كان موريس أوتريللو (1881- 1955) يهيم فى شوارع باريس بائسًا أو مخمور حول بيوت الله (الكنائس والمعابد العتيقة) مدفوعًا بشغفه الشديد لرسمها. كان الرسم والطواف بالشوارع ملجأه من المرض العقلي الذي عصف به صغيرًا، والذي حاولت والدته الفنانة الشهيرة سوزان فالادون مداواته منه بالرسم. نشأ أوتريللو دون أب معروف على الأرض ودون أب سماوي كذلك، حيث امتنعت أمه عن تعميده صغيرًا، وظل هو بقية حياته يبحث عن الله الذى لم تقدمه أمه له.
في سن صغيرة جدا، يبدأ الانسان فى تكوين معارفه الأساسية عن نفسه وعن الحياة وكل ما يحيط به، وكذلك معارفه عن الله. وتظل الطريقة والمفاهيم التي تم بها تقديم تلك المفاهيم للطفل؛ حاكمة لنظرته للأسئلة الكبرى لفترات طويلة من حياته. من هذه المفاهيم؛ ما هو الله؟ من هو؟ ولم يتدخل في حياتنا وما هي الآليات التي تحكم علاقتنا به؟
تقدم لنا النصوص المقدسة صورًا متعددة لإله واحد، هو إله محب لشعبه والمؤمنين به، لكنه أيضًا إله غضوب يعاقب غير المومنين وينزل بهم كوارث تفنيهم، لأنهم اختاروا عصيانه وعدم اتباع أنبيائه.
في فيلم بحب السيما تم تقديم الله إلى الطفل الصغير على أنه إله قاس، يمنع كل شيء ممتع ويؤذي البشر. إله يحكم الخوف وحده علاقتنا به.
صادفت بحكم عملي كمعالج نفسي حالات عديدة عانت بسبب سيادة مفاهيم اجتماعية ترتبط بعلاقتنا بالله، ومفاهيمنا إدارته لهذا العالم. ظلت فتاة مراهقة تعاني سنوات طويلة وتتردد على العيادات النفسية نتيجة تعرضها لإيذاء جنسي من أحد جيرانها. وعندما طلبت من أمها إبلاغ الشرطة حتى ينال هذا الجار الجزاء على جريمته؛ أخبرتها الأم أن الله سيعاقبه أشد العقاب. وظلت الفتاة تتابع الجار في انتظار العقاب الذي لم ينزله الله به أبدًا، فكانت المعاناة النفسية مرتبطة بأن " الله يترك الأشرار بلا عقاب" كما أصبحت ترى.
طفل آخر كان يتعرض بشكل شبه يومي لعقاب جسدي شديد إذا لم يؤد الصلاة، فأصبح يكره الصلاة التي تجلب له كل هذا الألم. وعندما وصل إلى مرحلة المراهقة، أصبح يقول ساخرًا لأصدقائه "أنا مسلم فى البطاقة فقط".
إذن فالطريقة التي تم تقديم الله بها إلى الإنسان، والصور الذهنية التي كونها الفرد حول الله وحول كل العبادات والمعاملات التي لها بُعد روحاني؛ تشكِّل البذور الأصلية لعلاقته مع الإله.
كيف نحول علاقاتنا مع الله إلى علاقة صحية؟
مراجعة الصورة التي نري الله بها
تستخدم زمالة المدمنين المجهولين فى أدبياتها عبارة "الله كما تعرفه"، ليس فقط من أجل الجانب المتعلق بالفروق العقائدية؛ ولكن لأن كلاً منا – حتى أبناء نفس الدين الواحد – يري الله بطريقته الخاصة، ويلصق أو يستبعد صفات بعينها بخصوص هذا الإله.
فى التحليل النفسي يوجد تأكيد على صورة الإله، وعلاقاتنا به تتأثر بصورة كبيرة – إن لم يكن تأثرًا كاملًا – بشكل العلاقة مع الأب، ومدى القرب أو البعد أو حتى التصالح معه. ولذا سيكون جزء من رحلة إعادة اكتشاف علاقاتنا مع الله كما نعرفه؛ أن نبدأ في مراجعة الصورة التي نرى بها والدنا الأرضي.
اكتشاف مستويات جديدة في العلاقة مع الله
في العلاقة مع الله، يركز الكثيرون -على اختلاف الديانات- على جوانب العبادات والطقوس على حساب الجوانب الروحية. لذا يأتي التركيز على الروحانيات كحجر زاوية في إعادة بناء علاقتنا مع الله، وذلك من خلال عدد من السلوكيات التي تساعدنا على اكتشاف وتجديد تلك الجوانب، مثل التأمل اليومي في الحياة والطبيعة، المناجاة والحديث مع الله كأننا نره، الدعاء والتسبيح، العطاء، تعلم الهدوء الذاتي والسكينة، وكذلك يمكن الاستعانة بالعبادات اليومية.
تجاوز مشاعر الذنب
غالبًا ما يتم تقديم الله لنا في المجتمعات العربية وغيرها من المجتمعات المحافظة من خلال قائمة من الأوامر والنواهي، يعد التقصير في المطالب أو الإقدام عن النواهي انتهاكًا يستوجب العقاب في الحياة وبعد الموت، ويحرمنا من محبة الله ويورثنا غضبه.
شاب يقوم بالاستمناء كل يوم تقريبا، وبعد كل مرة يسيطر عليه لعدة ساعات مشاعر بعدم الراحة والضيق والخنقة، وحتى يتخلص من تلك المشاعر يعود إلى الاستمناء ثانية، وهكذا بلا توقف لأنه أصبح داخل دائرة قهرية لا نهاية لها.
فالإنسان بحسب دراسات التحليل النفسي تدفعه طاقة نفسية يطلق عليها الليبيدو (الدوافع الجنسية)، وهى تخرج إما في صورة الحب الذي يدفعه لسلوكيات منتجة، أو في صورة عدوان يدفعه تجاه أفعال قد تكون غير منتجة – إن لم نستطع أن نتسامى بها – هذه الأفعال غير المنتجة تدفعه للشعور بالذنب، هذه المشاعر قد تسجن الشخص بداخلها فيدخل في دائرة من تكرار الأفعال ثم الوقوع في الأحساس بالإثم والذنب فيلجأ للفعل نفسه ثانية حتى يتخفف من الشعور بالذنب وهكذا، في صورة الدائرة القهرية. ولكسر دائرة السلوك الإدماني تلك؛ نحتاج لقبول الضعف الشخصي، وتفهُّم أن خلف هذا السلوك احتياجات يجب فهمها وتلبيتها بطرق صحية، ونقطة البداية في كل ذلك هو مسامحة الذات.