كان الطريق خاليًا، بين يديّ طفلة لا أعلم من هي، لكنهم يلاحقوني، يريدون انتزاعها من بين أحضاني ليلحقوا بها أذى. وقفت ونظرت إلى وجهها، فإذا هي ملاك، تنظر إلىّ ببراءة وتريد النوم، تسارعت ضربات قلبي، وعلى حين غرة، انتزعها أحدهم مني وهرب. وقفت مذهولة من الصدمة، تساؤلات كثيرة أثارت ذهني؛ من هذه الطفلة؟ ومن هؤلاء؟ أين أنا؟ لحظة، إنه حلم.
بعد ذلك، فكرت في أنّ عليّ انقاذها فحسب، وبما أنه حلم، وأنا أعي هذا جيدًا. إذًا أستطيع التحكم فيه. نفس المشهد يتكَّرر، الطريق خاليًا وأنا أجري بالطفلة، لكنني لم أتوقف، واستطعت إنقاذها فعلًا. ذُهلت من القدرة الخارقة التي مكنتني من التحكم في الزمن بل في الحلم كله. تكررت هذه الحالة معي وما زالت تحدث بين الحين والآخر. لا أقصد الحلم نفسه، لكن قدرتي على التحكم في أحلامي. لم أكن أعلم أنّ هناك ما يسمى بـ "الحلم الواضح" Lucid Dream.
لكن ما الحلم الواضح؟
هو الحلم الذي يدرك فيه صاحبه أنه يحلم والأحداث التي تحدث حوله غير واقعية، بل يستطيع التحكم فيه وتغيير مجريات أحداثه، تمامًا كما فعلت في حلمي عندما عُدت بالزمن للوراء قليلًا واتخذت قرار إنقاذ الطفلة بعدم التوقف. وهذا ما يميِّز الحلم الواضح أو الجلي، الذي يطلق عليه أحيانًا الحلم الصافي، حيث يكون الشخص في حالة بين عالمي الواقع والأحلام. ووضع مصطلح الحلم الواضح لأول مرة الطبيب النفسي الهولندي فردريك فان إيدين.
يتمتع الحلم الواضح بعدة مميزات:
- الوعي بأنّ هذا ما هو إلا حلم.
- اتخاذ القرارات بحرية تامة والوعي بذلك.
- الادراك بجميع الحواس.
- تذكر جميع تجارب الأحلام الواضحة.
متى يحدث بالضبط؟
بحسب موقع ويب طب يمر الإنسان بمرحلتين مهمتين أثناء النوم وهما: نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة . وتبدأ الأخيرة بعد 90 دقيقة من النوم، حيث تتحرك العينان في اتجاهات مختلفة بسرعة، ومن هنا جاءت تسميتها "نوم حركة العين السريعة". تتميز هذه بازدياد نشاط الدماغ، حتى إنّ أكثر الأحلام تحدث خلالها، ما يدعم فكرة حدوث الحلم الواضح أثناء هذه المرحلة تحديدًا، حيث يكون الدماغ في ذروة نشاطه.
أشارت مراجعة أجريت بقيادة جوليان موتز ونُشرت في مجلة Neuroscience of Consciousness عام 2017 إلى حدوث الأحلام الواضحة أثناء مرحلة حركة العين السريعة، بينما أشارت الدراسات الحديثة إلى أنه قد يحدث أيضًا خلال مرحلة حركة العين غير السريعة، لكن الأكيد أنّ الأحلام الواضحة تختلف عن الأحلام العادية التي قد تحدث أثناء مرحلتي النوم.
النقطة الفارقة
تشير المراجعة نفسها إلى أنّ الحلم الواضح يحدث بدرجات متفاوتة بدءًا من الشعور بالحد الأدنى من الوعي وصولًا إلى مرحلة التحكم بقوة في سرد الحلم كما يحلو للشخص النائم، بمجرد إدراك أنه في حلم ويستطيع التحكم فيه، ويحدث هذا الإدراك غالبًا عندما يعي النائم أنّ هناك شيئًا ما غير دقيق يحدث من حوله. تمامًا كما حدث معي عندما تساءلت "من هذه الطفلة؟ ومن هؤلاء؟ أين أنا؟" وعرفت أنني في حلم ثم بدأت في سرد الأحداث من جديد فورًا، تمثل تساؤلاتي هذه النقطة الفارقة.
وفي دراسة أجراها مارتن دريسلر وآخرون ونُشرت في Frontier in Psychology عام 2014. وجد الباحثون أنّ القدرة على تقرير المصير كانت متشابهة في حالات أحلام اليقظة والواضحة، بينما تقل في حالة الأحلام غير الواضحة. أي يستطيع الحالم تقرير ماذا سيفعل، لكنه لا يرتب لذلك، وإنما ينفذ فورًا.
وهذا ما حدث معي، فلم أستغرق وقتًا في الترتيب والتخطيط لمجريات حلمي، وإنما تحكمت في الزمن بمجرد إدراكي بأنني في حلم. وهذا ما أشارت إليه الدراسة، فالقدرة على التخطيط والترتيب ضعيفة في حالة الأحلام الواضحة وغير الواضحة، بينما تنفيذ النية وحسم الموقف يحدث أثناء الأحلام الواضحة بسرعة. وفي هذا الصدد، تقترح الدراسة أنّ قدرة الحالم على استعادة القدرات فوق المعرفية (أي التفكير فيما يحدث حوله بوعي وإدراك الذات) ووظائف الذاكرة أثناء الحلم الواضح، تساعده في تنفيذ نواياه.
وما التغيرات الطارئة على الدماغ؟
هناك ما يسمى بالوعي الأساسي أو الحسي، وهو يتضمن الإدراك والعاطفة. وهناك الوعي الثانوي، الذي يشير إلى سمات محددة مثل الإدراك الذاتي والإرادة والتفكير المجرد والقدرات فوق المعرفية. يرتبط الأخير بالحلم الواضح، ويتضح ذلك من نشاط مناطق محددة من الدماغ أثناء الحلم الواضح.
يُلاحظ نشاط في المناطق التالية:
- قشرة الفص الجبهي الظهراني "DLPFC".
- الجزء الأمامي من الفص الجبهي.
- منطقة الطليعة.
- الفصيص الجداري السفلي.
- التلفيف فوق الهامشي.
ونشاط هذه المناطق يساعد على استعادة الحالم للقدرات فوق المعرفية وهي من سمات الوعي الثانوي المرتبط بالحلم الواضح، ما يجعل الأحلام الصافية خيارًا فعّالًا لدراسة الوعي الثانوي جيدًا. علمًا بأنّ هذا النشاط الذي يحدث أثناء الأحلام الواضحة يتم تقيمه أثناء نوم حركة العين السريعة من خلال إشارات العين. إضافة إلى ذلك، في الظروف الطبيعية، يقل نشاط منطقة قشرة الفص الجبهي الظهراني أثناء نوم حركة العين السريعة. وهنا تتميز فترة الأحلام الواضحة عن غير الواضحة، حيث يرتفع نشاط هذه المنطقة أثناء مرور الحالم بحلم واضح.
وللتأكد من هذا الاختلاف، أجرى مجموعة من الباحثين بجامعة ستانفورد دراسة، لمقارنة تخطيط كهربية الدماغ "EEG" بين الأحلام الواضحة وغير الواضحة أثناء فترة نوم حركة العين السريعة. وأُجريت الدراسة على سبعة رجال وأربع نساء، تتراوح أعمارهم بين 21 إلى 37 عامًا، لديهم تجارب مع الأحلام الواضحة باستخدام تخطيط كهربية الدماغ لليلتين متتاليتين، ثم خضعت هذه الإشارات للتحليل الطيفي خلال خمس نطاقات مختلفة تقع بين ترددي 1و20 هرتز، واتضح الاختلاف بين الأحلام الواضحة وغير الواضحة من خلال نشاط موجات بيتا-1، وهي أحد موجات الدماغ المستخدمة في قياس التقلبات الكهربائية التي تحدث في الدماغ أثناء فترة الحلم الواضح. ويقع نشاط هذه الموجات بين ترددي 13و19 هرتز.
من ناحية أخرى، خلال الأحلام الواضحة، يزداد نشاط المنطقة الجدارية، ما جعل العلماء يقيسون نشاط بيتا-1 بين منطقتي القشرة الجبهية إلى الجدارية. وخلصت الدراسة إلى ما يلي:
- في حالة الأحلام غير الواضحة، تبلغ نسبة نشاط بيتا-1 في المنطقة الجبهية إلى الجدارية ما بين 1 و1.16.
- أما أثناء الأحلام الواضحة، تتراوح نسبة نشاط بيتا-1 بين 1 و1.77، بل وكان من الممكن أن تزداد هذه النسبة، كما لُوحظ نشاط في الفص الجداري الأيسر، وهي منطقة مرتبطة بالإدراك الذاتي، ما يؤكد حدوث الحلم الواضح خلال هذا النطاق. وغالبًا هذا النطاق هو الذي كنت فيه أثناء حلمي.
عام 2015، نُشرت دراسة في مجلة Neuroscience، أجرتها إليسا فيليفيتش وآخرون، شارك في الدراسة مجموعة من الأشخاص مختلفين في درجة رؤيتهم للأحلام الواضحة. وهدفت الدراسة لمعرفة تأثير الأحلام الواضحة على القدرات فوق المعرفية عليهم باختلافهم، كما تم تصوير نشاط أدمغتهم أثناء إجرائهم لاختبار مراقبة الأفكار، والذي خلاله يُقيّم المشاركون الأفكار في رؤوسهم، وتنقسم هذه الأفكار الموجهة إلى:
- الخارجية: وهي لها علاقة بالبيئة الخارجية الحالية، مثل أدائهم للاختبار خلال هذه الفترة.
- الداخلية: وهي لا ترتبط بالبيئة الخارجية، ولكن ينطلق تفكير المشارك في أشياء أخرى مثل موقف حدث أمس أو موعد عليه الالتزام به غدًا وهكذا.
أفضت الدراسة إلى أنّ الأشخاص الذين يرون أحلامًا واضحة باستمرار لديهم نشاط أكبر في المادة الرمادية (تقع في الدماغ وتساهم في الإدراك واتخاذ القرارات والذاكرة والعواطف والحركة وغيرهم) عن أولئك الذين يرون أحلامًا واضحة لكن بقدر منخفض. علمًا بأنّ قوة المادة الرمادية تعني تمتع الإنسان بقدرات عالية.
ما المميز في الأحلام الواضحة؟
يحصل الأشخاص المعرضون للحلم الواضح على عدة مميزات، من ضمنها التخلص من القلق والكوابيس وتبديد الرهاب وتعزيز الإبداع وتحسين المهارات الحركية، كالتالي:
تقليل التوتر والقلق
يستطيع الأشخاص الذين يتمتعون بالقدرة على الدخول في الأحلام الواضحة استخدامها لصالحهم في تقليل التوتر، حيث يكون هناك اتصال بين الوعي والحلم، ليخبر الحالم بأنه في حلم. مثلًا إذا كان لديك امتحان مهم في الغد مصحوبًا بالرهبة المعروفة، تستطيع تخيل مشاهد تدعم موقفك في دماغك قبل الذهاب للنوم، وفي الحلم سترى نفسك أكثر سيطرة على الوضع، ما سيُعزز ثقتك بنفسك عندما تذهب للامتحان في اليوم التالي.
معالجة الكوابيس وبعض الأمراض النفسية
عادةً ما يكون الكابوس زائرًا غير مرغوب فيه للناس، خاصة بعد وقوع حادث تسبَّب في صدمة نفسية. لكن الأشخاص الذين يدخلون في الأحلام الواضحة لديهم فرصة مذهلة للتخلص من هذه الكوابيس وتبديدها، حيث يستطيع الحالم التحكم في مجريات الحلم، وبمساعدة المعالجين، يستطيع النائم التحكم في مجريات الكابوس ويتخلص من الجانب المظلم فيها ويعالجها بحيث تكون أكثر إيجابية. وهذا سيساعد كثيرًا في التخلص من الصدمات التابعة للصدمات.
مواجهة المخاوف
في كثير من الأحيان، لا يستطيع المرء مواجهة مخاوفه باختلاف أنواعها. ويستخدم المعالجون العلاج السلوكي المعرفي في الأحلام الواضحة، لتمكين الشخص من مشاهدة مخاوفه ومواجهتها والانتصار عليها، وبذلك يقل الرهاب الذي بداخله تجاه شيء ما ويصبح أكثر قدرة على المواجهة في الحقيقة.
تعزيز الإبداع
يستطيع الناس استخدام الأحلام الواعية في تعزيز أحلامهم وذلك من خلال التحكم في خيالهم وتوجيه الحلم نحو كافة الاحتمالات الممكنة لحل مشكلة ما مثلًا، ما يساعد على توسيع نطاق الرؤية والتفكير خارج الصندوق والخروج بحلول مبدعة.
تطوير المهارات الحركية
تتميز الأحلام الواضحة بإمكانية التحكم فيها، ما يعني أنّ الوعي يحكمها. على سبيل المثال، إذا كان هناك شخص يعاني من إعاقة ما تمنعه من تحريك أجزاء من جسده، يستطيع تحريكها أثناء الحلم الواضح، وتشير إحدى الدراسات إلى فعالية هذه الطريقة في تحسين المهارات الحركية فعلًا إذا استطاع الشخص توجيه جسده من خلال عقله نحو الحركة.
وأخيرًا.. اتضح حقًا أنّ للبشر قدرة على التحكم في أحلامهم بل وسردها لصالحهم كما يشاءون والسفر عبر الأحلام وخوض مغامرات قد لا يستطيع فعلها في الحقيقة، كل ذلك يرجع لاتصال الوعي بالأحلام، وهو ما جعلني على دراية بأنني في حلم وأنقذت الطفلة في أحد أحلامي، نفس القدرة ساعدتني على مواجهة أسد شرس ومقاتلة وحوش ومواقف أخرى كثيرة لا أكاد أحصيها. على أي حال، التحكم في الأحلام الواضحة ميزة تستحق التجربة واستخدامها جيدًا لتعزيز قدراتنا ومهاراتنا المختلفة. لكن إياك أن تخلط بين الأحلام والواقع، فلا ترى أسدًا يهاجمهك في الواقع ومن هول الصدمة تظن أنك في حلم وتواجهه.