لم يكن جمع الصور إحدى هوايات عائلتنا. لم يُحفظ، من هذا الأرشيف، لأحد أهم وثائق الحياة اليومية، سوى عدة أظرف حكومية صفراء، أو أخرى بيضاء، أو حقيبة صغيرة، تتراص بداخلها صور لمناسبات عائلية: زفاف، أو رحلة خارجية، أو ذكرى مصيف. كل ظرف عليه عنوان لمناسبة، يندرج تحتها صور لمناسبات أخرى دخيلة زمنيًا. تبعثر تاريخ العائلة على عدة عقود، وظلت بينها فترات مفقودة، تشكل ثقوبًا زمنية في هذا التاريخ العائلي .
تعود أغلب هذه الصور إلى عاطفة البدايات لوالديَّ، وتكشف طريقة كل منهما في توثيق حياتهما معًا، وتعاملهما مع الزمن. صور أمي، كانت ترتبط بالعائلة، بأفرعها المتعددة، سواء بالجزء الذي يرتبط بالحاضر الأبدي السعيد الذي يجمع العائلة كلها، داخل إحدى تفاصيل ومهام الحياة اليومية، والتي تريد العائلة أن تقول من خلالها إننا جماعة سعيدة ضد الزمن. أيضًا بالجزء الآخر، الذي توثق فيه لتاريخ الموت، الذي أسقط أوراقًا كثيرة من شجرة عائلتها، وجميعها صور شخصية لأقطاب عائلتها الذين رحلوا.
أما أبي، على عكس أمي، أغلب صوره، كانت تدور وقائعها خارج نطاق العائلة، في أماكن بعيدة، وسط تجمعات كبيرة، لها أعمار متقاربة، نسبيًا، لأصدقاء، ورفقاء حياة، كانوا يمثلون العائلة الروحية له. كل علاقاته داخل الصور تجمعها رابطة الصداقة، وليست رابطة الدم. لم أعثر له عن صورة له مع أمه أو أبيه أو أحد أقاربه، إما مع أصدقائه، أو منفردًا وسط مشهد عام. ربما كانت هذه طريقة فهمه "للفردية" التي وثق لها ألبومه العائلي.
الزمن العائلي
توقف التوثيق في عائلتنا، عند زمن الأبيض والأسود في السبعينيات، بكل مايحمله من شجن ومثاليات، وغموض، قبل اختراع الكاميرا الألوان. لم يخرج من العائلة هذا المصور الهاوي، أو المحترف، الذي يجري وراء هذه التاريخ والمناسبات، ويحدس، بحكم حبه للعائلة والتصوير معًا، بأن هذه الصور سيكون لها شأنًا في المستقبل. رغم تعدد أسماء المصورين المجهولين، لصور العائلة، فإن هناك أسلوبًا شديد التشابه يجمع هذه الصور، فكان هذا "الزمن العائلي" يفرض أسلوبه على الجميع، والذي تجسد في وقوف تلك الكتلة المتماسكة، بكل أفرعها، وأعمارها، تنظر للزمن القادم بدو خوف، أو بخوف جعلهم يسدون اي فراغات توجد بين أجسادهم.
تكتب الناقدة والروائية والمخرجة الأمريكية سوزان سونتاج حول صور العائلة، في كتابها حول الفوتوغراف ترجمة عباس المقرجي، دار المدى للثقافة والنشر- بيروت (2013) "عبر الصور الفوتوغرافية تسجل كل عائلة تاريخًا صوريًا لنفسها، وصندوقًا محمولًا من الصور بمثابة شاهد على ترابطها. لا تهم ماهية النشاطات التي صورت، طالما أن الصور التقطت وحفظت. يغدو التصوير الفوتوغرافي طقسًا في حياة العائلة، فقط حين يبدأ قانون العائلة، في البلدان الصناعية لأوروبا وأمريكا؛ بالخضوع إلى تحول جذري. لما كانت تلك الوحدة المصابة برهاب الاحتجاز، العائلة المليئة بالعقد، مقطوعة من تجمع عائلي أكبر حجمًا، فإن التصوير الفوتوغرافي ظهر لإحياء الذكريات، ليصرح ثانية، بشكل رمزي، عن الديمومة المعرضة للخطر، والتوسعية المختفية للحياة العائلية. تلك الآثار الطيفية، الصور الفوتوغرافية، تمدنا بالحضور الرمزي للأقرباء المختفين. ألبوم الصور العائلية هو بشكل عام حول العائلة الواسعة- وغالبًا، هو كل ماتبقى منها".
وتصف سونتاج فن التصوير، في الكتاب نفسه، بأنه فن رثائي "الصور الفوتوغرافية تحرضنا بعزم على الحنين، التصوير الفوتوغرافي هو فن رثائي، فن زمن الانحطاط، وأغلب المواضيع الفوتوغرافية، من خلال مزية أن تكون مصورة فقط، هي على صلة بالرثاء".
ألبوم صور الحائط
في بيت جدتي لأمي كان هناك ألبوم مختصر تمامًا معلق على الحائط، في غرفة السفرة، لرموز العائلة من الرجال، الغائبين منهم، كصورة جدي، وخالي الذي توفي مبكرًا، وللأحياء كأخوة جدتي من الرجال الذين لا زالوا على قيد الحياة. ظلت المساحة الأنثوية شاغرة، كالفجوات الزمنية، على الحوائط تتطلب تفسيرًا. أما حوائط بيتنا فكانت جرداء، لا تحمل أي نوع من توثيق لحدث أو ذكرى شخصية أو جماعية، باستثناء لوحتين عالميتين منسوختين، وعدة آيات قرانية. لكن في التسعينيات علق أبي صورة زواجه بأمي، الحدث الأهم في تاريخ عائلتنا، على حائط غرفة نومه، فوق السرير مباشرة، بعد أن قام ببروزتها بإطار أبيض، وعلق بجوارها صورة زواج أخي الأوسط. عند مروري على هذ الصور، أثناء حياته، أو بعد وفاته، يستيقظ هذا التاريخ ويسيل على الحائط.
يرى الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت في كتاب الغرفة المضيئة، أن التاريخ حاضر حولنا ولكنه نائم ولايستيقظ إلا عندما نلتفت له "هيستيري هو التاريخ الذي لايتشكل إلا إذا نظرنا له، فقط بالتفاتنا له".
ربما هو ما نبحث عنه عند تصفح الألبوم العائلي، ترى هذا التاريخ وهو يستيقظ أمامنا ونعاين التحولات الجذرية التي شكّلته وتخللت شجرة العائلة. عندها نربط حياتنا الشخصية وتاريخنا الشخصي، بتاريخ أعم وشامل. ربما "الصورة" إحدى الوثائق الهامة التي تدفعنا مباشرة للنظر وبدون وسائط إلى "التاريخ" واستعادة شخوصه ووقائعه مع خلفية من الإحساس بالفناء والشجن لهؤلاء الذين غابوا أو لا زالوا يسيرون نحو الغياب.
كل شيء يوجد لينتهي في صورة فوتوغرافية
عثرت وسط أوراق أبي، على نوع آخر من التوثيق الرسمي، للعائلة، تلك الصور صغيرة الحجم 4 * 6 ، لي ولأخوي، المحفوظة في أظرف صغيرة عليها أسماء استديوهات التصوير في مراحلنا المختلفة من اﻻبتدائي إلى الجامعة. بعضها يحمل في ركن منه ذلك الختم الأزرق للأبونيه أو المدرسة أو الجامعة أو الباسبور. كان أبي حريصا على أن يحتفظ بهذه الصور المثقوبة والمختومة بجانب مثيلاها المتبقية التي لم تستعمل من "النص دستة".
الألبوم الفعلي الكامل الذي عثرت عليه، وسط أوراقه، كان يخص رحلة سفره إلى لندن وباريس، عام 1979، ليلتقي بأعضاء من عائلته الروحية، من الأصدقاء، الذين هاجروا هناك. كان عمره وقتها كعمري الآن. كان يتحرك وسط حمام ميدان الطرف الأغر في لندن، ويجلس مع الفنانين الهائمين على أرصفة وحواري مونمارتر في باريس، أو أمام أحدى لوحات اللوفر، أو أمام التمثال الشمعي لهيتشكوك في متحف مدام توسو، وهو ينظر لها بتعجب وتقديس.
لم أعثر على صورة تجمعنا سوية كعائلة. معنى "الألبوم العائلي"، بالنسبة لي، مختصر ومشوش في ذاكرتي، بسبب نقص مواد التوثيق له، ولكنه حي وممتليء بالتفاصيل في مكان آخر. ربما لم تسع عائلتي لعمل ألبوم لها، وليس للأسلاف، لأنها صدقت بأن هناك من سيأتي ويكتب عنها ويرثيها، ويرسم لها صورة بالأبيض والأسود عن هذه الحياة. قمت مقام هذا المصور المجهول الذي ملأ من قبل فراغات الحوائط وصفحات الألبومات الفارغة بمادة حسية عن الخلود. لا شك أن صور الكتابة كانت تسبق وتنافس صور الواقع، فالموت والخلود سابقان على اختراع الصور الفوتوغرافية. قال ملارميه "إن كل شيء يوجد كي ينتهي في كتاب. اليوم كل شيء يوجد لينتهي في صورة فوتوغرافية"، كما ذكرت سوزان سونتاج على لسان الشاعر مالارميه في كتابها السابق.
ألبومي العائلي السعيد
ربما كنت أحب أن أكون يقظًا، وأن تكون عائلتي أيضا يقظة، تجاه مرور الزمن، ولأهمية الصور، ولحياتنا معًا، وليست لحياة الأسلاف. أحاول أن أعوض بالكتابة هذا الكسل تجاه مرور الزمن، والذي لا أعرف مصدره داخلي. تشكلت ذاكرتي بفراغات ونسيان جبري، تبعًا لهذا الإهمال، ربما لم نرد أن نرثي أنفسنا كما تذكر سوزان سونتاح؟ ربما.
أقاوم الآن هذا الكسل بالكتابة عن العائلة، بعرض صورة عائلية مجسمة بالأبعاد الثلاثة، تلتقط هذا البعد الهارب في الصور الفوتوغرافية المسطحة. ربما الكتابة، بشكل عام، تحاول أن تنافس الغموض والشجن والرثاء الذي تخلفه الصورة الفوتوغرافية. أحاول أن أنقل لها، هذا الشجن الذي تخلفه الصورة في الألبومات التي مات أصحابها، أن أقبض على هذا الزمن الذي لن يعود. كتابتي هي ألبومي العائلي السعيد.
صور عتيقة
الروائية التشيلية المعاصرة إيزابيل الليندي حولت ألبوم عائلة أورورا بطلة روايتها صور عتيقة، التي ماتت أمها عند ولادتها إلى مادة جوهرية لكتابة الرواية، بتحويل بعض صور الألبوم إلى صور مكتوبة، كوسيلة للبحث في الماضي الذي لم تعشه هذه البطلة، فتتبعت الصور وأخذت تصفها في روايتها التي تجري وقائعها لعائلة تشيلية خليط بين مكان هجرتها في كاليفورنيا، وبين مكانها الأصلي في سانتياجو. هنا تحولت الرواية، كنوع أدبي، إلى ألبوم صور للشخصيات.
"هناك صورة لي وأنا في الثالثة أو الرابعة من عمري، الوحيدة التي تخطت خطوب القدر وقرار باولينا دِل باليه بمحو أصولي. إنها قطعة كرتون متآكلة في إطار رحلات، إطار قديم على شكل علبة من القطيفة والمعدن، التي كانت دارجة جدًا في القرن التاسع عشر وما من أحد يستخدمها الآن. يمكن أن تشاهد في الصورة مخلوقة صغيرة جدًا، مزوقة على طريقة العرائس الصينية، في دثار طويل من الساتان المطرز وتحته بنطلون من لون آخر، تنتعل حذاء رقيقًا مركبًا على لباد أبيض محمي بشريحة من الخشب، شعرها داكن منفوض في كعكة عالية أكثر من اللازم بالنسبة لحجمها مسندة بمشبكين غليظين، ربما من ذهب أو فضة. يربط بينهما إكليل من الزهر. تمسك الصغيرة بيدها مروحة ويمكن أن تكون مبتسمة، لكن تقاسيمها لا تكاد تُميز، فالوجه مجرد قمر ساطع، والعينان بقعتان سوداوان، تلمح خلف الطفلة رأس تنين من ورق ونجوم ألعاب نارية متلألئة. رواية صور عتيقة- دار المدي، ترجمة صالح علماني. صـ101.
حديث الصباح والمساء
في مقابل الليندي، نجد في رواية نجيب محفوظ حديث الصباح والمساء أحد تجليات الألبوم العائلي المكتوب، وتلك الكتلة المتماسكة، الذي تقاوم الموت والفناء. لا تتعامل الرواية مع مفهوم الصورة، كسمات بصرية، مثل إيزابيل الليندي في روايتها، ولكن بوصفها حلقة أو حياة قابلة للنسخ والتكرار، في سلسلة حلقات تتفرع لتكون هذه العائلة الزمنية التي تضم أجيالًا وأجيالًا. كل شخص فيها له بداية ونهاية معروفتين. والزمن، البطل الأساسي للعمل، يمر بقوته على كل الشخصيات فيتولد هذا الشجن الذي يؤطرها ويؤطر حياتها.
ربما عندما يكتب الكاتب عن ألبومه العائلي، يملك حق امتلاك الزمن من أوله، ليعوض هذه الأزمنة المفقود التي سقطت في الرحلة والطريق. في الكتابة نحن متناثرون بلا جاذبية داخل فضاء الزمن، أما في الصورة فنقف بجوار بعضنا البعض نصنع هذا الزمن.
تكتب أورورا بطلة صور عتيقة في خاتمة الرواية (صـ 305) "لولا جدتي إليثا، التي جاءت من بعيد لتنير الزوايا المظلمة من ماضي، ولولا الآلاف من الصور التي تتراكم في بيتي، كيف كنت سأستطيع أن أروي هذه القصة، كان علي إذا أن أشكلها من المخيلة، دون أية مادة أخرى غير الخيوط الفرورة لكثير من الحيوات الغريبة، وبعض الذكريات الكاذبة. الذاكرة خيال. تختار أكثر ما فيها بريقًا وأكثر مافيها ظلمة. متجاهلين مايخجلنا، وهكذا نحيك سجادة حياتنا العريضة. ومن خلال الصورة والكلمة المكتوبة أحاول أن أنتصر لشرط حياتي الزائلة، أن أمسك باللحظات قبل أن تتلاشى، وأقشع غموض ماضيَّ. اللحظة تختفي في نفخة، وتتحول حالًا إلى ماض، فالواقع فرور، ومحض حنين. بهذه الصور، وهذه الصفحات أبقي على الذكريات حية، إنها مقبض الحقيقة الهاربة، لكنها في جميع الأحوال حقيقة، هي تبرهن على أن هذه الأحداث قد وقعت وهؤلاء الأشخاص مروا في قدري، بفضلها أستطيع أن أبعث أمي، التي ماتت حين ولدت".
صورة سائلة
لم نحتفظ، أنا وسلوى بصورة لزواجنا في الأستديو. لكنها حاضرة بشكل آخر، ولها حياة وحيز على حوائط البيت والذاكرة، تتمدد بقانون آخر غير قانون الأرشيف. ربما كنا نقاوم تأطير الزمن، لنتركه متمددا كمادة خام في المخيلة. تركنا الزمن يضع الإطار المناسب، لصورتنا السائلة بداخله، بعكس مافعل والدي. ربما مفهوم "صورة الزواج"، بالنسبة لنا، يمتد عبر هذه السنين التي عشناها، كونه ليس لحظة مؤبدة، ولا تحتويها إلا صورة سائلة كالزمن، "تشهد الصور على الذوبان الذي لا يلين للزمن" كما تذكر سوزان سونتاج.
حياتنا وأسفارنا كانت هي الإطار، الذي يتسع ليشمل الأماكن والأفكار، بجانب المئات من الصور والعديد من الألبومات الجديدة، التي احتفظنا داخلها بالتاريخ الشخصي لنا. وكما استعانت بطلة إيزابيل الليندي، بألبوم الصور العائلي لتكتب روايتها، لذا فرواية حياتنا جاهزة لمن سيقوم بكتابتها.