عندما كان ابني صغيرًا، حدث أن طلب بعض الأشياء فلبيتها له، وفي نهاية اليوم قال لي "أنت ماما حلوة"، ثم جاء جاء في اليوم التالي فطلب أشياءً أخرى، لكنه لم يكن بوسعي تنفيذ رغباته، وشرحت له الأسباب غير أنه لم يقتنع وغضب مني وقال "أنت ماما وحشة"، فذكرته بما فعلت في الليلة الماضية، وأعدت له مرة أخرى شرح أسباب رفضي هي المرة، لأؤكد له أنني مازلت نفس الأم التي كان يمدحها منذ ساعات، لكنه أصر قائلًا "لا .. ماما وحشة". يسمى ذلك في علم النفس تفكير الأبيض والأسود، أو تفكير كل شيء أو لا شيء Black and White Thinking/ All or nothing Thinking، وهو من أكثر الأخطاء الإدراكية التي تدل على عدم النضج النفسي أو الإدراكي.
حسنًا، هل يبدو لك أن الأطفال ليسوا الوحيدين الذين يمارسون هذا السلوك؟ كم شخص قابلته في حياتك لا يمكنه رؤية الصورة كاملة؟ يركز عقله فقط على النتيجة اللحظية ويغفل السياق الكلي أو يعجز عن التحليل؟ إن حدث ما يريده بالضبط فإنه يشعر بالرضا الكامل، وإن جرى تغيير أو تأجيل لرغبته شعر بسخط تام، بالطبع يتخلى الكثير من الأطفال عن هذه الصبيانية النفسية والقصور الإدراكي مع التقدم في العمر، لكن لا يزال هناك أشخاص بالغين غير قادرين على التفكير سوى بقوالب الأبيض والأسود، كل شيء أو لا شيء، ربما يحب مثلا رياضي ما طالما تماشى أداؤه مع آرائه وقيمه، ثم يكره الرياضي نفسه لو أخطأ مرة واحدة، ويحب الكاتب لأفكاره، وإن اختلف معه في فكرة واحدة لفظه.
عقل اللا شيء
يؤدي تفكير كل شيء أو لا شيء إلى التطرف، إذا لم تكن مثاليًا فأنت فاشل، إما أن تكون ناجحًا أو لا قيمة لك، إما أن تكون ذكيًا أو غبيًا، أن تكون كاتبًا أو فنانًا ذو حياة رائعة أو تكون حياتك مروعة، أن تكون سعيدًا بعودة طالبان وانسحاب أمريكا أو تكون منبطحًا ومعاديًا للإسلام، هناك دائمًا شيء صحيح أو خاطئ فقط من منظور الأبيض والأسود، هذه الطريقة الثنائية في التفكير لا تأخذ في الحسبان ظلال اللون الرمادي، بمعنى أن يكون لديك خيارين فقط: يجب أن تكون الأمور بطريقة أو بأخرى، ولا توجد منطقة رمادية بينهما، ويمكن أن تكون مسؤولة عن قدر كبير من التقييمات السلبية لنفسك وللآخرين.
عقلية الكل أو لا شيء هي نمط سلبي في التفكير وشكل من أشكال التشويه المعرفي، في عام 1976، كتب آرون بيك عن نظريته في التشوهات المعرفية، أو التفكير بطريقة كل شيء أو لا شيء، الذي يُطلق عليه غالبًا التفكير الأبيض والأسود، والذي يسير جنبًا إلى جنب مع التشوهات المعرفية الأخرى مثل التهويل، والحاجة إلى "أن تكون دائمًا على صواب"، والقفز إلى الاستنتاجات الحدّية، والتصفية (رؤية السلبي فقط) وغيرها، كذلك معظم الجمل التي تحتوي على كلمات مثل: دائمًا، أبدًا، كل، لا شيء، صحيح، خطأ، إلى الأبد، عادة ما تكون مليئة بالتفكير الأبيض والأسود، الذي يخلق توقعات متطرفة ومعايير مستحيلة، ولا يترك مجالًا للخطأ، غالبًا ما يرتبط بالاكتئاب واضطراب الهلع ومخاوف أخرى مرتبطة بالقلق يزداد معه الضغط النفسي للذي يعانيه ويدفعه إلى الانتحار.
التشويه المعرفي هو افتراض نقوم به بناءً على الحد الأدنى من الأدلة، أو دون النظر إلى الأدلة أساسًا، وهناك أنواع عديدة من التشوهات المعرفية، لكن تفكير "كل شيء أو لا شيء"هو الأكثر شيوعًا، وينخرط فيه بعضنا أحيانًا، وكلما زاد اعتمادنا على ذلك النمط من التفكير لاتخاذ القرارات أو تفسير الأحداث، سنميل إلى الشعور بالسوء، المشكلة هنا أنه غالبًا ما يساوي ذلك النمط من التفكير ما بين قيمتنا وأدائنا أو ما بينها وبين نتيجة معينة طارئة، بل ربما يرى الإنسان نفسه من خلاله وكذلك يحكم على الآخرين، مما يؤدي إلى مشاكل احترام الذات بمرور الوقت.
مثلًا قد تحصل على 20 تعليقًا إيجابيًا على صورتك على فيسبوك لكن تعليقًا سلبيًا واحدًا هو ما سيستأثر بانتباهك، أو ربما تملك ملايين الملايين لكنك تسعى لشراء درجة علمية عندما تحين لك الفرصة؛ يعكس هذا التفكير عدم تقدير داخلي للنفس ومحاولة تعويض هذا النقص والشعور بالاستحقاق المفقود من خلال لقب وهمي، أو درجة علمية من باب الوجاهة الاجتماعية.
التفكير بـ"كل شيء أو لا شيء" يمثل مشكلة من نواح كثيرة، إنه يخلق توقعات متطرفة ومستحيلة، خذ على سبيل المثال مقابلة عمل، أثناء المقابلة تفاجأ بسؤال ما، ولا تجيب عنه كما تحب، إذا نظرت إلى هذه التجربة من منظور الأبيض والأسود، فمن المحتمل أن تقلل من أدائك خلال 95% من مقابلاتك الأخرى اللاحقة، وستعتقد أنها كانت "مروعة" أو"مضيعة للوقت"، مما يصيب بمشاعر الخجل والعار وجلد الذات، يضع هذا التشويه المعرفي قاعدة غير معقولة، بحيث تكون أي نتيجة أقل من 100% تساوي 0%، وتتحول حياتك لمعادلة صفرية بامتياز، حينها من السهل أن ترى كيف يمكن أن يؤدي هذا التفكير إلى الكثير من الأحكام السلبية القاسية عن نفسك، مما يقلل من احترام الذات في هذه العملية، بل يمكن أن يؤدي كذلك إلى تعطيل محاولات تغيير السلوك، الأمر الذي يؤدي غالبًا إلى الاكتئاب والقلق وانخفاض الحافز وانهيار الثقة بالنفس.
محاولة للتخلي عن المركز
عرف الفلاسفة القدامى القليل عن تحقيق التوازن في الحياة، تحدث أرسطو عن الفكرة الوسطية، لكن في التطورات ما بعد الحداثية، تم التخلي تمامًا عن المركز الذي تتحدد من خلاله الأشياء والمعاني والقيم وانحسرت الثوابت أمام النسبية وترك الإنسان وحيدًا ضائعًا حائرًا بين الكم الهائل من الأفكار والإمكانات التي تتساقط عليه من كل حدب وصوب، تشترك في ذلك وسائل الإعلام باختلافها ووسائل الترفيه والفنون الجميلة منها والقبيحة والمتدنية حد الإسفاف، فضلًا عن كل وسائل الاتصال والإيصال المتاحة نتيجة التطور التكنولوجي في عصر العولمة هذا الذي نعيشه.
كل ذلك يقترح ويسوغ ويفرض على الإنسان طرق تفكير وسلوك غريبة وبعيدة كل البعد عن الطبيعة والعقلانية والصواب، وفي خضم حيرة الجميع وفي أتون هذا الصخب المتزايد والتعددية التي لا حد لها والفوضى الضاربة أطنابها في جوانب الحياة الشخصية والعملية والاجتماعية، يزداد الضغط على الإنسان في منطقتنا المنكوبة بقدرها وبأخطاء الماضي والحاضر أضعافًا مضاعفة، وينجم عن ذلك مجموعة من الأزمات: أزمة هوية مع الذات ومع البيئة ومع الآخرين الأقرب والأكثر بعدًا، الأقل والأكثر تأثيرًا، ويزداد إلحاح السؤال عن إمكان تحديد العلاقة مع كل هذه الجوانب، بمعنى أنه في مكان ما بين التهور والسلوك المحافظ حقًا، هناك طريق وسط، يبدو هذا الطريق وكأنه الشجاعة بعينها.
مفتاح استعادة العقلية الأكثر توازنًا هو الشجاعة في التخلي عن المركز، والتركيز على حب الذات بنقائصها، هذا يشمل التركيز على النمو والجهد بدلًا من التركيز على نتيجة محددة، على سبيل المثال بدلًا من هدر طاقتك على مشاعر الحقد والغضب من ابنة خالتك التي اجتهدت وتفوقت عنك بدرجة علمية، استثمري طاقتك في النمو الذاتي والتقدم بنفسك خطوة للأمام، فعندما يتم استنزافنا بتلك الطريقة، فإن ذلك يلغي إمكانية الاستمتاع بالكثير من اللحظات التي يمكن أن نستمتع بها، تلك هي الشجاعة والتوازن، فالأفكار المتطرفة والاستقطابية تحفز عواطفنا بشدة ويمكن أن ترهقنا وتضر بعلاقاتنا، مما يؤدي إلى الشعور بالارتباك والقلق والاكتئاب بل قد يؤدي للانتحار.
حسنًا لنتذكر معًا أن صيف 2021 هو موسم "انتحار طلبة الشهادة الثانوية العامة" في مصر فقط بسبب التفكير المتطرف، النجاح أو الفشل، الجيد أو السيئ، لم يتركوا مساحة كبيرة للمنطقة الرمادية لديهم، كان من المهم لرفاهيتهم أن يلبوا توقعاتهم في المنتصف، لكن في الثقافة المصرية، نحن ننقد أنفسنا بشدة، ولا نضطر عادة إلى انتظار شخص ما لينتقدنا، لدينا صوت داخلي يخبرنا فقط بأننا ناجحون أو فاشلون، محبوبون أو غير محبوبين، كليات قمة وكليات قاع... .
يحدث جزء كلاسيكي من تفكير الكل أو لا شيء فيما يتعلق بالعلاقات السياسية كذلك، حين يبرز سلوك (التقديس/ التدنيس) من الشعوب أو الأشخاص غير الناضجة نفسيًا، فتقدس من يوافق هواها وتنتقص من يخالفها، نحن نرى هذه السلوكيات المتدنية في عملية "التأليه" للقادة، و"الشيطنة" للمعارضين، إنهم إما يعبدون الناس أو يعتقدون أن كل ما يفعلونه رائع وإنجاز عظيم، أو يشيطنون الناس ويعتقدون أنهم فظيعون ويقطعونهم عن حياتهم، لذلك فإن عملية إدراك الرماديات هو قمة النضج السياسي، وهو أحد بوابات الوقاية من العنف والإرهاب.
كذلك في علاقاتنا الرومانسية والعاطفية إذا لم تكن في علاقة (زواج/ خطوبة/ حب) فأنا لست محبوبًا أو ذو قيمة كشخص، وهو ما أعتقد أنه خطير للغاية لأن قيمة الإنسان لا تحددها علاقاته التي يرتبط بها، بالتالي سيؤثر ذلك على شعور الناس بالقيمة والإنجاز في الحياة، تتحول الحياة إلى "حرب تكسير عظام" ويبرز خطران، الخطر الأكبر أن ذلك يؤدي اضطراب الصحة العقلية، والخطر الأصغر هو أنه عليك أنك تكافح لتعيش الحياة التي تريد أن تعيشها دون استمتاع، تصارع في علاقاتك على حساب الترابط الاجتماعي والعلاقات المتدهورة مع الآخرين.
إعادة ضبط
الآن نحن بحاجة إلى إعادة ضبط المصنع، مصنع الأفكار والتفكير مصنع صُنع القرار، ضبط مخنا وتحديد التشوهات المعرفية والعمل عليها، الأمر الذي يمكننا أن يجعلنا نشعر بتحسن، ويقلل من استنزاف أفكارنا عاطفيًا، وأن نصبح أكثر إيجابية وأكثر قدرة على إجراء تغييرات إضافية من شأنها أن تؤثر بشكل إيجابي على صحتنا العقلية وحياتنا.
من المهم أن نتدرب على قبول المنطقة الرمادية في عقلنا، وندرك كذلك المنطقة الرمادية في الحياة عامةً، أي أن شيئًا ما ليس جيدًا أو سيئًا بالكامل، ربما ترى النجاح في الحياة على أنه زواج أو إنجاب أطفال أو أن تصبح شريكًا في مكتب محاماة شهير، وغيره.
تتمثل الطريقة الصحية للتفكير في إدراك أنه على الرغم من اعتقادك بهذه المعايير والشروط في مرحلة ما من حياتك، لا ضرر من عدم حدوثها، فقد علمتك تجربتك حول "اللون الرمادي" في الحياة أن "ما لا يدرك كله لا يترك كل"، ولا بأس في التكيف حول بعض النواقص والاخفاقات إن كانت إخفاقات حقيقة، كذلك يتطلب الأمر الحصول على المهارات اللازمة للتكيف مع أي شيء تلقي به الحياة في وجهنا، هذا في حد ذاته مؤشر على النجاح.
لابد بالضرورة من إدراك الرماديات، في ذلك يكون سبيل الخلاص من الاكتئاب والوقاية من إحباط الذات والآخرين، حينها يرى الشخص فشله دون مبالغة، ويرى الآخرين دون مثالية غير واقعية، يرى حسناتهم وقت سقوطهم، ويرى سقوطهم وقت رفعتهم، إن مفتاح الحياة الصحية هو إدراك الترياق المضاد لهذا التشويه، أن تبذل جهدًا للبحث عن درجات اللون الرمادي، وأن تعرف أن الحياة مليئة به، ليس فقط الأبيض والأسود، حتى تتمكن من التكيف وتوقع أن الأمور لن تسير على ما يرام دائمًا، السؤال الآن هل أنت مدرك للرماديات بما يكفي لتكون ناضجًا نفسيًا؟
المصادر
1- Beck, Aaron T., Arlene Weissman, and Maria Kovacs. "Alcoholism, hopelessness and suicidal behavior." Journal of Studies on Alcohol 37.1 (1976): 66-77.
2- ورقة بحثية بعنوان"الوسطية بين التنظير والتطبيق"، لأستاذة الفلسفة بجامعة بغداد فاتنة حمدي.