في أواخر السبعينات، رفع الحزب اليساري المصري التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، شعارًا مفاده "نرضى بما يرضاه الفلسطينيون". كان الشعار محاولة للتملص من مأزق معاهدة كامب ديفيد، والهروب من حالة مجتمعية استقطابية بين المعارضين من ناحية، والمرحبين الذين صدقوا وهم أن "السلام" سيحسن ظروفهم الحياتية، من ناحية أخرى. وربما جاء الشعار كتبرير مختصر، يقدمه الحزب للسلطة، لرفضه الانضمام لركبها. حيث كان التجمع وقتها الحزب الأهم في رفض المعاهدة، وفي رفض كل ما تم تسميته بـ"نهج كامب ديفيد"، والحليف الأهم لمنظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة في زمن ما بعد عبد الناصر.
تذكرتُ هذا الشعار التجمعي في اللحظة نفسها التي بدأتُ مراقبة أزمة فيلم محمد دياب الأحدث أميرة، ودعوات بعض الفلسطينيين والأردنيين والمصريين لسحبه من السينما، وأحيانًا "منعه"، ودفاع فريق الفيلم عنه، وكيف أنهم يوافقون أيضًا على سحبه المؤقت، وصولًا لإعلان الهيئة الملكية الأردنية للأفلام سحبه من الترشيح لجوائز الأوسكار باسم الأردن.
الفيلم المذكور هو إنتاج مشترك لعدة جهات؛ مصريًا يظهر اسمي معز مسعود ومحمد حفظي وشركته فيلم كلينيك، وفلسطينيًا يبرز اسم هاني أبو أسعد، مثلما تشارك الهيئة الملكية الأردنية للأفلام في الإنتاج، وبدعم من مهرجان البحر الأحمر السعودي.
تدور أحداث الفيلم، الذي بدأت حوله الضجة فجأة بعد شهور من بداية عروضه، كما يأتي في قاعدة بيانات السينما العربية "حول أميرة، وهي مراهقة فلسطينية ولدت بعملية تلقيح مجهري بعد تهريب منيّ والدها نوار السجين في المعتقلات الإسرائيلية، لكن عندما تفشل محاولات إنجاب طفل آخر ويُكشف أن والدها نوار عقيم، تنقلب حياة أميرة رأسًا على عقب وتجبرها الظروف على أن تخوض رحلة لمعرفة الحقيقة وراء هويتها".
الإعلان التشويقي لفيلم أميرة.
لا يكشف هذا الملخص، إن اعتبرناه رسميًا، عن أية تفاصيل أخرى لأحداث الفيلم. بينما يبدو مما ينشره المهاجمون والمدافعون عنه أن تلك النطفة/السائل المنوي المهربة من الأسير الفلسطيني لزوجته، التي ولدت على أساسها "أميرة"، تخص حارس إسرائيلي كان يعمل بالسجن سابقًا. وهو ما يفترض أن يدخل صناع الفيلم في عملية تأمل وجودي عليهم حلها دراميًا.. من هو الفلسطيني ومن هو الإسرائيلي؟ هل يتحدد الانتماء الوطني والقومي بناءً على السائل المنوي والجينات المتوارثة؟ أم أنه يتحدد بناء على التربية والوعي والانتماء؟ وكيف سيتعامل المجتمع الفلسطيني مع هذه المراهقة التي تحمل جينات رجل إسرائيلي؟
لا أعرف إلى أي نوع من الحلول الدرامية والسياسية يصل صناع الفيلم، حيث لم أتمكن من مشاهدته، ولا يكفي "الحكي" الفيسبوكي لمعرفة تفاصيل درامية وفنية لا تتضح إلا بمشاهدة الفيلم. وعليَّ التأكيد هنا أن هذا النص لا يناقش فيلم أميرة، وحرصت على كتابته قبل أن أشاهده، وهو بالتالي ليس مشاركة في محاكمة عمل فني يتم تشريحه حاليًا على موائد الصحافة وتريندات مواقع التواصل الاجتماعي. بل إن هذا المقال هو مجرد محاولة لمناقشة نوعية الضجيج الحاصل حول منتج فني، ودعوة البعض لمقاطعة أو سحب أو منع منتج ما، لأنهم اطلعوا عليه، ولم يرضهم، أو لم يرض توجهاتهم السياسية أو الفكرية، فيدعون إلى منع الآخرين من رؤيته.
عن الثقة في رأي الآخر
يعتمد هذا النوع من الحملات على مسألة أساسية، وهي "الثقة"، وهنا تكمن مشكلتها الكبرى، أن يطلع البعض على منتج فني ما، بالصدفة، أو لأن "حق" الاطلاع مكفول ومتاح، وبناءً على قراءتهم الشخصية لهذا العمل الفني، وفهمهم الخاص له، ومن موقع أبوي، يتصورون أنهم أوصياء على الجمهور وواعين بالصواب والخطأ، فيقومون بدعوة الآخرين لعدم الاطلاع عليه، ومقاطعته، والتشهير بصناعه، دون أن يطلع هؤلاء المدعوين للمشاركة في الحملة بدورهم على العمل الفني. ويمتد الأمر إلى الضغط لمنع العمل، أو لإجبار الجهة المالكة له على سحبه من أمام جمهوره المحتمل.
بدأت فكرة المقاطعة في ثقافتنا الحديثة في علاقة مباشرة بإسرائيل ومنتجاتها. وهي فكرة شائكة وإشكالية في حد ذاتها، وبالذات إن تحدثنا عن المنتجات الثقافية والفنية التي نحتاج الاطلاع عليها لفهم العقلية الإسرائيلية، فمن منا له حق الاطلاع؟ ومن يفتقد هذا الحق؟ لكن، ولأن مسألة إسرائيل هي مسألة مصيرية على مستويات عديدة، لا نملك سوى رفض كل أشكال التطبيع، ورفض كل محاولات تمرير المنتجات الثقافية والفنية الإسرائيلية لمجتمعاتنا، وأكرر لأنها في هذه الحالة تحديدًا مسألة سياسية مصيرية.
لكن هذه الإشكالية تتضاعف بتعقيداتها إن خرجنا من سياق التطبيع مع إسرائيل وضرورة مقاطعتها، لنصل بسهولة إلى نقطة تبدو بديهية، وهي أنه ليس لأحد السلطة في أن يفرض ذلك النوع من الثقة في أرائه على أي شخص آخر، وإلا تحولنا لقطيع يسير وفق ما يراه عدد ممن يفترضون في أنفسهم الحكمة والمعرفة، وبأنهم أكثر ثقافة ووعيًا بمصلحتنا، هم يرون الأفلام ويقرؤون الكتب، ولأننا نثق في أرائهم علينا أن نقبل ما يقولونه. وبهذا تتسع فكرة المقاطعة والمنع لأبعد من إسرائيل، تصل لمقاطعة أي منتج عربي أو غير عربي لا يراه هؤلاء البعض مناسبًا، والضغط على السلطات القمعية لتمارس قمعيتها في منع ما لا نريد أن يطلع عليه الآخرون.
سؤال الثقة المقصود هو أخطر من مجرد الثقة العادية في أراء البعض، فهو يصل إلى أبعاد كابوسية في واقع يفرض علينا حاليًا أن شخصًا واحدًا فقط، أيا كانت هويته، قادر على صناعة تريند مجتمعي، والحكم بالإعدام على الآخرين إن أراد. بل أن بعض المهاجمين للفيلم، ولأنهم يتمتعون بما يمكن تسميته "بعض السلطة التريندية"، أو لنسميها تخفيفًا سلطة أخلاقية مستمدة من الانتماء السياسي المعارض للأنظمة، أو مستمدة من كونهم فلسطينيون، يمنحون أنفسهم الحق في أن يهاجموا فيلمًا لم يشاهدوه، وفي الوقت نفسه يدعون لعدم سحبه كي يراه الناس و"يحكمون" هم عليه. وضعت تعبير "يحكمون" بين أقواس لأنه التعبير المستخدم.
كيف يحكم الناس على فيلم؟ المفترض أنك ترى الفيلم أو تقرأ الرواية، تحبهما أو تكرههما، ترفض توجهاتهما أو تقبلها، فتعبر عن رأيك فيهما. لكن إدخال تعبير "الحكم" يجعلنا نتوهم الدخول لمنطقة قضائية، حيث من الممكن إعدام عمل فني لأنني لم أحبه أو أرفض توجهات صناعه. وكيف يتم إعدامه؟ بالتريندات أيضًا. فمثلما كان البدائيون يتصورون أنهم يقضون على أعدائهم بحرق صورهم، سنحرق نحن هذا الفيلم وصناعه على صفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، وأثناء كتابتي هذه الأسطر بدأ البعض ممن لم يروا الفيلم، بنشر أفيشاته مع وضع علامة أكس سوداء ثقيلة عليها، فأصدروا حكم الإعدام ونفذوه. وهو حكم إعدام وهمي لا يحل المشكلة ولا يحمي القضية الفلسطينية.
في الزمن الذي بدأ فيه حزب التجمع برفع شعاره الهروبي "نرضى بما يرضاه الفلسطينيون"، الممتلئ بروح الثقة في الفلسطينيين، كانت المسائل بسيطة، هناك عدد من الثوابت الوطنية والقومية الواضحة، هناك إعلام محدود ممثل في قنوات تلفزيونية قليلة وعدد من الجرائد، المواقع محددة وواضحة، فصائل سياسية وسلطات سياسية في حالة صراع معلن وواضح الأسباب، منظمات الثورة الفلسطينية تحمل السلاح في لبنان لتواجه إسرائيل وحلفائها، وعليك الاختيار من بين كل هؤلاء. لكننا الآن في زمن لا تملك أي جهة المصداقية الأخلاقية أو السياسية كي تستطيع أن تفرض تصوراتها على الآخرين، أن تقول لهم ما يمكنهم مشاهدته وما ليس عليهم بمشاهدته. نستطيع رفض كل أشكال التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ورفض كل أشكال التسفيه من النضال التحرري الفلسطيني، وأعترف بأنني مثل آخرين أرى أن قصة الفيلم، بناءً على ما هو منشور عنها، شديدة السخافة وتبتذل مسائل جادة ومصيرية. لكن.. إن جاء محمد دياب أو أي مخرج آخر بهذه السخافة والتسفيه من قضية مصيرية، كيف نتعامل معهم؟
أم المعارك
اعتمد بعض الهجوم على الفيلم والتحريض على سحبه أو منعه أو مقاطعة عروضه، على تفاصيل تتجاوز موضوعه، مثل الإيحاء بوجود جهات تمويل مشبوهة، بالرغم من عدم تقديمهم لأي معلومات حول هذا الموضوع، ورغم أن هذه الجهات المنتجة للفيلم، التي أشرت إليها في البداية، لا يتم اتهامها بأنها مشبوهة في حالات إنتاجية أخرى، بل أنهم شديدي الانتشار، ويتواجد الآن، أثناء كتابة هذا النص، كثيرون من السينمائيين العرب والفلسطينيون بالمهرجان السعودي. أو الادعاء بأن فريق الفيلم قدم الشكر في التيترات لإدارة سجن جلبوع على سماحها بتصوير أسواره. وهو ما يتضمن التحريض على المخرج بتهمة التعاون مع العدو الصهيوني لصناعة الفيلم، وأنه دخل بالضرورة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بتصريح إسرائيلي لتصوير تلك الأسوار. رغم ما هو معلن أن كل مادة الفيلم تم تصويرها بالأردن، وغياب أي شكر لأي جهة إسرائيلية في عناوينه.
وفي حدود ساعات تحول موضوع تهريب السائل المنوي لبعض الأسري الفلسطينيون في سجون الاحتلال، وولادة مائة فلسطيني وفلسطينية خلال التسعة أعوام الأخيرة عبر هذه الطريقة، إلى مسألة مقدسة، هي الأكثر قداسة وتعبيرًا عن النضال والصمود الفلسطيني، والاقتراب منها يعادل جريمة خيانة فلسطين. رغم أن أغلب الجمهور الغاضب لم يكن يعلم عنها مسبقًا.
التحريض العام والشامل بطريقة "أم المعارك" ضد شخص ما، لأنه قدم فيلمًا لا يعجب البعض، أو لأننا نرى أن مضمون فيلمه مضر بقضايا هامة، تحول لأداة متكررة، لا ينتج عنها دفع صناع الأفلام ليكونوا أكثر جدية ومسؤولية أثناء صناعة أفلامهم، بل ينتج عنها تخريب أي نقاش حتى ولو كان موضوع النقاش عملًا فنيًا، ويقوم بحصر احتمالات الحوار والخلاف والتفكير إلى استقطابات حادة ومعارك لا تنتهي إلا بانتصار طرف على آخر. حدث هذا مع فيلم ريش عبر الممثل الذي استدعى سمعة مصر، فحول كل الحوار المحتمل حول الفيلم إلى معركة بين نقيضين.. من وصلوا إلى مستوى وصفه بأنه أسوأ فيلم في تاريخ السينما المصرية وعبارة عن مؤامرة تمويلية، ومن وصفوه بأنه من أفضلها. دون أن نتمكن فعلًا من مناقشته وتحليله بهدوء ووضعه في مكانه الطبيعي كعمل إبداعي رديء أو مثير للاهتمام.
في حالة فيلم أميرة، يستدعي الغضب الفلسطيني والأردني، والممتد مصريًا على وسائل التواصل الاجتماعي، نفس أدوات الممثل الغاضب من فيلم ريش. غضبَ الممثل لسمعة مصر، وهم غاضبون لسمعة ورجولة الأسرى وشرف وعرض أبنائهم المائة. والطرفان يستدعيان سلطة ما لممارسة المنع. الممثل يستدعي السلطة الحاكمة المسؤولة عن سمعة مصر، والغاضبون من فيلم أميرة يستدعون الجهة التي تملك الحق في سحب الفيلم، وللمفارقة هي جهة تنتمي للدولة الأردنية، التي تُطبع العلاقات مع إسرائيل منذ اتفاقيات وادي عربة أكتوبر/تشرين الأول 1994. وهي المفارقة التي تثير بعضًا من المرارة، أن ندعو جهات تنتمي لنظام مطبع لسحب فيلم لأنه من المحتمل أن يهين رافضي ومقاومي التطبيع.
عن متاهة الخيال
جاء بيان فريق الفيلم، ليعمق المشكلة، وليعكس تصورًا إشكاليًا عن السينما. فبعد التأكيد في البيان أن كل الأطفال الذين ولدوا بهذه الطريقة تم التحقق من نسبهم، ومن انتمائهم لهؤلاء الأباء الأسرى، يؤكد الفريق أن قصة الفيلم خيالية. وهنا تكمن أحد المشكلات الجوهرية التي أثارت الكثيرين، وهي المتعلقة بالأساس الذي يقف عليه هذا الشيء المسمى بـ"الخيال". أن تختار حقيقة من بين مئات الملايين من الحقائق، وتأتي لتفترض عدم صحتها، في سياق درامي واقعي تمامًا يستمد مصداقيته من الواقع الذي رسخ هذه الحقيقة، وتقوم بتسمية هذه العملية بالخيال.
ما الخيال؟ هل المقصود به الروائية أم الفانتازيا؟ إن كانت الفانتازيا فهي بناء عالم موازي بالكامل، حتى وإن قصد عبر بناءه تقديم رؤية تأملية تجاه الواقع المعاش، فكل الأفلام في النهاية تأتي من الواقع وتعود إليه. وإن كان المقصود بتعبير "الخيال" هو "الروائية"، فإن الخيال بهذا المعني يفتقد لمبرره بمجرد أن تقوم بصناعة فيلم واقعي للتشكيك فيما تسميه أنت بحقيقة ثابتة. فما الهدف إذا من فيلمك إن كنت تسلم بأن ما تقدمه لا يمكن أن يحدث؟ أهو مجرد استفزاز للمتفرج بلعبة طفولية سخيفة تهينه وتسفه من قضيته؟
هذه النقطة الأخيرة نفسها تستدعي للذهن طريقة ما في عمل الأفلام، خرج من ضمنها فيلم سابق لمخرج فيلم أميرة، محمد دياب، وهو اشتباك (2016)، من إنتاج محمد حفظي أيضًا، وفيلم أخر للسينمائي الفلسطيني هاني أبو أسعد، وهو الجنة الآن (2005)، ربما في مقال أخر نتناول علاقتهما بفيلم أميرة محل الخلاف الحالي.
بالعودة إلي أميرة، يطرح بيان فريق الفيلم أسماء بعض المهرجانات التي شارك فيها، كفينيسيا والجونة وقرطاج، في سياق يوحي بأن عرضه في تلك المهرجانات هو بمعني ما دليل على النزاهة، لأن أحدًا لم يعترض عليه وقت مشاهدته. بينما لا يوجد أي مهرجان سينمائي في العالم قادر على منح شهادات النزاهة الأخلاقية أو السياسية أو الفنية. الأخطر هو أن صناع الفيلم يقفون بهذه الطريقة على نفس أرضية من يهاجمونهم، أن تستمد شرعيتك من أراء الآخرين. البعض قرأ الفيلم باعتباره إهانة لجموع الشعب الفلسطيني وأسراه، فقاموا بمهاجمته، وإقرار أنه لا تجب مشاهدته، مانحين أنفسهم الحق بالتحدث باسم تلك الجموع، وفي المقابل فإن المئات الذين شاهدوا الفيلم وقاموا بالتصفيق له بعد عروضه في تلك المهرجانات يمنحونه شرعية النزاهة المقابلة.
يختتم البيان بهذه الفقرة "وأخيرًا فإن الهدف السامي الذي صنع من أجله الفيلم لا يمكن أن يتأتى على حساب مشاعر الأسرى وذويهم الذين تأذوا بسبب الصورة الضبابية التي نسجت حول الفيلم. نحن نعتبر أن الأسرى الفلسطينيين ومشاعرهم هم الأولوية لنا وقضيتنا الرئيسية، لذلك سيتم وقف أي عروض للفيلم، ونطالب بتأسيس لجنة مختصة من قبل الأسرى وعائلاتهم لمشاهدته ومناقشته. نحن مؤمنين بنقاء ما قدمناه في فيلم أميرة، دون أي إساءة للأسرى والقضية الفلسطينية".
طرح تعبيرات من نوعية "الهدف السامي" و"النقاء" يضع العمل الفني في مرتبة ملائكية فوق النقد، وفوق حق جمهوره في رفضها ونقدها. وهو نوع من التعالي على الجمهور الرافض للفيلم على اعتبار أنهم غير قادرين على استشراف ساميته ونقاءه. ناهيك عن أن ركاكة استخدام مثل هذه التعبيرات يسحب الفيلم إلى منطقة الدعاية وليس الفن.
لكن المثير للدهشة أكثر هو الدفاع المبدئي عن الفيلم، والإعلان في الوقت نفسه عن سحبه، وهو ما يتكرر في بيان الهيئة الأردنية الملكية للأفلام، فيدافعون عن الفيلم ونزاهته وجودته، لكنهم يسحبونه من التداول كي يرضوا البعض. في حالة صناع الفيلم فإنهم يرهنون عرضه بلجنة مختصة مشكلة من الأسري الفلسطينيين وعائلاتهم، لتشاهده وتقرر مصيره، وكأنها المحكمة التي تحكم على العمل الفني هل تعدمه أم تسمح به. أما الهيئة الملكية فذهبت لما هو أبعد في إعدامه وسحبته من ترشيحاتها للأوسكار لمجرد وقف الجدل حوله، رغم أنها في البيان نفسه أشادت واحتفت به.
وكأن الجدل حول عمل فني هو شيء غير مستحب، فتتساءل عن أي شيء سنتجادل إذًا؟ إن كنا مُنعنا من الجدل السياسي والفني، فماذا تبقى لنا كي نتجادل حوله؟ وهذه اللجنة المفترض تشكيلها من الأسرى وعائلاتهم، ومع كل الاحترام لمعاناتهم وتضحياتهم، من أين اكتسبت شرعية الحكم على فيلم؟ وسأضيف هنا احتمال آخر، أن من يطالبون بهذه اللجنة واعين بأنها لن تتشكل، يحاولون كسب الوقت عبر هذا الاقتراح، ويحاولون كسب المزيد من السامية والنقاء على حساب هؤلاء الأسرى وعائلاتهم.
هذه الصياغات التي يستخدمها من يفترض فيهم الدفاع عن الفيلم، وعن حق المبدعين في طرح تصوراتهم وإن لم تحظ بإعجابنا، هي الصياغات المشجعة لحالة التخوين نفسها، ولجر مسألة تلاعب الإسرائيلي بالسائل المنوي إلى افتراض أن الفيلم مهين للشرف والرجولة والعرض الفلسطيني، بل أنه يبرز الفلسطيني كعقيم، وهو ما يعني جرح لرجولة وذكورة بعض الغاضبين. ليتحول الاختيار الشخصي لمائة من الأسري، بالمشاركة المفترضة من زوجاتهم، في أن ينجبوا بهذه الطريقة، إلى رمزية مقدسة للنضال والصمود والمقاومة. وهو ما يعني تسفيه خمسة وسبعون عامًا من النضال والصمود الفلسطيني، وإهانة للآلاف الآخرين من الأسرى والزوجات الذين لم يلجئوا لهذا الحل، أيًا كانت أسبابهم، فيتم عزلهم عن البطولة الفلسطينية.
هل نرضى بما يرضاه الفلسطينيون؟
كثيرة هي التساؤلات المطروحة في هذا المقال دون إجابات، لنستكملها ونختتمها. لن نجيب على شعار حزب التجمع بعد تحويله لسؤال، بل نضيف إليه سؤالًا جديدًا.. من هم الفلسطينيون؟
يبدو حزب التجمع في زمن السبعينات، إذا نظرنا إليه بعين زمننا الحالي، وكأنه مقاومًا للزمن، يرفض تقدمه، ومختصرًا لكل متاهاته الفكرية في شعاره هذا "نرضى بما يرضاه الفلسطينيون". فبينما أنتج الحزب، والفصائل اليسارية غير الشرعية المحيطة به، والكثير من الأفراد، مئات وربما آلاف المنتجات الفكرية والثقافية التي تأصل لمسألة لماذا على الشعب المصري أن يرفض كل أشكال الصلح والتطبيع مع إسرائيل، يأتي الحزب رسميًا وكأنه يقف في لحظة زمنية لن تتقدم، يلجأ إلي الاختصار المخل، فبما أن الفلسطينيون يرفضون التطبيع والمعاهدة، ولن يتصالحوا أبدًا مع الإسرائيليين، نرفع نحن شعارًا يلقي بكل الثقل عليهم، ويقدسهم، ويعزل مصر ضمنيًا عن الصراع العربي الإسرائيلي، كأن مشكلة مصر مع إسرائيل قد حلت مثلما ادعت ماكينتي الدعاية الساداتية والإسرائيلية، ونقوم أيضًا بتعميم هؤلاء الفلسطينيون، وتصويرهم ككتلة واحدة، وتصوير أنفسنا وكأننا عارفون بدقة لتوجهات هذه الكتلة وما يرضيها، وكأن هناك طرف قادر على معرفة مواقف وتوجهات عموم شعب كامل.
لم يصمد الشعار كثيرًا، فبعد إطلاقه بحوالي عشر سنوات بدأ مؤتمر مدريد للتفاوض العربي الإسرائيلي 1991، وذهب وفد فلسطيني للمشاركة. وقبل المؤتمر بوقت قليل قام قادة الحزب بتحوير الشعار تدريجيًا، ليكون "نرضى بما ترضاه منظمة التحرير الفلسطينية". لكن المنظمة كانت في هذه اللحظة تبدأ رحلة تفككها وانقسامها. فلم يجد الحزب بديلًا عن أن يكون المعنى العملي لشعاره هو أن نرضى بما ترضاه منظمة فتح، فصيل واحد من المنظمات المشكلة لـ"منظمة التحرير الفلسطينية"، وعمليًا، وخلال اتفاقات أوسلو السرية الكارثية أصبح المعني الوحيد للشعار هو نقبل بما يقبله ياسر عرفات. أي أن الشعب الفلسطيني بمجمله، وبكل تناقضاته الاجتماعية والسياسية، تم اختصاره في شخص أبو عمار. ورهن الحزب اليساري موقفه في قضية مصيرية على المستوى المصري والفلسطيني والعربي بما يراه شخص واحد، وبشيك مسبق على بياض، ودون أن نعرف ما يقبله أو ما سيقبله ياسر عرفات. بينما كان من المحتمل أن تقل درجة الكارثية، إن كنا تواضعنا بعض الشيء في درجة التقديس السبعيناتي والثمانيناتي، وإن كنا تجادلنا أكثر.
ومن المفترض الآن أن ألغي عقلي، أقاطع فيلمًا، ألا أشاهده، وأدعو الآخرين لمقاطعته بدورهم، لأنه لم يعجب البعض ممن لا أعرف أي أسباب للثقة في أرائهم، مثلما لا أعرف أي أسباب للثقة في توجهات فيلم عن فلسطين لمجرد أن جزء من فريقه الأساسي فلسطينيون، مثلما هو حال فيلم أميرة.