لم يكن متبقٍّ سوى أيام معدودة قبل انعقاد جلسة اليوم للنطق بالحكم بحق ثلاثة من الذين قضوا أشهرًا طويلةً في الحبس الاحتياطي؛ علاء عبد الفتاح ومحمد الباقر ومحمد إبراهيم (أكسجين)، عندما عاد الزخم مجددًا إلى قضيتهم على شكل دعوات قلقة وبيانات تضامن محلية ودولية معهم، في مقابل موقف رسمي حاد وغاضب يعرب عن رفضه لكل ذلك.
والسبب؟ أنها ليست جلسة لتجديد حبسهم الممتد، بل لحسم هذه القضية رقم 1228 لسنة 2021 جنح أمن دولة طوارئ، وهي محكمة استثنائية، أحكامها نهائية غير قابلة للنقض أو الاستئناف؛ ما خلق حالة من الترقب والقلق والغضب، رصدتها المنصّة على مدار الساعات الثمانية والأربعين السابقة للنطق بالحكم.
الكل "كاذبون"
مبرمج ومحام ومدون، اختلفت المهن بين الثلاثة على الترتيب، علاء وباقر وأكسجين، لكن هذا لم يمنع أن يكون جميعهم سُجناء على ذمة هذه القضية بتهمة واحدة وجهتها لهم السلطة وهي "إذاعة ونشر أخبار وبيانات كاذبة داخل وخارج البلاد".
هذه التهمة واجهها الثلاثة بعد إلقاء القبض عليهم بطرق وملابسات وفي ظروف مختلفة، فعلاء عبد الفتاح أُدرج بها بعد القبض عليه يوم 28 سبتمبر/ أيلول 2019، أثناء تنفيذه المراقبة الشُرطية، وهي العقوبة التكميلية المفروضة عليه في القضية 1343 لسنة 2013، المعروفة إعلاميًا بـ"أحداث مجلس الشورى"، عقب إنهائه عقوبة السجن 5 سنوات.
والباقر، لم يكن سوى المحامي الذي قرر التوجه لقسم الشرطة للحضور مع علاء، ليجد نفسه مقبوضًا عليه، ومنضمًا للقضية نفسها مع علاء، والتي ضُم إليها أكسجين، لكن بعدهما بأيام، حين ألقي القبض عليه في 8 أكتوبر/ تشرين أول 2019، أثناء تأديته التدابير الاحترازية في قسم شرطة البساتين علي ذمة القضية 621 لسنة 2018.
هذه القضية بحسب جهات حقوقية "نسختها السلطات من القضية رقم 1356 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا، كطريقة لتمديد حبس عبد الفتاح وباقر وأكسجين بعد استنفادهم أقصى مدة حبس احتياطي قررها القانون. ومحاولة للخروج من مأزق عدم وجود أي أدلة على الاتهامات التي وجهت لهم منذ أكثر من عامين، باختلاق اتهام جديد لم يُشر إليه من قبل".
حدث ذلك واستمر، رغم صدور الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي أوصت باتخاذ إجراءات حيال الحبس الاحتياطي. بالإضافة إلى ذلك، سيصدر الحكم رغم حرمان هيئة الدفاع عن علاء وباقر وأكسجين، وعلى مدار أربع جلسات، من المرافعة أو استلام نسخة من أوراق القضية؛ ما كان مُسببًا قويًا لقلق المحامين.
ترقب عائلي
الحجز للحكم دون اطّلاع المحامين على الأوراق، ليس الدافع الوحيد لهذا القلق، فمن قبله كان الخوف بين المحامين والأسر من سوء الحالة الصحية والنفسية للمتهمين الثلاثة، التي دفعت أحدهم، وهو أكسجين، لمحاولة الانتحار. وهو الذي راود نفس علاء اليائسة، كما بدا في رسالة بعثها لأمه مع رفاق أوصاهم بأن يبلغوها أن "تأخذ عزاه".
ما زال هذا التخوف ملازمًا لهيئة الدفاع حتى هذه الساعات، حسبما أبدى أحد أعضائها طارق خاطر، الذي قال عمّا يشعر به حيال حكم اليوم "كل القلق وكل التخوف من أحكام قاسية دون دفاع"، وهو الخوف الذي يضاعفه ما يراود المحامي من أمل لأنه في حال البراءة سيخرج الجميع، لأن هذه القضية بحسب قوله "هي مُجرد جنحة منسوخة من أصل تحقيق جناية في أمن دولة كانت عام 2019".
في حديثه للمنصّة، لا يتوقع خاطر حكمًا بعينه، إلاّ أنه تحدّث وفقًا لما يقرّه القانون، ويوضح "يُفترض ان الحُكم الوحيد أن تُقرر المحكمة إعادة الدعوى للمرافعة وتأذن لنا كمحامين بالحصول على صورة من أوراق الدعوى والاتهام لتقديم دفاع في موضوع الدعوى. خلاف ذلك سيكون حكمًا قاسيًا ومناف للعدالة ومعايير المحاكمة العادلة".
علاء السجين منذ أعوام قدم في آخر جلسة قبل المحاكمة بلاغات أثبتها في محضر الجلسة، شكا فيها من "تجاوز مدة حبسه السنتين بالمخالفة لقانون الإجراءات الجنائية، وحرمان محاميه من الدفاع عنه، وسوء ظروف حبسه ومنعه ومحاميه وزميله في السجن محمد الباقر من حقوقهما في أمور كالقراءة أو التريض".
ما يشكو منه المحامي، بجانب ما يصلها من علاء وزملائه في الحبس، كان محل قلق والدته الأكاديمية ليلى سويف، الأم التي حاولت بث بعض ما في نفسها عبر مقال منشور قبل يومين في صحيفة نيويورك تايمز، كعادتها لم تتحدث فيه عن علاء فقط، بل ورفاقه من الشباب سجناء الرأي.
في مقالها الذي نقلت فيه مشاهد من زياراتها للابن، كتبت ليلى أن اختصامه سببه أنه "أحد أبناء ثورة 25 يناير"، وأكدت "جريمته هي أنه، ومثل ملايين الشباب في مصر وخارجها، كان يعتقد أن عالمًا آخر ممكن، وتجرأ على محاولة تحقيق ذلك".
استعادت الأم الحزينة والقلقة، في مقالها، ما حكاه الابن عن أول لياليه في سجن طره شديد الحراسة 2 (العقرب)، وما تعرّض له من "حفل ترحيب"، تمثل في "تجريده من ملابسه وضربه".
واختتمت سويف مقالها بتأكيد أهمية أن "يبحث المهتمون فعلًا بحقوق الإنسان عن الأفعال، وفي مُقدّمتها إطلاق سراح الجيل الذي يُقتل ببطء في السجن لتفكيره بحرية ولتعبيره عن نفسه" ولا ينخدعوا بـ"الاستراتيجيات المكتوبة"، في إشارة إلى استراتيجية حقوق الإنسان الصادرة مؤخرًا، والتي تحدثت سويف عن الترحيب الأمريكي بها.
كما انتقدت في هذا الصدد "ادعاء" الولايات المتحدة وأوروبا "ممارسة الضغط" على الحكومة المصرية فيما يخصّ حقوق الإنسان، واعتبرته "لا يهدف سوى إلى استرضاء قطاعات معينة من ناخبيهم".
تتحدث الأم عن ابنها البكر، علاء، وهي تترقب صدور الحكم بحقه اليوم الاثنين. لكن هذا ليس وحده فقط ما يشغل بالها وقلبها، فهناك الصغرى، أخته سناء، التي من المُقرر إطلاق سراحها يوم الخميس المقبل، من سجن النساء بالقناطر، حيث تقضي عقوبة السجن سنة ونصف منذ يونيو/ حزيران 2020 باتهام "نشر أخبار كاذبة" أيضًا، بسبب ما نشرته عن "تفشي فيروس كورونا بين السجناء في مصر".
لهذا ربما يكون مفهومًا ومحسوسًا ومُثيرًا للتعاطف، ليس ما كتبته الأم فقط، بل وما كتبته شقيقتهما منى سيف في حسابها على تويتر من كلمات معدودات، لخّصت فيها الحال، وهي "أسبوع فارق في حياة أسرة علاء"، ما بدا في بيانات جهات حقوقية منها هيومان رايتس ووتش، وصحفيين ونشطاء سياسيين، عبر هاشتاج بعنوان "عدّوا الأيام لعلاء وسناء".
.. قلق خارجي
كل تلك الأوضاع، ومعها انتظار حكم غير قابل للاستئناف أو النقض، لم تُعكر صفو أمل الأسر فحسب، كما بدا في حديث أسرة علاء أو زوجة المحامي باقر، نعمة هشام التي طالبت بـ"الدعوات" له قبل جلسة الغد. بل إنها امتدت إلى خارج مصر.
فعلى الرغم من انتقاد ليلى سويف للخارج، واتهامها بعض الحكومات الديمقراطية بأنها "لا تُقدّم إلاّ القليل من التشدّق في قضايا الحقوق العادلة"، إلاّ أن في الخارج قوى كانت مهتمة بالفعل بقضية ابنها ورفاقه، وأبدت أملها في إطلاق سراحهم.
https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fgerman.embassy.cairo%2Fposts%2F208180251504704&show_text=true&width=500ففي بيان لها، أول أمس السبت، قالت وزارة الخارجية الألمانية إن الحكم المرتقب النطق به بحق المحامي محمد الباقر "يُعدّ بالنسبة للحكومة الاتحادية بمثابة إشارة للاتجاه الذي تتطور إليه حالة حقوق الإنسان في مصر"، مُعربة عن توقّع الحكومة الألمانية أن تعمل الحكومة المصرية على "تحقيق محاكمة عادلة، والإفراج عن الباقر وعلاء ومحمد إبراهيم".
وشددت الوزارة في بيانها المنشور عبر صفحة سفارتها لدى مصر على فيسبوك على أنه "لا يجوز معاقبة المحامين على ممارسة نشاطهم المهني"، مُشيرة إلى أنه "من وجهة نظر الحكومة الاتحادية، فإن حرية التعبير هي أساس السلام الاجتماعي ومشاركة جميع الأوساط الاجتماعية والاستقرار المستدام".
واختتمت الخارجية الألمانية بيانها بإعلان تقديرها للخطوات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة المصرية لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، بما في ذلك إطلاق أول استراتيجية مصرية لحقوق الإنسان في سبتمبر 2021، وأنها "ستتابع تنفيذها باهتمام كبير".
وقبل يومين فقط من البيان الألماني، خرجت مطالبة مماثلة بالحرية للمحبوسين الثلاثة، لكنها كانت من السياسي الفرنسي ذي الأصول المغربية، منير ساطوري، النائب في البرلمان الأوروبي.
ففي تدوينة بحسابه الرسمي على تويتر، بدأها بأسماء الثلاثة (علاء، وباقر، وأكسجين)، كتب ساطوري عنهم "المدافعون عن حقوق الإنسان، اُحتجزوا تعسفًا في سجن طره سيئ السمعة في مصر لأكثر من عامين. ومن المتوقع صدور حكم بشأن محاكمتهم الجائرة في 20/ 12"، مختتمًا حديثه بكلمة واحدة هي "حررهم".
.. وغضب حكومي
رغم هذه العبارات الدبلوماسية التي خرجت في بيان الخارجية الألمانية الذي جاء ليعكس اهتمام بقضية شهدت بحسب الأسر والمحامين وما وثّقوه على مدار شهور من "انتهاكات" لحقوق السجناء، فإن الأمر لم يرُق للسلطات المصرية والإعلام الموالي لها، بل أثار غضبهم بصورة واضحة.
ففي ردّ عاجل منها، أعلنت وزارة الخارجية المصرية رفضها لتصريح نظيرتها الألمانية، ووصفته بأنه "أسلوب ينطوي على تجاوزات غير مقبولة"، يُعتبر "تدخلًا سافرًا وغير مبرر في الشأن الداخلي المصري، ويُصادِر على مسار قضائي دون دليل أو سند موضوعي".
المثير أن "الدليل والسند الموضوعي" ليسا غائبين مثلما تحكي وزارة الخارجية، فوفقًا للمحامي طارق خاطر، فإن هذه المحاكمة "استثنائية، لا سبيل للطعن عليها. اللهم سوى تظلّم لشخص الحاكم العسكري".
وحكى خاطر عن أبرز مراحلها بقوله "هي محاكمة حُرم فيها المتهمون ومحاموهم من الاطلاع على أوراق الاتهام والدعوى، بينما أُتيحت للخصم وهو النيابة، 3 جلسات لإبداء الطلبات، في حين لم تستجب المحكمة لأي طلب"، مُعقبًا "باختصار، لم نستطع أداء دورنا في هذه المسرحية وكوميديتها السوداء".
لكن في البيان المقابل، أبدت الوزارة المصرية دهشتها من هذا البيان، بقولها "من المُستغرَب أن تطلب الحكومة الألمانية احترام القانون، وتدعو في ذات الوقت للتدخل والتأثير على أحكام القضاء المصري الشامخ والمشهود له بالاستقلالية والحيادية والنزاهة، وهو ما نرصد معه ازدواجية المعايير".
وكررت الخارجية إعلان "رفضها الكامل للتدخل في الشأن الداخلي، ووجوب احترام سيادة القانون ودستور الدولة المصرية"، وأكدت أن "افتراض نتيجة بعينها هو أمر مرفوض جملةً وتفصيلاً لما يُمثله ذلك من إهدار للقضاء والعدالة، ولمبادئ سيادة القانون، وما ينص عليه الدستور من الفصل بين السلطات".
واختتمت بيانها بعبارة لوم على ألمانيا، نصّها "هذا، ومن الأحرى أن تلتفت الحكومة الألمانية لتحدياتها الداخلية بدلًا من فرض وصايتها على الغير".
ما أطلقته الخارجية المصرية من عبارات غاضبة، لاقى استجابة إعلامية من جهات وإعلاميين مؤيدين للجهات الرسمية، مثل نشأت الديهي الذي انتقد مقال سويف، وأحمد موسى الذي شدّد على أن الأمر في مصر الأمر في يد المحكمة، بقوله "احنا مش زي ألمانيا؛ احنا بنقول الأمر أمام القضاء".
لكن، في مقابل حديث الديهي وموسى، يشكو خاطر من البيئة القانونية التي يعمل في ظلها، بقوله إنها "بنية شديدة القسوة ومخلّة بحقوق المتهمين، لا تُمكّن من بناء أي خطوط دفاع احتياطية"، شاكيًا أيضًا من أمر آخر بقوله "يكفي أنني كمدافع طلبت من القاضي تمكين المتهم من ردّه، والقاضي تجاهل ولم يُمكّن أكسجين من اتخاذ إجراءات الرد. أي أن القاضي سيحكم على متهم أعلن خصومته معه".
الساعات الماضية بكل ما شهدته من قلق وترقب وأمل وغضب، لم تكن إلا نموذجًا مصغرًا لنمط كبير وواسع ومتكرر على مدار سنوات شهدت احتجاز المئات، على الأقل، في قضايا رأي باتهامات من قبيل "نشر الأخبار الكاذبة، أو الانضمام لجماعة إرهابية"، لا يملك أسرهم إلا الأمل، فيما ترفض السلطات الغاضبة أي محاولات للوساطة بشأنهم أو الحديث عن تبرئتهم.