وضعت الحياة النقطة الأخيرة في سجل الدكتورة أمينة رشيد (1938- 2021) الكاتبة والمترجمة وأستاذة الأدب بكلية الآداب جامعة القاهرة، وانتاب المثقفون حالة من الحزن الشديد، وذلك لكونها حالة إنسانية وثقافية تستحق التأمل، لكننا نعتمد في الاقتراب من شخصيتها على عدد من الأسئلة المهمة منها؛ ما القيمة التي مثلتها في الحياة المصرية؟ وكيف كان زواجها بالدكتور سيد البحراوي؟ وهل يمكن الحديث عنها بوصفها نموذجًا مكتملًا لفكرة الاختيار الحر؟ وهل نموذجها ذلك قابل للتكرار؟
في البداية وجب القول بأن من حقنا الفخر بنموذج أمينة رشيد في حياتنا المصرية، فجميعنا يعرف أن أمينة، وللعلم فإن اسمها الرسمي "أمينة هانم" هي ابنة الارستقراطية نشأة وتربية وتعليمًا، ثم، أنها بكامل إرادتها، انقلبت على هذه الارستقراطية، وهذا هو جوهر القضية؛ الاختيار الحر، فلمن لا يعرف فإن أمينة رشيد ابنة طبقة عليا لو تحدثنا عن دائرة معارفها يكفي أن نشير إلى جدها إسماعيل صدقي باشا (18756- 1950) سليل مجموعة من الرجال المهمين في عهد أسرة محمد على، كما أنه شغل منصب رئيس الوزراء في النصف الثاني من الأربعينيات.
سنكتفي بالإشارة إلى الجد، لكننا نعرف بالتبعية البيئة التي انتمت إليها أمينة، وهنا وجبت الإشارة إلى طفولة أمينة، إذ ذكرت أنها لم تكن سعيدة، لأنها كانت تعيش في قصر جميل بينما بيوت الفقراء تتناثر حول ذلك القصر، ومع أن جدها كان معروفًا بقبضته الحديدة في السياسة، نجدها تذكر صورة أخرى عنه في حديث مع أستاذ الأدب بكلية الآداب جامعة القاهرة، الدكتور حسين حمودة، "رغم تلك الصورة، رأت فيه صورة أخرى لا تزال تذكرها، من معالمها أنه كان لطيفًا مع أطفال العائلة، وأنه لبّى رغبتها واصطحبها مرة في نزهة بسيارة كي يفرّجها، على مهل، على شوارع القاهرة".
كل ذلك كان يمكن أن ينتج لنا فتاة تتسق مع بيئتها ومع ظروفها، لكن أمينة رشيد اختارت الطريق الصعب، واختارته مبكرًا، في التاسعة من عمرها عرفت أن جدها غير محبوب من الشعب المصري، وفي السابعة عشرة من عمرها اتخذت قرراها بالدفاع عن طبقة الكادحين، فكيف بدأ هذا التحول؟ وما مظاهره؟
ابنة الباشا تغرد خارج السرب
إن واحدة من أهم نقاط التحول في حياة أمينة رشيد تمثَّل في عقلها، أو ما يمكن أن نطلق عليه "العقل الواعي" وهو نتاج تربيتها إضافة إلى ثقافتها، وعلينا الإشارة إلى أن تحول أمينة لم يكن دراميًا، فمبكرًا جدًا شعرت أن الشارع الذي كان يهاجم سياسة جدها على حق، وبدأ التغير يظهر إثر التحاقها بالجامعة، ولكن قبل الحديث عن الجامعة وجبت الإشارة إلى أن الظروف في مصر كانت تغيرت بشكل كبير بقيام ثورة 23 يوليو 1952، وامتلكت الأفكار الاشتراكية فرصة قوية للازدهار، وصار الطلاب الذين يتبنون مثل هذه الأفكار نجومًا في مجتمعاتهم.
وعندما انتظمت أمينة في جامعة القاهرة، وبالتحديد في كلية الآداب لدراسة اللغة الفرنسية، حيث حصلت على الليسانس في عام 1958، أتيح لها أن تطّلع بعينها وعقلها على طبقات المجتمع المختلفة بعيدًا عن البشوات الذين يسكنون في جاردن سيتي والزمالك، وأدركت هناك أنها لا تجيد التحدث باللغة العربية، حيث كان أهلها يتحدثون الفرنسية بينما يتركون اللغة العربية للخدم.
ويوجد رافد آخر قوي غيَّر حياة أمينة تمثل في أفكار قريبها الكاتب اليساري الشهير محمد سيد أحمد (1928- 2006) الذي كان سبقها في الدفاع عن الفقراء والانحياز إلى مشاكلهم وقضاياهم، كما ساعدها في ذلك مدرس الفلسفة جرونييه الذي أعارها كتابيّ عناقيد الغضب لجون شتاينبيك، والأم للأديب الروسي ماكسيم جوركي، وأعدادًا من مجلّة الفكر الماركسية.
ومن وجهة نظري، فإن واحدة من أهم نقاط التحول في تجربة أمينة رشيد تمثلت في ثورة الطلاب التي انطلقت في فرنسا سنة 1968، حيث إنها في سنة 1962 حصلت على منحة للدراسة في السوربون، وظلت هناك بل وعملت في الفترة من 1970 و1978 باحثة في المركز القومي للبحث العلمي في فرنسا قبل أن تقرر العودة إلى مصر، وبالتالي شهدت الأحداث جميعها التي كان لها أثرًا كبيرًا على العالم أجمع، خاصة طلبة الجامعات الذين كانوا يشعرون بطاقة كبرى ورغبة في التغيير.
وكان النتيجة أن انضمت أمينة رشيد إلى الحزب الشيوعي، وكان معظم نضالها في ذلك الشأن يتمثل في "الترجمة".
أما فيما يتعلق بمظاهر فكر أمينة رشيد فتمثل في انتماءاتها المبكرة إلى كيانات يسارية تسعى للاهتمام بطبقة العمال، وكذلك في حرصها الدائم مدى حياتها للعيش في إطار متقارب ممن انتمت إليهم.
تقول إكرام يوسف في وداعها لـ أمينة رشيد "ولا تغيب عن ذهني صورتها عندما جاءت عام 1986 تعزيني في وفاة عبد الحميد العليمي الله يرحمه، صديق زوجها الدكتور سيد البحراوي، وبلدياته. كانت أسرة عبد الحميد تعيش في مدينة بركة السبع، وكان سيد البحراوى من قرية بجوارها، جاءت للعزاء بجلباب فلاحي أسود مثلما ترتدى النساء في قرية زوجها وقريباته. فكرت كم هي جميلة ونبيلة بنت الباشوات التي تحترم عادات أقارب زوجها في قريته، وكانت بالقطع ترتدي أشيك وأجمل الثياب في المناسبات التي تقتضي ذلك، وفي الأوساط التى تنتمي إليها، سواء الأكاديمية في مصر وخارجها، أو بين أصدقائها في القاهرة وخارج مصر".
ليلة القبض على أمينة رشيد
من صور التماس التام بين أمينة رشيد وعالمها الجديد أنه بعد عودتها من فرنسا بسنوات قليلة وعملها في جامعة القاهرة، وجدت نفسها في المعتقل، وبالتحديد في سجن القناطر بصحبة عدد من نساء مصر الشهيرات منهن شاهندة مقلد وصافي ناز كاظم.
وأما عن سبب دخولها المعتقل يقول كتاب صناعة الطاغية: سقوط النخب وبذور الاستبداد لـياسر ثابت إنه في أعقاب حملة سبتمبر 1981، وبعد أن ألقى الرئيس السادات القبض على مجموعة كبيرة من السياسيين اتهم بعضهم بالتخابر لحساب الاتحاد السوفيتي، وكان المتهم الرئيسي في القضية هو محمد عبد السلام الزيات، الذي كان السادات عينه نائبًا لرئيس الوزراء عقب أحداث مايو 1971، واستمر في الوزارة طوال عام 1972 حتى نشب الخلاف بينه وبين السادات وأقيل الزيات من الوزارة فأصبح بعدها رئيسًا لجمعية الصداقة المصرية السوفيتية.
بعد معاهدة كامب ديفيد أصبح منزل الزيات مكانًا لتجمع المعارضين اليساريين يتبادلون فيه وجهات النظر ويتحدثون عن معارضتهم للسادات، وتكونت مجموعة من عبد السلام الزيات وقباري القاضي وكمال الإبراشى وصبري مبدي وفريدة النقاش ولطيفة الزيات ومحمد عودة وأمينة رشيد وآخرون، وفي هذه الأثناء وضعت أجهزة الأمن معدات تنصت داخل المنزل، وأخضعت تليفونات المجموعة كلها تحت المراقبة، وبدأت المخابرات في مراقبتهم وتسجيل المكالمات تحت اسم كودى هو "قضية التفاحة".
وتم الكشف عن القضية عقب أحداث سبتمبر 1981، ليتم القبض على الجميع بتهمة التخابر مع الاتحاد السوفيتي، وأخذت الصحف خاصة جريدة مايو الناطقة بلسان الحزب الوطني في كيل الاتهامات للمقبوض عليهم، ولم تتورع عن وصمهم بالعمالة والخيانة.
ومن اللوحات اللطيفة التي تكشف روح أمينة رشيد ما ذكرته صافي ناز كاظم عن لقائها بأمينة رشيد في السجن "بدأت أمونة تتحدث بصوت عربي فرانكفوني "أنا كنت ألم كتبي في صناديق العزال وبعدين فتحت الباب لواحد قال احنا مباحث أمن دولة ممكن يا دكتورة تتفضلى معانا؟ قلت فين؟ قال شوية كده نتكلم سوا، قلت له حضرتك شايف إنى بعزِّل ممكن نأجل الكلام ده أسبوع؟ قال لا دول خمس دقايق بس وترجعي، لكن لقيتهم ماشيين في سكة غريبة وبعدين جابوني هنا، مش هم كده يبقوا بيكدبوا؟" وللعلم ظلت أمينة في المعتقل قرابة شهر ونصف.
خارج أسوار سجن القناطر
خرجت أمينة رشيد من تجربة الاعتقال السريعة بخبرة حياتية أكبر وبصداقة مهمة مع مناضلات كبيرات مثل صافي ناز كاظم وشاهندة مقلد، ولعل فيلم أربع نساء من مصر لتهاني راشد، أعطى مساحة كبرى لهذه العلاقة.
أما على الجانب الحياتي فقد أثر فيها ذلك بشكل إيجابي فعلى حد قولها "شعرت لأول مرة في السجن أنني مصرية عربية، أعيش تجاربنا بكل أبعادها وأنتمي لهذا المجتمع بكل مشاكله وصعوباته" وهو ما حدث بالفعل، حيث خرجت أكثر تفاعلًا مع الشارع ومشاركة في المظاهرات ولعل القضية الفلسطينية استحوذت على مساحة أكبر من أيامها في الثمانينيات من القرن العشرين، فشاركت في تظاهرات دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، وشاركت في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية والمجموعة المصرية لمناهضة العولمة.
أما أقوى وجوه اندماج أمينة رشيد في عالمها الجديد فتمثل في زواجها من الدكتور سيد البحراوى (1953- 2018) وهو ابن إحدى قرى المنوفية، وكان يصف نفسه بابن الفلاحين.
عن بداية العلاقة بين أمينة وسيد البحراوي يقول أستاذ ومنسق الدراسات العربية في جامعة يورك الكندية، الدكتور وليد الخشاب "عندما عادت أمينة من فرنسا في نهاية السبعينيات، بعد إتمامها رسالة الدكتوراة التي كتبتها بالفرنسية، صممت أن تتعلَّم العربية لتنشر أبحاثها بالفصحى، فتتفاعل عضويًا مع مجتمعها العربي الناطق بالعربية. وكان هذا السعي مدخلًا إلى الأرضية المشتركة التي تعرفت خلالها على سيد البحراوي مدرس الأدب العربي الشاب آنذاك ورفيق العمر فيما بعد".
وعندما كانت أمينة رشيد في السجن سبتمبر/ أيلول 1981، ذهب البحراوي لزيارتها في السجن وطلب يدها، وهنا نأتي إلى السؤال الخطير: هل أفاد هذا الزواج أمينة رشيد أم أخذ منها؟ الإجابة إنه كان زواجًا ميمونًا بالمعنى الحقيقي، كان أثره كبيرًا يتجاوز بيتهما الصغر الجميل، ليشمل المثقفين في مصر، وشمل القرية التي نشأ فيها الدكتور سيد.
وفي رأيي، كان زواج أمينة والبحراوي إضافة لكلٍ منهما، فأمينة تأكدت تمامًا من اختياراتها، وسيد البحراوي تيقن تمامًا من نجاحه، كما اشتركا معًا في ترجمة العديد من الكتب كما سنوضح فيما بعد، كذلك كانا من مؤسسي لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في بداية الثمانينيات، أما على الجانب الإنساني فيكفي قولها "إن سيد البحراوى بفضله استطعت مواصلة ما انفصل" هكذا وصفت هي العلاقة في إهداء كتابها قصة الأدب الفرنسي، الصادر عن دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 1996.
ولم تعتمد أمينة رشيد على هذه الصورة (ابنة الباشا التي انحازت للفقراء) بل كان لها نتاج علمي تمثل في كتبها التي تنوعت بين الإصدارات في النقد والترجمة والتاريخ الأدبي، منها: قصة الأدب الفرنسي، تشظي الزمن في الرواية الحديثة، الأدب المقارن والدراسات المعاصرة لنظرية الأدب، ولها في مجال الترجمة: الأيديولوجيا وثائق في الأصول، ميشيل فاديه، رواية المكان تأليف آني إرنو، ورواية الأشياء تأليف جورج بيريك، ترجمتهما بالاشتراك مع الدكتور سيد البحراوي.
هل يتكرر نموذج أمينة رشيد؟
وصلنا إلى السؤال الأخير الذي أفكر فيه الآن: هل نموذج الحرية الذي مثَّلته أمينة رشيد، وأقصد هنا "الحرية الفكرية" التي هي أصعب أنواع الحريات، هل لا تزال الفتيات يقمن به؟
إنه سؤال صعب، فلنا أن نعلم أن جيل أمينة رشيد ضمَّ علامات في هذا الشأن منهن نوال السعداوي وإنجي أفلاطون وشاهندة مقلد، وغيرهن الكثيرات، وكل واحدة منهن حققت ذلك بطريقتها الخاصة، ونحن هنا لا نسعى للإجابة عن السؤال، بل نكتفي بطرحه فقط.
وفي النهاية نخلص إلى القول مع أستاذ البلاغة وتخليل الخطاب بجامعة القاهرة، الدكتور عماد عبد الطيف في وداع أمينة رشيد "وداعًا أمينة رشيد... الإنسانة الراقية النبيلة، والوطنية المناضلة، والباحثة الرصينة، والمترجمة المدققة" ونعرف أنها قيمة حياتية تحتاج إلى تذكرها كثيرًا كي نُثبت لأنفسنا أن مجتمعاتنا لا تزال قادرة على التفكير بحرية.