًا مشترك في علاج النماذج الثالثة السابقة وغيرهم المئات منذ تأسيسه. على كيفية تعامل الأسر كمجتمع صغير مع العائدات من المعتقل للمنصة قائلة "لا بد أن يكون التعامل مع المعتقلين السابقين وكأنهم عائدون من مرض شديد الصعوبة وفي فترة نقاهة، تحتاج إلى تفهم وصبر مع احتواء شديد لكل ما يوجهون من المجتمع بعد الخروج".
وتتابع "نحن لا نتحدث عن أشخاص عائدة من سفر بعد فترة غياب وإنما نتحدث عن عن شخصيات كانت محرومة من حريتها في مكان محدود ومغلق وفي أغلب الأحوال تعرضوا فيه انتهاكات وحرمان تفوق الحرمان من الحرية".
حينما يخرجون من السجن لا يتركون المكان فقط خلفهم وإنما يتركون سجناء آخرين كانوا في فترة السجن هم مصدر الدعم الأساسي والتواصل الإنساني الوحيد، فمن يخرج ويترك ورائه زملاءه أو زميلاته يشعر أن جزءًا من روحه داخل السجن، ويتطور الأمر في كثير من الأحيان إلى الشعور بالذنب كونه نال حريته دونا عن الآخرين.
وتؤكد عن شعور المعتقلين بعدم التخلص من السجن بشكل كامل حتى بعد خروجهم بتوضيح أن "مجتمع السجن هو عبارة عن ذكريات وحكايات مشتركة وفضفضة وآمال عبروا عنها وأحلام حلموها مع بعض، وبالتالي بعد الخروج من السجن يشعرون بعدم الخروج بشكل نهائي".
وتوضح أن "غالبًا ما تصبح الدنيا والأوضاع مختلفة ومتغيرة على السجناء السابقون منذ فترة الاعتقال، الأطفال بتكبر والأهل يكونوا منهكين من فترة الحبس والزيارات وغيرها من التفاصيل الكئيبة، الشغل يُصبح غير متوفر بقدر كافي، حتى الأحاديث تصبح مختلفة عن ما كان يدور داخل السجن".
وتختم "جميعها أشياء تتسبب بشعور التيه وفقدان التوازن وتحتاج إلى مجهود لاستعادة الدور القديم، وجائز ابتكار دور جديد، مستدركة"لكنه يحتاج صبر من المتمتعين حديثا بحريتهم، وأكثر مضاعف من المحيطين بهم".
* الأسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية المصادر