"وسقفة سقفة… حلمنا اتحوّل أفلام". هذا مقطع من أغنية الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي المصري التي تعبّر عن شعور القائمين عليه بأنه استطاع بالفعل تغيير الوضع السينمائي في مصر خصوصًا والعالم العربي معه في مجال صناعة الأفلام. لكنني أتساءل حول مصداقية ذلك على أرض الواقع، فهيا بنا نلعب.
مرة أخرى قطعت أكثر من 500 كيلومتر من القاهرة حتى أصل إلى "دويلة الجونة" التي يملكها آل ساويرس، والتي تستضيف مهرجان الجونة السينمائي المصري في التوقيت ذاته من العام الذي كان يقام فيه المهرجان المرحوم أبو ظبي السينمائي. قدم المهرجان نفسه منذ عامه الأول بمدير المهرجان العراقي انتشال التميمي وهو من كان مدير برنامج الأفلام العربية في مهرجان أبو ظبي، ويرأس صندوق سند الذي يدعم إنتاج الأفلام العربية، والذي تحوّل مع الجونة إلى "منصة الجونة".
تزداد شهرة وصيت المهرجان عامًا بعد آخر سواء في الدول العربية أو على مستوى الوسط السينمائي العالمي، لتركيزه كل عام على دعوة سينمائيين مُحتفى بهم عالميًا، كما تزداد منافسته للمهرجانات التي تقدمها مؤسسات الدولة في الوقت الذي يقل فيه المعروض من السينما المصرية في كليهما، ولا إجابات عن ذلك.
عرض المهرجان حوالي 80 فيلمًا من أربعين دولة حول العالم شارك أغلبها وفاز في مهرجانات دولية سبقت الجونة.
لاقت الأفلام العربية والأفريقية والآسيوية المستقلة حضورًا لافتًا واحتفاءً نقديًا كبيرًا من الحضور. منها كان فيلم بابيشا من الجزائر إخراج مونيا ميدور الذي يحكي حكاية فتيات جزائريات في السبيعينيات وفاز بجائزة أفضل فيلم عربي، وآدم من المغرب للمخرجة مريم توزاني الذي يحكي مآساة فتاة حامل تعيش بمفردها وتبحث عن مكان تسكن فيه حتى تلد طفلها بعيدًا عن أهلها وهو أول فيلم من إخراج إمرأة يتم اختياره لتمثيل المغرب في الأوسكار.
وفي مسابقة الأفلام الروائية الطويلة جاء من تونس فيلم حلم نورا الذي فازت عنه هند صبري بجائزة أفضل ممثلة، يحكي قصة أم من طبقة كادحة تخطط للزواج من حبيبها بينما زوجها في السجن. ومن لبنان 1982 لوليد مؤنس الذي يحكي أزمة الحرب من خلال قصة تلميذ مدرسة في شمال بيروت يخطط للبوح بحبه لزميلته لكنه لا يستطع أن يراها مرة أخرى بسبب تعليق الدراسة إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان. الفيلم فاز في مهرجان تورتنو قبل أشهر وهو بمثابة سيرة ذاتية لمخرجه وأول أفلامه.
أيضًا عرض فيلم الحديث عن الأشجار للمخرج السوداني صهيب الباري الذي فاز عنه بجائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي يتتبع الفيلم مغامرة أربعة من قدامى السينمائيين السودانيين لإعادة تأهيل وتشغيل دار عرض سينمائي في بلد اختفت فيه كل مقومات صناعة السينما منذ ثلاثة عقود.
الثورة تصنع فيلمًا مختلفًا
إلى جانبهم كان الفيلم الذي فاز قبل أسابيع قليلة من الجونة السينمائي بجائزة "أسد المستقبل" من مهرجان فينيسيا السينمائي والتي تمنح لأصحاب العمل الأول وهو ستموت في العشرين الذي فاز بنجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم روائي أيصًا للمخرج السوداني أمجد أبو العلا المقتبس عن قصة النوم عند قدمي الجبل للكاتب السوداني حمور زيادة.
بشكل أو بآخر يعبّر فيلم ستموت في العشرين عن شخصية مهرجان الجونة، مخرج يقدّم فيلمه الروائي الأول وطريقة سردية مختلفة عن السائد أو المألوف بين المشاهد العربي، وإرهاص صادق لعملية تغيير ثوري خاضها السودان كله من أجل مدنية وحرية لم يعهدها في الواقعي والفني. بالتالي يبقى الفيلم تعبيرًا خالصًا عن التجديد والخروج عن المألوف.
أمجد أبو العلاء حاول سرد المعضلة من سياق تجربته الشخصية. يحكي أمجد لـ المنصة أن الذي حرّكه للقصة هو علاقة السودانيين بالحزن عمومًا وكيف أنهم يستمتعون به في استعراض غير واعٍ. لكن اللافت في حديثه عن الفيلم هو حكاياته عن تأثير الثورة على تقبل الناس لهذه الأفكار غير المألوفة التي قدمها فيلمه.
يوضح أن "الشعب كله اتفق على أن الدولة مدنية، لا عسكرية، عاوزينها مدنية، فإذا الشعب كله طالع يهتف كدا بالتالي الاختفاء بالفيلم جاء من حب الناس بالتغيير، الناس مبسوطة إن فيه فيلم راح الجونة وفينسيا وإن الفن إبتدى يعود. كان فيه هتاف في الميدان واحنا بنعرض أفلام قصيرة، حرية سلام وعدالة السينما خيار الشعب، ودا اللي بنعمله بفضل الثورة".
أثناء تصوير الفيلم كانت بوادر الثورة في السودان والتي رحل على إثرها العسكر هناك، ألغى أبو العلا التصوير وسافر للسودان "عندنا فيديو أنا ومزمل وإحنا ف الميدان وتحت ضرب النار وهي بيقولي هنمشي ع الريد كاربت قولتله لا يا أخويا هنموت هنا.. بالتالي كل العنف اللي حصل وقت مونتاج الفيلم غيّر فيه حاجات؛ الموسيقى المستخدمة في الفيلم أصبحت حادة أكتر. أصبح هناك نسخة ثورية من الفيلم أكثر غضبًا. وهو ما ساعد في تقديم الفيلم بهذا الشكل ربما كنت أحتاج هذا الغضب مثلًا رفضت استخدام البيانو واستبدله بتشيللو وكونترباص، بحيث تكون النغمات أكثر حدة".
هكذا يمكن أن يؤثر نجاح ثورة في صناعة مشهد سينمائي بديل.
نقد السلطة الأبوية
عدد غير قليل من الأفلام اختارها منظمو المهرجان تتعلق بالحديث عن السلطة الأسرية والعلاقة بين الأب/ الأم والأبناء. بالطبع كانت تلك الأفلام مادة خام لحديث النقاد ومحاولة ربط بعضهم بالآخر أو بالعقلية الأسرية لمجتماعتنا، لكن تلك الرمزية ظلت في رأسي عن علاقتنا هنا بالسلطة السياسية التي أرى محوريتها في كل شيء.
بالمناسبة، وعذرًا إذا عكّر ذلك صفو مزاجك عزيزي القارئ، ففي الأسبوع ذاته الذي أقيم فيه مهرجان الجونة شهدت القاهرة تظاهرات وحملة اعتقالات واسعة. لم يشارك الحدث أي من حضور الجونة بما فيهم كاتب هذه السطور لدواعي أكل العيش. السينما عن يميننا والبحر من أمامنا ونحن داخل ورش عمل لا تنتهي تتعلق بالإبداع والتفكير خارج الصندوق والحرية غير المشروطة.
أشياء نخزنها في عقولنا ولا نعلم ماهية تنفيذها لكن "مش هتخسّر".
كما ترى وعلى الأغلب لم تكن لتستمر أغلب تلك المشروعات الذاتية بأفكارها غير المألوفة في المجتمعات العربية تلك لولا دعم وجدوه من بعض جهات الإنتاج التي وفرتها الجونة ذاتها أو وفرت مكان عرضها في مصر بجانب التسهيلات التي حصل عليها الصنّاع في بلادهم الأم في الوقت ذاته الذي تزداد التضييقات على صناعة السينما في مصر؛ البلد الذي يساعد الآخرين على صناعة مشهد سينمائي مستقل كشمعة تحترق من أجل الآخرين.
أين الشباب؟
منذ تخطيت حواجز القاهرة إلى الجونة كان في داخلي بعض الاستنكار كنت أكثّفه في تساؤل؛ لماذا لا توجّه دعوات إلى المواقع والصحف المستقلة؟ صديقي الذي يعمل في موقع مستقل غير مصري رفضت عضويته للدخول كناقد رغم عمله لسنوات عديدة في صحف عدة دون إبداء أسباب ككثيرين غيره.
نحن في مهرجان خاص يستهدف شباب الكتاب وشباب المخرجين بالأساس لتبني أفكارهم بينما لا يعطي أي قيمة ملموسة للصحف والمواقع الخاصة التي يكتب أغلب محتواها شباب الصحفيين رغم أنه كما يبدو "كلها شباب يعني".
لم أحصل على إجابة. كل ما قاله مدير المهرجان انتشال التميمي لـ المنصة إنه 240 دعوة وجهت لـ 240 صحفيًا وصحفية "نتمنى زيادتها في الأعوام القادمة".
ذهبت فورًا إلى ثلاجة المياة الغازية والفشار التي يقدمهما المهرجان مجانًا لأي فنان يمر بجانبها، أكلت وشربت لأنسى.
مش كل حب حقيقي يبقى مسموح
عندما سئل المهندس نجيب سايرس مؤسس المهرجان عن سبب قلة أو شبه انعدام الأفلام المصرية في المهرجان هذا العام بالرغم من أن عرض الأفلام والسينما المصرية كان أحد أهداف عمل المهرجان أساسًا، كانت إجابته واضحة بشكلٍ غريب "اللي عايز يعمل أفلام مهرجانات دا عايز ميزانية مفتوحة، كمان عايز حرية وهنا مفيش حرية، هنا محاذير؛ محاذير دينية ومحاذير سياسية ومحاذير تقاليد وعادات، على ما تخلص المحاذير مش هتلاقي حاجة تعرضها".
في دورة هذا العام عُرض فيلمان مصريان فقط أحدهما كان فيلم التحريك الفارس والأميرة وهو، إلى جانب أنه في مرحلة الإنتاج منذ عشرين سنة، فهو إنتاج مصري سعودي وليس مصريًا خالصًا. يكتسب الفيلم أهميته من كونه أول فيلم تحريك منفذ بالكامل من طاقم عربي.
الفيلم الآخر كان لما بنتولد الذي كتبته السيناريست الراحلة نادين شمس عام 2007، وتوفيت بعد ذلك أثناء علاجها إثر خطأ طبي، وأخرجه تامر عزت.
لما بنتولد بدوره ليس جديدًا تمامًا. فما عرض هذه السنة هي النسخة التجارية عن الفيلم التسجيلي الذي قدمه المخرج نفسه وبسيناريو نادين شمس أيضًا عام 2008 تحت عنوان مكان اسمه الوطن. يحكي الفيلم ثلاث قصص منفصلة متصلة عن فتاة مسيحية تحب مسلمًا، وشاب تضطره الظروف للعمل كمومس للحصول على مال ينفقه على أسرته محدودة الدخل، وشاب يساعد والده في العمل الخاص به لكنه يحلم بالسفر وتحقيق حُلمه بالغناء. كلها أفكار عن تحدي الشباب لمجتمعهم وظروفهم الشخصية.
عندما أقرأ للمرة الثانية عن فكرة ما أو جملة من رواية علقت بذهني عند قراءتها أول مرة أنزعج بدون معرفة السبب أو تأنيب الضمير، لكن في الغالب ينتابني إحساس كما لو أنه من الأولى أن أكتبها/ أقولها أنا بدلًا من ذلك الآخر أو كما لو أني تجاوزت مفهومها فأصبح بديهيًا لا لزوم لصياغته. لذلك ومع العرض الأول لفيلم "لما بنتولد" أعيد لذهني مشكلة الأفكار التأسيسية: هل نبصق الأفكار بعد تجاوزها؟
لم ينشغل صنّاع العمل بالأسئلة الوجودية تلك. يحكي المخرج تامر عزت لـ المنصة أن الفيلم التسجيلي لاقى رد فعل كبير آنذاك مما جعله يفكر مع نادين شمس أنه لو قدمت الحواديت ذاتها دارميًا وعرضت بشكل تجاري سوف تصل لقطاع أكبر من الجمهور وهو ما حدث لكن بعد أكثر من عشر سنوات.
بادرته بسؤال أكثر تقليدية من سابقه؛ ما سبب التأخر كل تلك السنوات؟ قال "لم يتوفر التمويل إلّا الآن". وربما لهذه الأسباب المباشرة وغير المباشرة يصلح لما بنتولد ليمثّل الجونة السينمائي؛ فيلم مستقل غير تقليدي يتأخر إنتاجه كل تلك السنوات ليجد نفسه في عرضه الأول مع جمهور يسعى بكل الطرق للفرجة على الأفلام ومحاولة صناعتها والتحايل على أزمة التمويل فيها.
مهرجان الجونة السينمائي مساحة عظيمة للفرجة على نوعية أفلام تصعب مشاهدتها في مصر، كما أنه مساحة تلاقٍ بين الصنّاع العرب والأجانب للتغلب على أزمات تمويل أفكار التي هي في الغالب غير مستساغة في مجتمعاتنا المحافظة، كما يوفر لها المهرجان "الجمهور المناسب".