من العجب ألَّا يتملّكنا العجب ممّا يحدث في أفغانستان، تلك العصابة من الناس التي تحارب في أرض بلا ماء؛ أرض خصبة للقنب، ومتمنّعة عن الزراعة بسبب الجفاف، وندرة المياه، لم يستطع السوفييت شراء ذممهم كما فعلوا مع زعماء وقادة عرب شرق أوسطيين، ولم يمكن للأمريكان محو طباعهم كما فعلوا مع الهنود الحمر، ولم يُغرِهم الانفتاح الجالب للشرعية والدعم كما أغرى دولًا صحراوية أخرى.
طالبان، وما أدراك ما طالبان؟ يذكّرنا عنادهم بالمسلمين الأوائل، الذين كسروا كل معابد الجزيرة العربية، وقتلوا أو نفوا كل شخص أو قبيلة لا تدين بـ"دين الله"، وغزوا بأنفة وكبرياء، ودموية وإذلال ثقافة الفرس والرومان، واستطاعوا بعد عقود من غزواتهم، فتوحاتهم، أن يحيلوا لغات وأديان وثقافات إلى النسيان.
من السهل النظر لطالبان بعيون الميديا الغربية، التي تختزل حياة الشعوب في قوالب جاهزة منبتة عن المناخ والإرث الثقافي، ومجمِدة لحركة الإنسان ومحاولاته المتعثرة والمتخبطة، المرهونة للزمان في تمثّل العناصر الاجتماعية والنفسية وتطويرها.
ومن الصعب علينا كعرب، أيًا كانت توجهاتنا، النظر إلى طالبان بعيون الميديا الصينية، باعتبارهم جماعة قليل فسادها، كبير انتماؤها إلى أرضها، لهم خصوصية ثقافية ومن الحكمة أن تترك لهم مساحتهم الخاصة.
ومن المستبعد ألّا يتملكنا الخوف والقلق، من مستقبل يميل إلى التصحّر، إذ لاحظ خبراء الجغرافيا البشرية هذا الارتباط الوثيق بين مساحات التصحّر في أفريقيا وسوريا والعراق وبين سهولة تقبّل السكان، وتعاطيهم مع الأفكار المتطرفة، فشكل "الإسلام الأصولي" هو صحراوي بامتياز، يمتاز بالبداوة التي تتأبّى على كل أشكال الاستعمار الناعمة والخشنة، وتتأبّى من ناحية أخرى على كل أشكال التحضّر المادي والأخلاقي.
كل مساحة خضراء تتقلص، كل مساحة صحراء تتمدد، هي أرض محتملة جدًا لإمبراطورية أصولية إسلامية صحراوية وعنيدة، والبداية طالبان.
مشهد البداية
نعم، نحن كعرب، مسلمين أو مسيحيين، مؤمنين أو ملحدين، متشددين لهويات ماضوية أو معتدلين في الأخذ بنصيب من هذا وذاك، خالقين مزاجًا عصريًا، فرديًا وجماعيًا، يحفظ لنا ماء وجه هويتنا الجغرافية أمام الحداثة والمدنية.
نعم، نحن كعرب لدينا في وعينا الجماعي ما يشبه التروما، هناك أشياء حدثت في الماضي البعيد لا نريد أن نتذكرها، ولكن شيئًا ما شفّرته جيناتنا يحتفظ بكل الذكريات، حية ملونة، بطريقة يصبح الحاضر بموازاتها أكثر رمادية وشحوبًا.
نعم، في أرض كتلك الأرض، وبين أناس مثل أولئك البشر، تشكّلت البدايات البكر للغة العربية، وفي تطرّف يماثل أو يتفوق على هذا التطرف الدموي تخلّقت أجنة الحضارة والمدنية والديانات التي نعيش امتدادها المعنوي بالفنون والثقافة والتكنولوجيا، وامتدادها المادي التدميري بالمصانع ومخلفاتها والأسلحة وحروبها الأهلية والدولية وقنابلها المسيلة للدموع وسجونها الحديدية وقوانينها الإسمنتية التي نفت وعذبت ووصمت أنماطًا بشرية وسلوكية تكاد تنقرض الآن، تمامًا مثل الغابات والمساحات الخضراء الحرة، هؤلاء الأبطال المتمردون ذوو القلوب المكتنزة بالشغف والحماسة لتغيير وعي الإنسان، والحفاظ على البيئة، وحفظ كرامة كل روح ونفس.
كيف انتصروا؟
هناك أسئلة لا تطرح عادة، فهي صعبة، ومزعجة، ولكن لا بد أن تطرح، لماذا انتصرت طالبان؟ رغم الهجوم المعنوي المسلح بالفكر والثقافة الحرة المتطورة والهجوم المادي بعسكرة أرض أفغانستان وسجن قادة طالبان وزعمائها في أكثر السجون سوءًا ورغم شراء الذمم الفاسدة بالمال السوفييتي قديمًا، والأمريكي حديثًا؟
كيف صبر هؤلاء المتطرفون بأفكارهم الكريهة، وصابروا، على كل هذا البلاء، كل تلك السنوات الطويلة؟
هناك مقارنات، لا تطرح، لأنها مقارنات مزعجة وكابوسية تذكرنا ببدايات تاريخ الأديان والحضارات القديمة والمدنيات الحديثة، تاريخ نريد تجاهله ونسيانه، المقارنة مع ما يمثله انتصار حركة طالبان بمثابة استحضار لحظة قد تمثل بداية لإمبراطورية أصولية وبربرية محتملة.
يمكننا مقارنة التطرف الطالباني الذي يسعى لبناء دولة، بالتطرف الإسرائيلي، وإن كان الأخير قادمًا من بلاد أخرى محملًا بعقدة العظمة للعرق والثقافة، لكن يجمعهما رغبة تدمير أصحاب الأرض وسحق الهويات الجغرافية الأصلية.
وبالنظر إلى بدايات الدولة الإسلامية الطالبانية في أفغانستان، والتي تجسد روح فقراء المسلمين الآسيويين المهمشين المنفيين من الحداثة بالفساد المحلي واستغلال شركات الدول الغربية المتحضرة، يمكن مقارنتها ببدايات أمريكا، زعيمة العالم "المتحضر".
هؤلاء البيض المتعصبون الذين قدموا من أوروبا، قتلوا الملايين، واستعبدوهم، وأبادوا قبائل عن بكرة أبيها وسرقوا ثقافتهم وأفكارهم ونهبوا أرضهم وتملكوها عنوة ولوثوا أنهارهم وسمموا بحارهم وأفسدوا هواءهم باسم عرقهم الأبيض السامي وباسم رب نسخة إنجيلية، يعاملهم معاملة الفئران والحشرات، وليس القطط والكلاب.
ويمكن مقارنة انتصار طالبان ببدايات ظهور العرب كغزاة أو فاتحين، الذين حولوا نهر الفرات إلى اللون الأحمر من ذبح الأسرى، والذين نقضوا حتى الأعراف "الجاهلية" بالحرب في الشهور المقدسة، وفرضوا حتى على قبائل الجزيرة العربية الفقراء دفع الجزية، واستنزفوا ثروات شعوب الأنهار في العراق وسوريا ومصر، لصالح المدينة ثم دمشق ثم بغداد، وسلسلة الإعدامات التي نصبت للصوفيين والمانويين في العصر العباسي، أو تلك النزعة الدموية للحجاج الثقفي، القائد العسكري المؤسس، والتي طالت فقهاء ووجهاء وسكان مدن لطالما عرفوا بالتمرد، والتي لولاها لما تماسكت أول إمبراطورية إسلامية، الخلافة الأموية.
الإرهاب، والمذابح، والسجون، والتكفير، والوصم، ونفي الآخر، هو ديدن البدايات، وجرثومة الحضارات والديانات، وجانبها المخفي في القبو المهجور، أليس ذلك قد يفسر هذا الذعر والصخب الأخضر والأحمر على السوشيال ميديا حول انتصار طلاب الشريعة المتحمسين، المؤمنين بأفكار صحراوية معادية للحضارة، نظيفو اليد، شامخو الأنف، الذين لم يخضعوا للشرق أو للغرب.
لا عجب من خوفنا، وانزعاجنا فطالبان هي ماضينا الأسود، وحاضرنا القاتم، ومستقبلنا الحالك، في أزهى صوره بياضًا، وطهرًا، وتقوى.