الآن، وقد هدأت، قليلًَا، الزوابع التي أحاطت بمهرجان الجونة السينمائي الأخير، يجدر بنا أن نجلس لنتأمل ما حدث، وماضي ومصير هذا المهرجان الكبير المثير.
كثيرة هي المهرجانات الفنية، وغير الفنية، التي تقام في مصر، ولكن لا واحد منها يلقى ما يلقاه مهرجان الجونة السينمائي من اهتمام بالمتابعة وانقسام بين المادحين والمنتقدين بشكل يبدو غير منطقي، ومبالغ فيه.
من ناحية، يجذب المهرجان عشاق التواجد في دوائر المشاهير والمال من كل الأنواع: النجوم، وصناع الأفلام، والعاملين في مجالات الدعاية والفاشون ومَن يطلق عليهم "الإنفلونسرز"، وحتى بعض الوزارات مثل الصحة التي تجاهلت طلبات كل المهرجانات الأخرى هذا العام.
"ربنا يحرقهم"
في المقابل؛ يثير المهرجان عداء الكثير من الفئات الأخرى والمستبعَدين من الحضور من الفئات السابقة. هناك حالة تربص لا مثيل لها بالنسبة للمهرجانات والفعاليات الثقافية والاحتفالية في مصر. كان مهرجان القاهرة يثير حالة مماثلة، ولكن بشكل أقل كثيرًا، لسنوات، ولكن بعد ظهور "الجونة" تحول الاهتمام جنوبًا.
إذا اختفى مهرجان الجونة أتصور أن الجدل سيعود ليحيط بمهرجان القاهرة. هذا الجدل ليس مرتبطًا بالجونة في حد ذاته، بقدر ما هو تعبير عن مشاعر وأفكار تتحين فرصة للخروج. أي متابع لصفحات السوشيال ميديا يمكنه ملاحظة الانفجارات التي تخرج كل فترة بسبب مايوه ابنة فنان أو فستان طالبة جامعية أو ثمن شاليه في الساحل. هناك نوع فريد من الحقد الطبقي، Klassenhasse، مستخدمين تعبير كارل ماركس، لكن بشكل محوّر عن مصدره السياسي والاقتصادي، ليعبّر الحقد عن نفسه بأشكال دينية وجنسية.
حتى قبل أن يبدأ مهرجان الجونة؛ "اشتعلت مواقع التواصل" فرحًا وشماتة بالحريق الذي شب في جزء من قاعة احتفال المهرجان. البعض لم يتورع أن يعلن صراحة عن أمنيته لو أن الحريق تأخر يومًا، ليحرق الحاضرين. والكثيرون رأوا في الحريق عقابًا، وعلامة، من الله، كما يفعلون عادة عندما تحل كارثة أو مصيبة بفنانة أو ملياردير أو خصم سياسي أو بلد غير مسلم.
لماذا يثير الجونة الجنون؟
من خبرتي الشخصية في حضور كثير من المهرجانات المصرية والأجنبية على مدار عقود ثلاثة، ليس هناك فوارق كبيرة بين الجونة وعشرات المهرجانات الأخرى عربيًا ودوليًا.
إذا استبعدنا مهرجاني القاهرة والاسماعيلية اللذين تقيمهما وزارة الثقافة بشكل مباشر، يمكن إدراج الجونة شكليا ضمن مهرجانات المحافظات، مثل الإسكندرية والأقصر وأسوان وشرم الشيخ، وربما العلمين قريبًا، وهي مهرجانات تنظمها جمعيات أهلية بدعم من وزارات الثقافة والسياحة والمحافظات التي تقام فيها، ولكن الفارق أن الجونة ينظمه رجال أعمال لا جمعية أهلية، ورغم أن بعض الوزارات ومحافظة البحر الأحمر ترعى المهرجان معنويًا، إلا أن آل ساويرس لا يحتاجون إلى دعمهم المادي، إن لم يكن العكس.
منذ الدورة الأولى للجونة كان واضحًا أنه مُصاغ على نمط المهرجانات السياحية مثل دبي وأبو ظبي ومراكش، تلك التي تجمع بين الفن والبيزنس، وهدفها الأساسي هو جذب أنظار المستثمرين والسائحين والشركات الكبيرة في صناعة السينما إلى البلد أو المدينة التي يقام فيها المهرجان. ليس ذلك عيبًا، أو ميزة، في حد ذاته. كل مهرجان له أولوياته، والمهم ألا تغلب النظرة الاستثمارية على بقية أهداف المهرجانات.
ومنذ دورته الأولى حاول الجونة موازنة الكفة ببرامج أفلام ومحاضرات وندوات ومنصة دعم للشباب، ومثلما يهتم الجناج الإداري للمهرجان بالنجوم والفساتين والسوشيال ميديا، فإن الجناح الفني يهتم بالأفلام والبرامج التثقيفية ويدعو النقاد والصحافة الجادة لتغطيتها، بالرغم من الصراعات التي تنشب أحيانا بين الجناحين "التسويقي" و"الفني".
ربما ما يتسبب في حدة الانتقادات التي توجه للجونة هو تركيز السوشيال ميديا وصحافة الإنترنت "الصفراء"، الباحثة عن تحقيق أكبر عدد من المشاهدات، على الجوانب الاستعراضية والنميمة، وتجاهل الجوانب الثقافية والفنية. وربما يكون الجناح الاداري "التسويقي" بالمهرجان يشجع على ذلك بحثًا عن أكبر مساحة من الدعاية. والدليل على أن إدارة المهرجان أدركت أنها أخطأت بالتركيز على النجمات وفساتينهن، أن تغطية حفل ختام الدورة الأخيرة خلت للمرة الأولى في عمر المهرجان من استعراضات السجادة الحمراء، وركزت قناة "أون" التي تبث الحفل على الأفلام والجانب الفني فقط، كما لو أنها تحاول أن تقول إن المهرجان ليس فساتين فقط.
خصوصية الجونة ولعنته
لا يختلف الجونة عن مهرجانات كثيرة عربية ودولية، ولكن حين نستبعد التشابهات ، فسنرى بوضوح أنه المهرجان الوحيد الذي يموله وينظمه من الألف إلى الياء رجال أعمال، لا يحتاجون من الدولة سوى الدعم المعنوي، ولا يحتاجون إلى عائد مادي مباشر على شكل إيرادات تذاكر أو رعاة، رغم من وجود تذاكر ورعاة بالفعل لكنها لا تشكل نسبة تذكر من تكلفة المهرجان.
هذه الخصوصية التي يتسم بها الجونة هي أحد أسباب الجدل الذي يثار حوله، وحول عائلة ساويرس التي تقيمه، وحين نضع في الاعتبار المناخ العام المحيط، الملوث بالتعصب الديني والجنسي والطبقي، يمكن أن نفهم أكثر طبيعة الجدل الذي يتجاوز حجم الفعالية بكثير.
التركيز المفرط مع فساتين الجونة يمكن فهمه في إطار السياق العام الذي نعيش فيه، إذ تركت الحركات الاسلامية آثارًا ثقيلة الوطأة من التعصب الفكري والعصاب النفسي تجاه كل ما يتعلق بالنساء وجسد المرأة، وصارت مصر تنافس أفغانستان على تغطية أكبر قدر ممكن من أجساد الإناث. أضف إلى ذلك النزعة الطائفية التي لعبت هذه الحركات على تقويتها وتأجيجها منذ السبعينيات. ورغم أن المشروع السياسي الإسلامي سقط رسميا إلا أن أتباعه كثيرون، وهم أكثر انتشارًا ومرارة وعنفًا لفظيًا على مواقع التواصل الاجتماعي. معظم هؤلاء يتجنب الخوض في الحديث عن السياسة خوفًا من الملاحقة الأمنية، ولكن الجونة يوفر لهم فرصة على طبق من ذهب، ليضربوا على الوترين الحساسين الآخرين: الجنس والطائفية.
تتجاوز الآثار التي خلفتها حركات الاسلام السياسي المتشددين المؤمنين بأفكارها إلى الناس العاديين من غير المنتمين إليها، واخترقت كل الطبقات والفئات، وامتدت إلى كثير من "العلمانيين" و"المثقفين اليساريين"، حيث نجد الخلط الدائم بين الهوية والرجعية، وبين معاداة الرأسمالية ومعاداة النساء والحريات الشخصية. ويشكل الفنانون، والممثلات بشكل خاص، هدفا دائما لهجاء هذه الفئة.
ريش والفساتين
بشكل شخصيَ، أعترف بأن المهرجانات السينمائية ذات الطابع الاحتفالي تثير داخلي مشاعر عدم الارتياح، دفعتني بمرور السنوات إلى مقاطعة فعاليات الافتتاح والختام والحفلات الليلية لهذه المهرجانات، وإلى الهروب من قاعات العرض بمجرد الانتهاء من مشاهدة الأفلام.
هناك تناقض بنيوي في هذا النوع من المهرجانات بين المظاهر الاحتفالية السياحية: من ناحية هناك النجمات على السجادة الحمراء بفساتين ومجوهرات بالملايين، السيارات الحديثة الفارهة، حفلات العشاء والرقص ليلًا، الباحثون عن المتعة والشهرة والمال. وعلى الجانب الآخر هناك الطبيعة الثقافية الإنسانية للأفلام وصناعها: أفلام تكشف مظاهر البؤس في العالم من فقر ومجاعات وحروب وأمراض وتلوث للبيئة وعلاقات إنسانية مهترئة ومعاناة من الوحدة والاغتراب وعدم القدرة على التكيف على الجانب الآخر، فنانون حقيقيون مشغولون بالعالم وبالفن بعضهم عانى طويلًا قبل أن يصل إلى هذا المهرجان.
هناك تناقض بنيوي يسري في عظام المهرجانات الاحتفالية يمكن ملاحظته في مشاهد بسيطة: شخص يرتدي الاسموكنج ويدخن السيجار يتأرجح في يده كأس الشمبانيا وهو يتحدث بانفعال عن فيلم وثائقي يدور حول بلد يموت سكانه جوعًا. مخرجة متأنقة تنافس النجمات بملابسها وماكياجها تروي للحاضرين كيف قضت سنوات في قرية دمرتها الحرب لتصنع فيلمًا عن نسائها اللواتي تعرضن للاغتصاب والقتل الجماعي.
عقب فوز مخرج فيلم كباتن الزعتري الوثائقي الذي يصور الحياة في مخيم للاجئين السوريين بجائزة كبيرة في المهرجان، علقت ناقدة صديقة "المفروض تذهب هذه الأموال لأطفال المخيم الذي شاركوا في صنع الفيلم". تعليق يدفعك للتساؤل: هل يتاجر صناع الأفلام بهموم الفقراء والمعذبين أم يتبنون قضاياهم؟
تجسد أزمة فيلم "ريش" هذه المشكلة.
أصاب الفيلم كثيرًا من مشاهدي العرض الأول بصدمة هائلة. بعد ساعتين من التبختر على السجادة الحمراء، وتناول أطباق منتقاة من الطعام والشراب وتبادل الأحاديث المرحة المتفائلة، تُظلِم قاعة العرض ويبدأ الفيلم ليصور لهم واقعًا بالغ البؤس لا يرغبون في معرفة شيء عنه، أو على الأقل ليس مناسبًا في هذا المكان الاحتفالي.
كوكبان متباعدان يتصادمان: فزع وشعور بالذنب ونفور وإنكار. يزيد الطين بلة أن الشخصيات التي تظهر في الفيلم ليسوا من الممثلين المحترفين من زملاء الجالسين والجالسات في الصفوف الأولى. هذا أداء ليس فقط غير مزيف، ولكنه يكشف زيف القاعة والجالسين فيها. صدام بين كوكبين متناقضين.
بعد أيام، حاولت إدارة المهرجان، ووسائل الاعلام التي تركز على المظاهر الاحتفالية، أن تحل التناقض الذي أثاره ريش بمحاولة دمج بطلة الفيلم القادمة من أعماق الريف الفقير مع ثقافة السجادة الحمراء: فصّلت إدارة المهرجان لها فستانًا أنيقًا يجمع بين "الأصالة والمعاصرة"، على طريقة بيوت حسن فتحي، صففوا شعرها وزينوا وجهها ببعض المساحيق، والتقطوا لها بعض الصور، وأجروا بعض الحوارات التليفزيونية معها باعتبارها ممثلة.
لكن التناقض عاد ليطل بوجهه في حوارها مع بوسي شلبي، التي ارتبط اسمها بتغطية الاحتفاليات وأخبار النجوم، إذ لم تستطع المذيعة أن تتجاهل الفارق الطبقي الشاسع بين حياة الممثلات وحياة بطلة ريش. ورغم اعتقادي أن بوسي لم تكن تقصد التنمر أو التعالي على السيدة، لكن الموقف نفسه كان غريبًا، ورواد السوشيال ميديا انتهزوا الفرصة ليعزفوا على لحن طبقية المهرجان.
https://www.youtube.com/embed/YBDjYjUWc9sبوسي شلبي مع بطلة فيلم ريش
لكن هذا التناقض ليس حصرًا على الجونة، إذ يمكن أن تراه في مهرجانات عربية ودولية كثيرة. ذات عام في مهرجان مراكش 2003 عُرض فيلم فرنسي مغربي من إخراج جاك دويون بعنوان رجاء من بطولة فتاة عادية فقيرة جدًا اسمها نجاة، حققت مفاجأة مدوية بفوزها بجائزة أفضل ممثلة. كانت حديث المهرجان مثل دميانة بطلة ريش، وبعد فوزها بالجائزة راودتها أحلام كثيرة لتغيير واقعها البائس، ولكن بعد مرور سنوات ظهرت نجاة مرة ثانية في فيلم وثائقي من إخراج عبد الإله الجوهري، 2016، يصور حياة البؤس والفقر المدقع التي عادت إليها بعد الظهور اللامع العابر في مهرجان مراكش.
في مهرجان برلين 2013 شارك الفيلم البوسني فصل من حياة جامع خردة للمخرج دانيس تانوفيتش في المسابقة الرسمية، وهو فيلم شبه وثائقي قام فيه المخرج بإعادة تجسيد حادث نشرته الصحف حول قيام سيدة فقيرة باستخدام بطاقة التأمين الصحي لشقيقتها، فتم القبض عليها ومحاكمتها. الفيلم يعرض حياة فئة مهمشة لا تتوفر لديها أدنى مقومات الحياة، والمخرج أتى بشخصيات القصة الحقيقيين ليلعبوا أدوارهم أمام الكاميرا.
فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، الدب الفضي، لكن المفاجأة كانت فوز بطله نظيف موجيتش، جامع الخردة البسيط، بجائزة أفضل ممثل، وصعد الرجل إلى المسرح أمام كبار نجوم وسينمائيين العالم مذهولا. هل هذه جائزة فنية، أم تعبير عن التقدير والاحترام لهذه الأسرة البائسة التي أعادت تمثيل حياتها على الشاشة؟ (بالمناسبة لم يقل أحد يومها أن الفيلم يشوه سمعة البلد الذي جاء منه). وبطل الفيلم، نظيف موجيتش، وبعد عام واحد من فوزه، طلب حق اللجوء في ألمانيا.
تريلر فيلم فصل من حياة جامع خردة
هذه النوعية من الأفلام الواقعية التي ترصد بؤس العالم عادة ما تبرز التناقض في طبيعة المهرجانات ذات الطابع الاحتفالي، وعادة ما تثير لدى الحاضرين التعاطف بشكل مبالغ فيه تحت تأثير الشعور بالذنب، أو ، مع الجمهور أقل تحضرا وأكثر ميلا لانكار الواقع، تثير النفور كما حدث مع فيلم ريش.
الغريب أن رد الفعل العنيف على ريش جاء من فنانين، وهو ما لا يمكن أن يحدث في مهرجان آخر في العالم، حيث يفترض أنهم أول فئة تدافع عن حرية الفن، خاصة في بلد يتهم فيه الفنانون دائما بأنهم يفسدون القيم والأخلاق ويشوهون الواقع. هذا الموقف لا يعكس فقط جهلهم ولكن أيضا ذلك الإحساس بالتفوق الذي ينتاب عادة "محدثي الثراء"، وهو للأسف موقف يتفق مع طبيعة مهرجان أعطي لهؤلاء النجوم هالة ومكانة مبالغ فيها. ولعل التصريحات التي أدلى بها النجم المكرم في المهرجان، أحمد السقا، خلال حفل الافتتاح، دليل على حالة "الانتفاخ" التي يعاني منها بعضهم.
الكثيرون ارتاعوا من تصريحات السقا حول السينما المصرية منذ 1967 وحتى 1997، بأنها "كانت مخنوقة"، وهو تعبير يمكن فهمه بتصريح آخر ذكره ردا على سؤال حول فيلمه القادم، فوصف الفيلم بأنه "كومريشيال مفيهوش إيديولوجيات"، يعني سينما "غير مخنوقة" بالقضايا الإجتماعية والحديث عن الفقراء، سينما تعكس عالما خياليا من الأكشن والرومانسية والكوميديا العبثية التي تنتجها السينما المصرية "الكومرشيال" هذه الأيام.
"الجونة"..إلى أين؟
عمر المهرجانات ذات الطابع السياحي قصير. توقف مهرجانا دبي وأبو ظبي بعد أن استنفدا أغراضهما، ثم توقف مراكش قبل أن يعود في شكل جديد متخلصًا من البهرجة والبذخ. ربما يتوقف الجونة أيضًا بعد أن يستنفد أغراضه، أو ربما يغير أولوياته، فتدب فيه حياة جديدة.
الحفاظ على استمرار المهرجان يحتاج أيضا إلى دعم من الدولة والمهتمين بالسينما والاعلام. خسارة أن نفقد مهرجانًا كبيرًا مشرفًا مثل الجونة، ومن الخطأ الضغط على أصحاب المهرجان بهذه الزوابع المفتعلة أو تركههم بمفردهم لمواجهتها. وفي الوقت نفسه يحتاج المهرجان إلى مراجعة والبحث عن أسباب وجود إضافية تمده بالهدف والطاقة.