من البائس حقًا، أننا ورغم وصول العالم إلى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين الميلادي، لا نزال نناقش "ولاية المرأة على نفسها"، ,الأكثر بؤسًا أن تدفع بعض النساء حياتهن ثمنًا للسعي وراء الحصول على هذه الولاية.
مؤخرًا، عاودت أنباء الناشطة القطرية نوف المعاضيد إلى الواجهة، خاصة بعد أن أعلن مركز الخليج لحقوق الإنسان GCHR، تلقيه تقارير تفيد بمقتلها على يد أسرتها عقب عودتها إلى بلادها من العاصمة البريطانية لندن[1]، رغم تقديم النظام القطري تعهدات بحمايتها مقابل التنازل عن طلب اللجوء الذي تقدمت به نوف إلى السلطات البريطانية.
من جهة، اكتفت السلطات القطرية بتصريح مقتضب منسوب لمسؤول، لم يُذكر اسمه، لصحيفة الجارديان البريطانية، يفيد بأن "المعاضيد بخير وبصحة جيدة"، لكنه قال إنها لا يمكن أن تتحدث علانية بسبب طلب الخصوصية. ورغم أن تقرير الصحيفة الإنجليزية عنون بتغريدة سابقة لنوف "إذا لم أكن على وسائل التواصل الاجتماعي، فأنا ميتة"[2]، فإن موقع قناة الجزيرة القطرية اكتفى بنقل التصريح المقتضب[3].
أين اختفت نوف المعاضيد؟
تبدأ الحكاية نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، حين هربت الشابة القطرية (23 سنة) من عائلتها في الدوحة عبر رحلة طيران إلى العاصمة الأوكرانية كييف، ومنها إلى العاصمة البريطانية لندن، بسبب ما وصفته بـ"العنف الذي تعرضت له من بعض أفراد أسرتها خاصة والدها"، واتهامها للسلطات القطرية بالفشل في توفير الحماية، الأمر الذي دفعها إلى تقديم طلب للسفارة البريطانية للحصول على اللجوء السياسي.
وبعد سفرها، نشرت المعاضيد من خلال حسابها على تويتر، أنها تفكر في العودة إلى بلادها كونها "مو مرتاحة" في محل إقامتها الجديد، و"لأن كان عندي يقين أنه مهما صار مهما استوى أنا بكون في بلادي. وشفت أن هاي القرار الأسلم"، على حد قولها.
حينها، توجهت إلى سفارة بلادها في المملكة البريطانية، وبعد مفاوضات وعدت السلطات نوف بأنها ستكون في مأمن من الانتقام بعد أن أثارت ضجة على الإنترنت بمقاطع الفيديو الخاصة بها التي تنتقد نظام ولاية الرجل في قطر، وبالفعل عادت المعاضيد إلى بلادها 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، وأقامت في أحد فنادق العاصمة القطرية تحت حراسة من الشرطة.
لكنها وبعد مرور 10 أيام، كشفت نوف في سلسلة تغريدات تعرضها لثلاث محاولات للاغتيال، فضلًا عن تساهل رجال الحرس، ومشاهدتها لوالدها (أكثر أفراد أسرتها تعنيفًا لها) في بهو الفندق المقيمة فيه، وأفصحت أن حتى طعامها و"الأغراض المطرشة" المرسلة إليها، والزيارات باتت تمثل خطرًا على حياتها[4]، الأمر الذي دفعها إلى الاستنجاد بأمير البلاد تميم بن حمد "الشيخ تميم الوحيد اللي يقدر يوقف الخطر اللي على حياتي بيديه"[5].
https://twitter.com/noofalmaadeed/status/1447651700064595981?ref_src=twsrc%5Etfwآخر فيديو ظهرت فيه نوف على تويتر في 11 أكتوبر
وفي الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، اختفت نوف نهائيًا، ولم تظهر على أيّ وسيلة تواصل اجتماعي وهي التي سبق أن أعلنت "إذا لم أكن على وسائل التواصل الاجتماعي، فأنا ميتة"، هنا يصرح خالد إبراهيم رئيس مركز الخليج لحقوق الإنسان، منظمة مقرها بيروت تتعقب الانتهاكات في الشرق الأوسط، أن المركز يتصرف بناءً على ما طلبته المعاضيد منهم من قبل.
وفي حديثه للجارديان، أوضح أن المركز تلقى تقارير عدّة تفيد بأن السلطات القطرية سلمت المعاضيد لعائلتها في 13 أكتوبر/ تشرين الأول، مشددًا على أنه "يمكن للحكومة القطرية أن تثبت للمجتمع الدولي بسهولة أنها على قيد الحياة. لكن ليس لديهم دليل، وهذا مصدر قلق لنا"، على حد قوله.
كيف تعيش نساء قطر؟
بعيدًا عن قصة نوف المعاضيد، كيف تعيش حقًا نساء قطر داخل الإمارة؟ إجابة هذا التساؤل تتطلب منا العودة إلى التاسع والعشرين من مارس/ آذار الماضي، حين أصدرت منظمة هيومان رايتس وواتش تقريرًا من 94 صفحة عن "نظام ولاية الرجل التمييزي في قطر"، وعنونته بـ "كل شي أسويه يحتاج موافقة رجل: المرأة وقواعد ولاية الرجل في قطر"[6]، مشيرة إلى احتياج النساء الدائم إلى إذن من أوليائهنّ الذكور للزواج، والدراسة في الخارج بعد نيل منحة حكومية، والعمل في الوظائف الحكومية، والسفر حتى عمر معيّن، والحصول على بعض أشكال الرعاية الصحية الإنجابية.
وقال التقرير إن النظام التمييزي يحرم النساء حقّها في اتخاذ قرارات أساسية كأن يكن وليات الأمر الرئيسيات لأطفالهن، وليس لديهنّ أيّ سلطة في اتخاذ قرارات مستقلّة متعلّقة بوثائق أطفالهنّ، وأموالهن، وسفرهن، وأحيانًا دراستهن وعلاجهن الطبي، حتى لو كانت النساء مطلّقات وحكمت محكمة بسكن أطفالهنّ معهنّ (الحضانة)، أو في حال وفاة والد الأطفال. إذا لم يكُن للطفل قريب ذكر لتأدية دور الوصي، تتولّى الحكومة هذا الدور، كذلك تستوجب القوانين القطرية من النساء الحصول على إذن أولياء أمورهنّ للزواج، بغضّ النظر عن عمرهنّ أو وضعهنّ العائلي السابق، وهو ما اعتبرته المنظمة قيودًا تنتهك القانون الدولي.[7]
ما كشفته المنظمة الدولية من شهور تسع، ليس بعيدًا عما أفصحت عنه نوف المعاضيد، وما تعرضت له من ممارسات أسرية، وبدلًا من البحث عن حلول فعلية لتغيير النسق الذي تعيش فيه النساء القطريات، تجاهلت وسائل الإعلام القطرية الرسمية تقرير هيومان رايتس، وقت صدوره، فيما ردت وسائل إعلام ممولة من الدوحة بتقارير من قبيل "قطريات يرفضن تقرير "رايتس ووتش" عن وضع المرأة في بلادهن"، وهو التقرير الذي نشره موقع الخليج أون لاين، وتضمن اتهامات للمنظمة الدولية بالعمل ضد الشريعة الإسلامية والدستور القطري "اللذين يحفظان حقوق المرأة".[8]
وقتها أيضًا، دافعت عدد من النساء القطريات عن نظام الولاية، مثل عضوة مجلس الشورى القطري، هند المفتاح، التي اعتبرت "نظام الولاية من ثوابت الإسلام، وهو ليس تجبرًا من الرجل بل تكريم للمرأة، وليس تشريفًا أو مسؤولية للرجل بل تكليف ومساءلة له، بإمكانكم نقد كل شيء في مجتمعاتنا إلا ديننا".
لم يكتف التقرير بذلك، بل تحدث باسم "نساء قطر" جميعًا، اللائي اعتبرن "الولاية حق من حقوقهن، وبها ينلن الحماية والإنفاق والأمن والأمان وفق شريعة الإسلام، وأن الدستور القطري وقوانين الموارد البشرية والضمان الاجتماعي وغيرها أنصفت المرأة وكفلت حقوقها وجعلتها مكرَّمة في المجتمع".
قبيل صدور تقرير هيومن رايتس، وتحديدًأ في فبراير/ شباط من العام الماضي، دشنت مغردات قطريات حملة تدوين على تويتر، تحت هاشتاج "حقوق_المراة_في _قطر"، وطالبن بـ7 مطالب رئيسية جاء في مقدمتها تجريم التعنيف الأسري واعتباره "جناية"، وفق تشريعات قانونية، بجانب الحصول على الاستقلال وحرية التنقل دون قيود، وإنهاء التعسف في مسائل استكمال الإجراءات القانونية والحكومية دون ولي أمر، وإلغاء تصريح الموافقة على العمل من جانب الزوج، ومشاركتها في الولاية على الأبناء، وأخيرًا الموافقة على تجنيس أبناء القطريات من الأزواج غير القطريين.
على خطى نوف
نوف المعاضيد ليست أول ناشطة قطرية تفرّ من الجحيم القطري ولا آخرهن، وإن كانت أبرز العائدات إلى الدوحة التي تصور نفسها واحة الحريات في الشرق الأوسط ونصير قضايا المظلومين. وعلى خُطى نوف، وبعد شهر واحد من هروبها، أي 21 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وخلال رحلة عائلية إلى الكويت، جهزت الناشطة القطرية عائشة القحطاني حقيبتها في منتصف الليل، واستقلت طائرة متجهة إلى لندن، وقدمت طلبًا باللجوء إلى المملكة.
"أن تكوني امرأة في قطر هذا يعني أنك مجرمة"، هكذا تحدثت القحطاني ابنة الثلاثة والعشرين سنةً ذات لقاء في فيلم تسجيلي أسترالي بعنوان جحيم المطار، كاشفة ابنة المسؤول العسكري الرفيع أنها درست الأدب الإنجليزي والفلسفة، ومع ذلك تعرضت للضرب المبرح مرات من أفراد أسرتها، وحُبست داخل غرفة نوم نوافذها مغلقة بقضبان معدنية، حين كانت أسرتها تستعد لتزويجها من رجل دين متشدد.
وخلال لقاء مع النسخة الأسترالية من برنامج 60 Minutes الذي يبث في ليالي الأحد على شبكة Nine Network، تعهدت القحطاني بأنها تخطط "لإشعال ثورة" في بلادها لجعل المزيد من النساء يتحدثن عن حقوقهن[9]، "لدي من الوقت والطاقة لتنفيذ ذلك"، هكذا قالت.
مقابلة القحطاني مع 60 Minutes
وفي مارس/ آذار 2020، أفصحت القحطاني خلال مقابلة مع صحيفة التايمز البريطانية[10]، أن حياتها لا تزال في خطر وتعيش في مكان سري في المملكة المتحدة تحت حماية الشرطة البريطانية، وسبق أن قدّم أحد أفراد عائلتها رشوة لموظف في وزارة الداخلية البريطانية لتسليم تفاصيل العنوان السري الذي كانت تقيم فيه، حينها قال لها "قادني إليكِ الأشخاص المعنيون بحمايتكِ.. كل شيء في لندن يُنجز بالمال".
الولاية اجتماعية أم سياسية؟
كل ما سبق يصل بنا إلى السؤال التالي: لماذا ترفض الأنساق الاجتماعية في قطر، وأغلب دول الخليج ولاية المرأة واستقلالها؟ لماذا كل هذا الازدراء للنساء؟ في اعتقادنا أن الأسباب متعددة ومختلطة، ونتيجة تراكمات ثقافية "أصولية دينية، وقبلية، وثقافات محافظة" وغيرها، أنتجت جميعًا رؤية تشير إلى النساء بوصفهن ناقصات عقل، غير جديرات بتولي مهامهن أولًا ومن ثمّ المهام والمسئوليات الكبيرة، أهمهما الولاية السياسية.
الإشكالية إذن ليست اجتماعية، لما يترتب على المكاسب الاجتماعية مزايا سياسية بالضرورة، ومن ثمّ تبنت الرؤى الرجعية في عمومها وضعية "محتقرة" للمرأة، أو على الأقل وضعت النساء في درجة أقل من الرجل، وحاول الفقهاء تشريع ذلك الوضع انطلاقًا من الآية القرآنية "وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ"، مما غذى نزعات كراهية النساء "الميسوجينية Misogyny"، التي تشير إلى نزعة كراهية أو خوف، بدأت في تاريخ البشرية مع سيادة البطريركية، أي الثقافة الأبوية عقب التحول عن مرحلة زمنية من تاريخ البشرية تعرف بـ"المطريركية"، أو مرحلة عبادة الأمومة، وفيها عبد الإنسان الأنثى، ومع التحول بدأت عملية التنظير لكراهية النساء.
ومع تطور الزمن، لم ير الخطاب الميسوجيني، سوى أن وظيفة للمرأة الرئيسية وأحيانًا الوحيدة، تأكيد تفوق الرجل وتمرير فعاليته وهيمنته و"قوامته"، وهنا تتشابه الرؤيتان الدينية والقبلية عن المرأة، حتى يبدو الأمر وكأنه نابع من ذات المصدر، فالمرأة لديهم جميعًا "ناقصة"، وإذا كان كمل من الرجال كثير فلم يكمل من النساء إلا آسيا ومريم وخديجة وفاطمة، يلاحظ هنا أن اكتمال النساء في الماضي تام ومنته، ما يعني أن بقية نساء العالمين سيصيبهن النقص سواء في العقل أو الدين أو في كليهما، الأمر الذي قد يُفسر سبب الأوضاع الاجتماعية والسياسية للنساء في أغلب الدول العربية.
"مخلوعة تستحق القتل"
نعود إلى نوف المعاضيد مجددًا، لنراها واحدة من أولئك الخلعاء، أي فئة "الشذاذ" الذين خلعتهم قبائلهم بسبب أعمالهم التي لا تتوافق مع أعراف القبائل التي ينتمون إليها، ومثلوا طبقة رئيسية في فئة أكبر وهي الصعاليك، ورغم أن المفردة لا تشير إلى الفقراء المعدمين الذين يقنعون بفقرهم، أو يستجدون الناس ما يسدون به رمقهم، وإنما إلى "المشاغبين" والمغيرين أبناء الليل الذين يسهرون في أعمال النهب، فإن المعاضيد تتمظهر في نظر أبناء جلدتها "مشاغبة" تستحق الخلع.
ولأنها امرأة وليست رجلًا، فإن خلعها يتطلب التخلص من "العار"، ولا سبيل في الثقافات البدائية للتخلص من العار سوى "الدم". و"اغسل عارك يا ولدي" ثقافة ليست فقط شرقية، ففي مسرحية الفرنسي كورنل المكتوبة في القرن السابع عشر السيد القائمة على فكرة الشرف وغسل العار، يتوجه دون ديك إلى رودريك ويقول له "تعال يا ولدي، تعال يا دمي، تعال اغسل عاري"، كما أن مسألة الارتباط بين غسيل العار والدم، فكرة بدائية ترى في الأخير تطهيرًا، من وقت الافتداء الوثني بالكبش وتقديمه للآلهة كقرابين وفداء.
[1] Qaṭar: Woman human rights defender Noof Al-Maadeed reportedly murdered
[2] ‘If I’m not on social media, I’m dead’: Qatari feminist activist feared killed or detained
[3] مسؤول قطري: نوف المعاضيد في أمان وبصحة جيدة
[4] تغريدة نوف المعاضيد
[5] الشيخ تميم الوحيد الي يقدر يوقف الخطر الي على حياتي بيديه.
[6] كل شي أسويه يحتاج موافقة رجل
[7] فيديو سيدة قطرية تطالب بحضانة طفلها
[8] قطريات يرفضن تقرير "رايتس ووتش" عن وضع المرأة في بلادهن
[9] الفيديو الترويجي للقاء مع عائشة القحطاني
[10] Daughter of wealthy Qatar family lives in constant fear of kidnap