نسخة من الكتاب المقدس في إحدى كنائس الإسكندرية. الصورة لـ Evgeni Zotov من فليكر. برخصة المشاع الإبداعي

على خطى ويلكوكس: جدل يتجدد حول تمصير الكتاب المقدس

منشور الثلاثاء 31 أغسطس 2021

 

يعكف جون دانيال، أستاذ العهد الجديد واللغة اليونانية في المعهد اللاهوتي الإنجيلي، منذ 15 سنةً على ترجمة العهد الجديد إلى العامية المصرية الدارجة، نقلًا عن الأصل اليوناني. غير أن تجربته ستواجه بعض المتاعب بسبب رفض الكنيسة الأرثوذكسية القاطع لتمصير الكتاب المقدس، وهو الموقف الذي لا تتوافق معها فيه جميع الطوائف المسيحية في مصر.  

ويستعيد دانيال تجربة السير ويليام ويلكوكس مهندس الري الإنجليزي الذي عاش في مصر مطلع القرن العشرين، الذي ترجم بعض أسفار العهد الجديد إلى العامية المصرية، ولكنها لم تحقق رواجًا بين المصريين مع عدم اعتراف كنيسة الأقباط الأرثوذكس بها وتمسكها بالنسخة المتداولة التي ترجمها المستشرق الأمريكي كرنيليوس فان فاندايك منتصف القرن التاسع عشر أثناء إقامته في لبنان.

بحسب دانيال، فإن محاولته هذه تأتي من أجل تبسيط لغة الإنجيل للمسيحيين الذين لم يتلقوا قدرًا وافيًا من التعليم، ولاهتمامه كذلك بالعامية المصرية التي يعتبرها "اللغة الأصلية للمصريين"، كما أوضح للمنصة مضيفًا "طول الوقت وأنا مهموم بقضية تبسيط النصوص المسيحية المقدسة، خصوصًا إن فيه أجزاء كتيرة صعبة الفهم على البسطاء، بسبب اللغة الفصحى الصعبة في الترجمات المعتمدة من الكتاب المقدس".

ويعتقد دانيال أن الكنائس المصرية ما زالت "أسيرة نسخة فاندايك من الكتاب المقدس، ومن وقتها مفيش اهتمام بمحاولة تبسيط تعاليم المسيح ورسائل الرسل والتلاميذ، ما عدا النسخ التي ظهرت آخر عشر سنين، وفيها شرح مبسط للآيات، في هامش بالفصحى أيضًا".

خلافات كنسية

ولكن على الجانب الآخر، وبينما أبدى مسؤول في الكنيسة الإنجيلية ترحيبًا بالنص المترجَم إلى العاميّة المصرية، فإن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تتخذ موقفًا رافضًا بحسم، باعتبار العامية "تهين النص المقدس"، حسب الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة وتوابعها الذي أعرب للمنصة عن اعتقاده بأن "أضرار هذه الفكرة أكثر من فوائدها".

يؤكد الأنبا مرقس أن "الكنيسة الأرثوذكسية ترفض هذه النسخ ولا تعترف بها مطلقًا، ولا تسمح بطباعتها (في مطابعها) ولا تداولها (في كنائسها)، ليس من باب المنع والرقابة، ولكن لأنها غير مفيدة وتهين النص المقدس، فالعامية ليست لغة تتناسب مع آيات الكتاب المقدس، قد تصلح في الوعظ أو الترانيم، وتبسيط معاني الإنجيل والقصص الواردة فيه، لكن تحويل النص للعامية بالكامل فكرة فاشلة".

ويرى أسقف شبرا الخيمة أن "المسيحيين تعودوا على النسخة الموجودة حاليًا ويحفظونها، والإنجيل بسيط ولا يحتاج سوى للتفسير فقط". ويضيف "بدلًا من ذلك على من يريد العمل وإضافة جديد، أن يقدم قراءات وتفاسير للكتاب المقدس بلغة بسيطة، بدلًا من البحث عن ترجمة حرفية لمعاني وكلمات نحفظها عن ظهر قلب".

وقدمت دار الكتاب المقدس في تسعينيات القرن الماضي، قصص الكتاب المقدس بعهديه باللهجة الصعيدية مسموعة على شرائط كاسيت، انتشرت نسخها وقتها بين المسيحيين الصعيد ولاقت رواجًا كبيرًا، كما قام الفنان ماجد الكدواني بتسجيل سفر المزامير باللهجة الصعيدية أيضًا.

المزامير باللهجة الصعيدية بصوت الفنان ماجد الكدواني


ويذكر الأنبا مرقس أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت لها تجربة سابقة في ترجمة الإنجيل بلغة بسيطة، وتغيير بضع كلمات فقط، مثل "طوبى للبسطاء"، كتبت "يا لسعادة البسطاء"، لكنها لم تلقَ القبول من الجمهور نفسه، وعزفوا عنها بسبب تعودهم على النسخة الموجودة حاليًا.

غير أن القس أشرف جميل راعي الكنيسة الإنجيلية في البرشا وعضو المجلس الإنجيلي في محافظة المنيا أبدى ترحيبًا بالترجمة الجديدة، موضحًا للمنصة "نتقبل كل الترجمات القديمة طالما التزمت بالنص الأصلي، رغم اعتمادنا اليوم على نسخة فاندايك إلا أننا ندرس ونقرأ النسخ الأخرى، مثل ترجمات اليسوعيين وغيرها".

ويشيد جميل بالمجهود الذي بذله جون ميلاد في نسخته الجديدة، مؤكدًا على ضرورة الحفاظ على النسخة القديمة من الإنجيل بالعامية في تراث إنساني مهم، منوهًا إلى كونه أستاذًا للغة اليونانية في كلية اللاهوت الإنجيلي "لذلك ترجمته تعتمد على جذور اللغة اليونانية مقارنة باليوم، وهي مسألة شاقة لكنها ممتعة للقارئ والباحث".

يراهن دانيال على أن النسخة العامية من الإنجيل سوف تسهم في زيادة المعرفة الدينية لدى المسيحيين المصريين "لا شك الترجمات القديمة أفادت المسيحية والمسيحيين طوال قرنين من الزمان، قبلها كانت قراءة الكتاب المقدس حكرًا على من يعرفون الإنجليزية أو اليونانية، أصبح الكتاب المقدس في كل بيت".

ويشير إلى أن الكثير من المصريين "أميين لا يعرفون القراءة والكتابة ويحتاجون إلى تبسيط كلام المسيح وتعاليمه، أن يتكلم يسوع مثلهم، فهو بالفعل كان يتكلم ويخطب في الناس وتلاميذه مستخدما لغتهم الآرامية، وتحديدًا اللهجة الجليلية". ويرى أن "اللغة العامية فهي اللغة الأصلية للمصريين. فنحن لا نتكلم العربية الفصحى، ولا نتعامل بها في حياتنا اليومية، ما يجعل هناك فصامًا بين ما نقوله ونفكر فيه، وبين ما نقرأه بالفصحى، لا سيما مع تطور العامية وجماد الفصحى".

على خطى ويلكوكس

في ثلاثينيات القرن الماضي ترجم السير ويليام ويلكوكس العهد الجديد إلى العامية الصعيدية، نقلًا عن النسخة القديمة المعتمدة من الكنيسة والمترجمة من اليونانية، نقلًا عن اللغة الأصلية في فلسطين القديمة، الآرامية، التي كُتِبت بها أغلب أسفار العهد الجديد، أو اللغة العبرية القديمة بالنسبة لأسفار العهد القديم.

 

ويكلوكس. الصورة من ويكيميديا برخصة المشاع الإبداعي

وإلى جانب ترجمته العامية لبعض أسفار الكتاب المقدس، فإن ويلكوكس، وهو في الأصل مهندس ري إنجليزي صمم وشيد خزان أسوان، كان من أول المنادين بإعلاء قيمة العامية المصرية واعتبرها أقرب إلى المصريين من رصانة الفصحى، وانضم إلى جماعة الفن والحرية التي ضمت نخبة المثقفين والفنانين في مصر وقتها، ونشر مقالًا عام 1893 في مجلة الأزهار التي أسسها، دعا فيه المصريين للكتابة بلغتهم التي ينطقونها.

وترجم ويلكوكس إلى جانب بعض أسفار الكتاب المقدس، إحدى مسرحيات ويليام شكسبير للغة العامية المصرية. كما كان يلقي محاضراته في مصر باللهجة العامية.

عنون ويلكوكس نسخته بـ "الخبر بتاع يسوع المسيح.. رسايل روميه وكورنتوس (1) و(2).. الطبعة الأولانية.. انطبع في مطبعة النيل المسيحية بشارع المناخ نمرة 37 بمصر". وهناك مقدمتان للطبعة كتبهما الأستاذ العلامة سايس، الأولى في مالطة يوم 21 ديسمبر/ كانون الأول 1921، والثانية في أدنبرة بأسكتلندا في 8 يوليو/ تموز 1927. ومن المقدمين نعرف معلومات هامة ذكرها سايس.

في المقدمة التي كتبها في أدنبرة والخاصة برسائل بولس الرسول يقول سايس "من ست سنين فاتوا كتبت مقدمة للترجمة اللي عملها السير ويليام ويلكوكس للأناجيل الأربعة باللغة العامية. وانا ماعنديش حاجة أزودها دلوقت على كلامي بخصوص ترجمة الأناجيل دكها علشان فكر الفلاح المصري النهاردا يختلف حاجة بسيطة عن فكر فلاح الجليل اللي كان ربنا بيكلمه علي شط بحيرة الجليل.. لكن السير وليام مشي في ترجمة باقي كتب العهد الجديد. وإحنا لازم نتذكر إن الناس اللي انكتبوا لهم الرسايل كانوا يختلفوا عن دوكهم في التربية وأن لغة أغلبهم كانت هي اللغة اليونانية".

 

مقدمة ترجمة ويلكوكس العامية للكتاب المقدس

يتفق سايس في مقدمته مع ما يذهب إليه جون دانيال بأن نقل الإنجيل إلى العامية يحاكي اللغة البسيطة التي استخدمها صاحبها في مخاطبة بسطاء وفلاحي اليونان قديمًا، وهو ما أوضحه في المقدمة الأخرى التي كتبها في مالطا لترجمة إنجيل متى، بأن المسيح كان يعلِّم الجموع بلغة فلاحي الجليل الدارجة ولم يكن يستخدم اللغة النحوية "السير ويليام ويلكوكس ومنصور أفندي بخيت استعملوا في كتابهم اللغة المصرية الدارجة اللي لازم يهتم بها كل معلم في الديانة. مافيش شك ان اللغة اللى استعملها المسيح ربنا هي اللغة الآرامية الدارجة في فلسطين وفيه طرق كتار يوروا ان اللغة دي كانت لغة عامة الناس اللي عاش المسيح في وسطهم".

ويتابع "المسيح اتكلم ويا الفلاحين زي واحد منهم. وحتى في القدس ما كانش بيعلم زي كتبة اليهود باللغة العبرانية الميتة ولا باللغة النحوية اللي بيتعلموها في المدارس. وحتى بعض كلام المسيح زي افتح وتالتة قومي كتبت في الإنجيل زي ما هي علشان يوروا الفرق بين اللغة اللى كان بيتكلم بيها المسيح وبين اللغة النحوية للمدارس والمتعلمين".

نسخة ويلكوكس كانت ملهمة بالنسبة إلى دانيال، ويعتبرها "محاولة تقدمية جدًا في وقتها، لكنها تحتاج الكثير من المراجعات خصوصًا إنها منقولة عن الترجمة الإنجليزية للإنجيل". وفضلًا عن اعتماد دانيال على الترجمة من النص اليوناني، فإنه يشير أيضًا إلى "تطور اللغة العامية المصرية نفسها، ولا بد من مواكبة هذا التطور في المحاولات الحديثة للترجمات".

ويتابع أن "المترجم يقع في عيب خطير وهو، فهو يحاول تبسيط نص الفصحى إلى العامية، يفكر بالفصحى في الكلام، ولا يبحث عن التركيب اللغوي لمعنى الكلمة في الأصل، وما يقابلها في العامية المصرية. لقد قصدت عمل ترجمة علمية تستند إلى التركيب اللغوي للنص الأصلي، دون نص وسيط من الفصحى أو أي ترجمة أخرى".

وتعود أول ترجمة عربية للكتاب المقدس إلى القرن السابع الميلادي، عندما استدعى عمير بن سعد بن أبي وقاص أمير الجزيرة في عهد الخليفة مروان بن محمد، آخر خلفاء الدولة الأموية الأولى، البطريرك يوحنا أبي السدرات وطلب منه ترجمة الإنجيل شرط أن يستثني من الترجمة ما يختص بلاهوت المسيح، وصلبه، والمعمودية، حسبما يذكر الراحل مار إغناطيوس زكا الأول بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية سابقًا، في كتابه بحوث تاريخية دينية أدبية، ولما رفض البطريرك أن يحذف أو يزيد حرفًا "أعجب الأمير من بسالته، وفوّضه بالترجمة كما يريد، فجمع عددًا من الأساقفة واستحضر علماء بكلتا اللغتين السريانية والعربية من بني تنوخ وعقيل وطي (في الكوفة)، وترجموا الإنجيل المقدس إلى العربية بإشرافه، فقدّمه بدوره إلى الأمير".

تلت هذه الترجمة، وهي مفقودة بطبيعة الحال، ترجمات كثيرة تالية، حتى جاء عبديشوع الصوباوي بأول نسخة مترجمة على طريقة السجع في اللهجة الصعيدية، وذلك في القرن الثالث عشر، قبل نحو ألفي سنة من ترجمة ويلكوكس غير المكتملة أو المنتشرة، بينما يبقى أمل جون دانيال في إنجاز نسخة كاملة ومكتملة، تمتلك حظوظًا أفضل في الانتشار والبقاء.