في عمر السابعة والسبعين، يتحرك الناقد السينمائي المصري كمال رمزي بتمهل متكئًا على ساقين من الثقافة السينمائية والأسلوب الأدبي، بينما تسبقه ابتسامة دائمة توحي بالأمل في المستقبل قبل البصيرة التي تتميز بها كتاباته ورؤيته.
ولد عام 1944 وبدأ كتابة النقد السينمائي قرب نهاية الستينيات، وهي الفترة التي ظهر فيها جيل جديد من النقاد السينمائيين الذين شكلوا الحركة النقدية المصرية لنصف قرن تقريبًا، وكان على رأسها الأربعة الكبار؛ كمال رمزي وسمير فريد وعلي أبو شادي وهاشم النحاس. جمعهم حب السينما والفكر اليساري، ولكن تميز رمزي عنهم بأسلوبه الأدبي الساحر وروحه المرحة التي تجدها حاضرة في كتاباته وآرائه اللاذعة الساخرة.
أصدر رمزي حوالي خمسة وعشرين كتابًا نقديًا بينما كتب مئات المقالات في العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية على مدار ما يقرب من نصف قرن. ولذا لم يكن مستغرَبًا أن يكرمه مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة هذا العام، بعد أن كرمه المهرجان القومي للسينما في 2007.
بمناسبة هذا التكريم، كان للمنصة مقابلة معه، سألناه فيها عن النقاد في مصر، هل ينالون التقدير الكافي أم يحتاجون لما هو أكثر؟ فأجاب بهدوء "دعني أقول إن الأمر نقيض ما تقوله. تكريم المهرجانات أو النقابات السينمائية للناقد ليس من مهام مهنته، ولكن العكس صحيح، فالناقد هو من يكرِّم المهرجانات. وتأتي تكريمات المهرجانات للناقد أحيانًا بسبب إسهامه الفعال في نشاط المهرجان، حيث لم يكن دوره مجرد التقييم ولكن البناء، مثل اختيار الأفلام أو المشاركة في لجان التحكيم أو إدارة الندوات، وغيرها".
"مبروك" تفسد النقد
دائما ما يتحدث رمزي عن وجوب حيادية وموضوعية الناقد في تناوله للعمل الفني، ولذا سألته إذا كان يرى وجوب الفصل بين صناع السينما والناقد؟ فاستمع إلى السؤال ثم تناول علبة السجائر التي على المنضدة وأخرج سيجارة وأشعلها. في حقيقة الأمر، كنت مندهشًا من تأخر هذه الخطوة، فهو معروف عنه أن السيجارة لا تفارق أصابعه، ولكني عرفت بعد ذلك أنه يدخن حينما يريد أن يركِّز أكثر، وهذا يعني أنه بدأ يهتم أكثر بالحوار ويشحذ ذهنه للإجابة عن الأسئلة.
"بالتأكيد يجب أن توجد مسافة بينهما. ودائمًا ما أقول لشباب النقاد إنه من المستحسن ألا يصادقوا النجوم، بل أحذّر من ذلك، لأنك حينما تكتب يترائى لك النجم، وحينها لن تستطيع الكتابة بحرية. أنا مع العلاقات الإنسانية بين الناقد والنجم، ولكن أحيانًا تطغى هذه العلاقة على التقييم الموضوعي. دائمًا ما كان يقول لي أساتذتي ألا أذهب لمشاهدة الفيلم يوم الافتتاح. فهو يوم فرح صنَّاع الفيلم ويجب على الناقد أن يبارك لهم وإلا كان قليل الذوق، ولكن وبسبب قول الناقد "مبروك" ستكون كتابته غير موضوعية. الأفضل أن يحضر الناقد الفيلم بتذكرة في يوم آخر غير العرض الأول وأن يشاهد الفيلم مع الجمهور"، أجاب رمزي.
صمت بعد ذلك قليلًا، وأخذ نفسًا من سيجارته. كنا نجلس قرب نافذة تغطيها ستائر شفافة تقلل من حدة شمس الصيف القائظ، ولكنها تملأ الغرفة بضيائها فتجعل ملامحه أكثر وضوحًا، على الأقل من ناحيتي ووجهة نظري. ثم أكمل "الجمهور يعلمني حتى يومنا هذا الكثير. حينما أجد الجمهور حزينًا أو سعيدًا بالفيلم فعليَّ أن أفكِّر لماذا يشعر بذلك؟ على الناقد أن يحلِّل هذه المشاعر التي يراها مباشرة ومن مصدرها. وبالتالي كلما كان في عزلة نسبية كان أفضل له".
مبضع الجراح
درس رمزي في بداية الستينيات النقد المسرحي ثم اتجه بعد تخرجه إلى النقد السينمائي، بعكس أغلب النقاد الذين ظهروا في هذه الفترة والذين كانوا نقادًا فنيين، يتناولون بالنقد والتحليل كل الأشكال الإبداعية والفنية المختلفة، فهل استفاد من دراسته للنقد المسرحي؟ يجيب رمزي "تاريخ النقد السينمائي حوالي 100 سنة، وبالتالي تراثه محدود، بينما التراث النقدي المسرحي قديم قِدم كتاب أرسطو فن الشعر، حينما تناول التراجيديا وقواعدها. لا يمكن تجاهل أيضًا تراث النقد الأدبي في الرواية والقصة القصيرة والشعر والمقالة الأدبية. على الناقد السينمائي أن يتسلَّح بكل هذا".
واصل "النقد السينمائي كله سطر واحد في منظومة طويلة من ألوان النقد المختلفة. مثلًا في كتاب م. ل. روزنتال شعراء المدرسة الحديثة، ستجد تحليلًا لقصائد رامبو وإدجار آلان بو، أقرب ما يكون إلى التحليل السينمائي حيث يتناول الناقد الأدبي الألوان المستخدمة والحركة داخل البيت الشعري، ومتى يبدأ ومتى ينتهي وما الذروة فيه، وكأنه يحلل فيلمًا سينمائيًا. على الناقد السينمائي أن يعرف ذلك جيدًا".
عن النقد السينمائي في مصر وهل يساوي النقد الأدبي والمسرحي، سألته فاندهش قليلًا من سؤالي ولكنه أجاب بثقة واستنكار "بالتأكيد. لدينا نقاد سينمائيون على مستوى رفيع من الإدراك والذائقة الراقية، حتى الجيل الجديد أجد في كتاباته أحيانًا لمعانًا. ربما يكتبون بتعسف في عرض الأفكار والرغبة في الهجوم والمقارنات الظالمة بين الأعمال المصرية والغربية. ولكن وسط هذه المغالاة ألمح معالم نقد ناضج وعميق ومتفهم ومتحمس للفن السينمائي".
توجد مدارس مختلفة لتعاطي النقد السينمائي. وضمن هذه المدارس نفسها يختلف النقاد باختلاف مناهجهم ومذاهبهم. يقول أحد النقاد مثلًا إنه "على الناقد حينما يشاهد فيلمًا أن يضع في رأسه أولًا أنه مشاهد قبل كونه ناقدًا". سألته هل يوافق هذا الرأي أم يخالفه؟ أجاب "أوافق تمامًا. الفرق بيني وبين أي مشاهد هو أن الناقد مثل الطبيب. فالناقد يفسر للمشاهد لماذا يحب أو لم يحب هذا الفيلم. والناقد أيضًا مثل الجرَّاح. كتب الناقد محمد مندور، أنه أثناء دراسته في فرنسا انتقد نصًا أدبيًا فقال له أستاذه المؤرخ الفرنسي الشهير لانسون: حلَّلت العمل بساطور جزار بينما العمل الفني مثل الفراشة، فكان عليك أن تستعمل مبضع الجراح. هذا واحد من الدروس الثمينة التي لم أنسها أبدًا، ودائمًا ما أكررها على مسامع النقاد الشباب".
حق الجسد لـ"شفاعات"
سألته "هل معنى ذلك أن المشاهد دائمًا على حق؟" أجاب "غالبًا، خاصة في انطباعاته، فالمشاهد لا يكذب. حينما يقول إنه أحب أو كره فيلمًا، فيجب على الناقد أن يبحث عن السبب. في استفتاء أفضل 100 فيلم للمرأة في السينما المصرية، الذي أشرفت عليه وأقامه مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة، اُختير فيلم شباب امرأة للمخرج صلاح أبو سيف ضمن الأفلام المائة. وهو الفيلم الذي كان عليه تحفظات كثيرة، ولكن التفسير الآن لاهتمام الناس به أن شفاعات (تحية كاريوكا) تقف على أرض نفسية صلبة ولديها مؤسسة صغيرة تديرها بمهارة وجَلد وقوة وعزيمة، وتستطيع أن توظف أيدٍ عاملة. هذا ما يراه جيل النقاد الجدد في الفيلم الآن.
مشهد من فيلم شباب امرأة
هذه نظرة جديدة للفيلم الذي كان النقاد القدامى يرفضونه، ويستنكرون أن شفاعات، هذه المرأة الأكبر سنًا، تقيم علاقة مع شاب. بينما من الممكن أن يأتي جيل جديد يرى أن لشفاعات حق الجسد، فهي امرأة قوية وعظيمة. وبالتالي تتغير النظرة للأفلام من جيل لجيل ومن شخص لآخر في الجيل نفسه".
لكل ناقد طريقته في مشاهدة الفيلم. البعض يهتم بالأفكار التي يطرحها الفيلم والبعض الآخر يهتم بالأسلوب الذي يعرض به الفيلم الأفكار التي يريد قولها. سألته "كيف تشاهد الفيلم؟ هل ثمة منهج ثابت تتبعه؟". "أترك نفسي للفيلم". يقول رمزي، "لا تكون لديَّ أي أفكار مسبقة عنه حتى لو كنت قد قرأت عنه قبل ذلك. وإذ ما شعرت بالسعادة بعد مشاهدته أبحث عن السبب؛ ربما أجد جملة حوار جميلة أو شخصية مكتملة الأبعاد أو التصوير والزوايا ناطقة بالمعاني. ولكن إذا لم أحب الفيلم أبحث لأجد مثلًا أن فكرته تدور حول الانتحار كسبيل للخروج من المأزق، أو أنه يدعو للاحتراس من أقرب الناس لك، بمن فيهم ابنك ووالدك وأخوتك، وهي نظرة شديدة السواد. حينما أشاهد فيلمًا تكون لديَّ حسن نية كاملة، ولكن بعقلية يقظة منتبهة لمعالم الجودة".
القارئ لأعمال كمال رمزي النقدية يمكنه بسهولة أن يلحظ هذا الحس اليساري الواضح، الذي يدعم رأيه كدعم العمود الفقري للجسد، حيث يهتم كثير بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للفيلم. ولهذا سألته "هل تهتم بهذه الجوانب بشكل قصدي أثناء مشاهدة وتحليل الفيلم أم لا؟" فجاء رده أن هناك أفلام تجعلك أقوى بعد مشاهدتها مما كنت عليه قبل مشاهدتك لها؛ "أفلام تستنهض الهمم وتخاطب الجوانب القوية فيك، بينما توجد أفلام تضعفك وتزيد من انهيار روحك المعنوية".
طلبت منه أمثلة على ذلك، فرد بأنه في في عمر لا يريد أن يهاجم فيه أفلامًا، ولكنه طرح فيلم احنا بتوع الأتوبيس كمثال؛ "هذا فيلم يجعلك كائنًا ضعيفًا. فأنت تشاهد شخصين يُعذَّبا وينهارا وأحدهما يقفز على سطح صفيح ساخن ويعوي كالكلب. هذا فيلم يضعفك. أحتاج إلى فيلم يجعلني أقوى.
توجد أفلام تجعلك تقدِّر أناسًا عظماء، حيث تكتشف عظمتهم في المأزق مثل ريح الأوراس حيث أم تملك دجاجتين وتبحث عن ابنها المعتقل، وقرب نهاية الفيلم ترى ابنها بعيدًا فتلوح له لتكتشف أن كل من هم وراء القضبان أمامها يبدون كابنها.
هنا تتجلي قوة المحبة وعاطفة الأمومة والنوازع الوطنية. هذا فيلم يجعلك ترى قوة المرأة. وهو ما يجعلك أنت نفسك أقوى مما دخلت. أكره الأفلام التي تجعلك تخاف من الحياة. وأتحفظ على الأفلام التي تجعلك حذرًا في قول رأيك. عليك أن تكون شجاعًا وتقول رأيك. أو مثلما يقول نجيب محفوظ عاقبة الخوف أفدح من عاقبة الشجاعة. فالخوف يضيعنا.
الوعي يغيرنا
يحكي رمزي عن تجربته مع اليسار المصري "معظم قراءاتي تتجه لليسار وخاصة في التاريخ، حيث قرأت لعبد الرحمن الرافعي ومحمد أنيس وعبد العظيم رمضان وأيضا شهدي عطية الشافعي وكتابه تأريخ الحركة الوطنية المصرية، وفوزي جرجس وكتابه دراسات في تاريخ مصر السياسي. اليسار قدَّم الكثير واضطُهد لفترات طويلة حتى من الوطنيين أنفسهم، وعلى رأسهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر".
وماذا عن الأفلام اليمينية التي تتناقض أحيانًا مع أفكارك. كيف تتفاعل معها؟ سألته، فأجاب "على الناقد أن يكشف الغطاء عن سوء الفيلم، مهما كان، فمثلًا احنا بتوع الأتوبيس فيلم سيئ، رغم أداء عادل إمام وعبد المنعم مدبولي الجيد، وكان عليَّ أن أكشف سوء الفيلم من ناحية أنه يجعل المشاهد يخرج ضعيفًا.
أثار هذا سؤالًا "ألا يساعد الضعف على التغيير؟" فجاءت إجابته حازمة "لا"، ومضى ليشرح "على العكس من الوعي، يمنعنا الضعف من التغير. يجب أن يحمل الفيلم وعيًا. احترام ومحبة جيلي من النقاد لصلاح أبو سيف، بعكس الجيل الجديد من النقاد، يأتي بسبب عدة أمور؛ منها نهايات أفلامه، فهي تقريبًا متطابقة، مثل فيلم ريا وسكينة، حيث يبادر أهل الحي بالهجوم على بيت عصابة ريا وسكينة قبل وصول الشرطة، وفي فيلم الوحش تجد أهل القرية يختبئون في الأزقة وهم يحملون البنادق منتظرين رجال عصابة الوحش حتى يتصدوا لهم، بينما ينتهي فيلم القاهرة 30 بـ علي طه والشرطة تطارده فيحتمي بالجماهير حيث لا تستطيع الشرطة النيل منه، ليلقي المنشورات في الهواء، حتى تتمكن الجماهير من الحصول عليها وقراءتها".
"أيضًا في فيلم لا وقت للحب، يعود حمزة للمنطقة بينما يعرف الأطفال أن الشرطة البريطانية تتربص له، فيغنون له الأغنية الشعبية خبي ديلك يا عصفور بين القمح وبين الفول، فينتبه أن الأغنية موجهة له، وأيضًا في فيلم البداية، نجد هذا الشعب الصغير (الناجون من حادث طائرة) يتّحدون في مواجهة الذي القهر الذي يمارسه عليهم نبيه بك، ويواجه الظالم في النهاية. نحن هنا بإزاء مخرج يساري يدرك قلبه أن الناس إذا اتحدوا أصبحوا أكثر قوة. في صلاح أبو سيف نجد خطًا ورؤية يربطان كل نهايات أفلامه. ولذلك حينما نقول إن صلاح أبو سيف هو مخرج جيلي، فالسبب أنه يتوافق مع أفكارنا. فهو ضمير الواقعية وضمير اليسار السينمائي".
لم تعد قاعات العرض تعج بالمشاهدين مثلما كانت من قبل، فمنذ انتشار فيروس كورونا هجر الجمهور السينمات، حتى ذاك الذي كان السب وراء تحقيق عدة أفلام في عام 2019 أعلى الإيرادات في تاريخ السينما المصرية، هو جمهور مختلف بالفعل عن نظيره لسينمات الدرجة الثالثة أو الترسو وأفلامها، التي خصص لها كمال رمزي من قبل كتاب من مقاعد الترسو.
سألته عن رأيه في التغيرات الكبرى التي حدثت لجمهور السينما في مصر، الذي غاب عن دور العرض، حيث أصبحت توجد وسائط أخرى للمشاهدة، فردَّ بصوت هادئ ينم عن ثقة كبيرة "مشاهدة الفيلم بمفردك لها متعة محدودة. لأنك حينما تذهب إلى دار العرض تكون مهيئًا نفسيًا لمشاهدة فيلم. تغسل وجهك وتحلق ذقنك وترتدي ملابسك ثم تنزل من بيتك لتركب الأتوبيس أو الميكروباص أو سيارتك، وهو أمر نادر للنقاد السينمائيين لأنهم فقراء أو بالأحرى هم الحلقة الاقتصادية الأضعف في دائرة صناعة السينما كلها، ثم تذهب إلى السينما لتقطع تذكرة وتجلس في المقعد المخصص لك، وتنتظر قبل حتى يُطفأ النور ويبدأ العرض.
هذا ما يسمى بالتهيئة النفسية، فأنت الآن جاهز لمشاهدة فيلم سينمائي، بينما حينما تكون في البيت فمن الممكن أن تتذكَّر فجأة أنك نسيت أن تطلب شخصًا ما في الهاتف، أو أنك تريد أن تشرب كوبًا من الشاي، فتقوم لتطلب ما تريده أو تحضره لنفسك. هذه الحالة من المشاهدة المنزلية تعتبر متعة منقوصة، لأنها تقطع الوجبة إلى عدة مراحل، فتُفقد العمل مذاقه الحقيقي".
أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته، وواصل "بالتأكيد أثرت جائحة فيروس كورونا على دور العرض وجعلت الناس لا يذهبون إلى السينما، ولكن في تقديري أن دور العرض ستعود بعد انتهاء هذه الموجة لأن لها متعة لا يمكن إحلالها".
"ولكن أين دور العرض التي يتحدث عنها؟" كان هذا السؤال يتردد في ذهني، فسينمات مصر يتقلص عددها يومًا بعد يوم. فكل شاشات العرض بطول مصر وعرضها تزيد قليلًا على الأربعمائة، بينما كانت منذ ربع قرن تقريبًا أضعاف هذا الرقم. كل عام تهدم دور عرض أو تغلَق بينما لا تفتح إلا واحدة. اختفت دور العرض من الدرجة الثانية والثالثة تمامًا، وأصبحت سينمات الدرجة الأولى في المولات هي الطاغية الآن. تحولت مشاهدة السينما من طقس شعبي إلى سلوك استهلاكي محض.
سألته دور العرض في مصر تواجه تقلصًا مستمرًا بينما مثلًا في الصين والسعودية تبنى آلاف دور العرض سنويًا، لماذا يحدث ذلك؟ أجاب "النهم للثراء هي سمة تحولت إلى خطر كبير منذ عصر السادات. يوجد الآن جنون للملكية والكسب السريع، ودور العرض مهما كانت ناجحة إلا أن مكاسبها لا توازي ربح بناء بناية ضخمة وبيعها بملايين، خاصة أن السينمات كانت دائمًا ما تبنى في أماكن استراتيجية مثل شارع عماد الدين وشارع شبرا، والآن أغلب هذه السينمات هدمت".
"الوضع الآن مزرٍ لأنه توجد الآن محافظات كاملة خالية من أي دور عرض بينما كنت تجد أربع أو خمس دور عرض مختلفة في هذه المحافظات منذ 40 عامًا. يجب أن تُسن قوانين حاسمة لبناء دور عرض حكومية أو خاصة وأن تعفى من الضرائب بأول عام من تشغيلها. ويجب أيضًا أن يوجد شكل من أشكال النهوض بدور العرض، لأن هذا النهوض هو جزء جوهري للنهوض بقطاع السينما بأكمله"، تابع رمزي.
خداع الذات
سألته مداعبًا هل فكرت أن تكون صانعًا للأفلام لتصبح مكان من تنتقد أعمالهم؟ أجاب ضاحكًا "لا لم أرِد أبدًا. كتبت بعض القصص القصيرة في البدايات، ولكن وجدت أن أقول رأيي أفضل من أن يقول الآخرون رأيهم في أعمالي. أغلب مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة مثلًا كانوا نقادًا في مجلة كراسات السينما، وأيضًا صبحي شفيق و سمير نصري ويسري نصر الله كانوا نقادًا ومخرجين، وبالتالي فالجمع بين الإخراج والنقد ليس عيبًا، ولكنه لم يكن مناسبًا لي".
أغلب الكتاب لديهم عادات محددة يمارسونها يوميًا إذا كان قبل الكتابة أو أثناءها. سألته عن عاداته، فلم يكن مفاجئًا أن يتحدث عن التدخين؛ "أنا مدخن مزمن. أدخن منذ أن كنت في الثالثة عشر. والدي كان خفيف الدم وفي الواحدة والثمانين من عمره، قال لي الطبيب إن عليَّ منعه من التدخين نهائيًا. ولكني اكتشفت بعد ذلك أنه هو وحفيده (ابني) يتآمران ضدي، بأنه يجعل حفيده يشتري له سجائر ليدخنها، وحينما واجهته قال لي: أنا أبلغ من العمر الآن واحدا وثمانين سنة. إذا عشت فسأحيا خمس سنوات على الأكثر، وإذا دخَّنت وتوفيت وأنا مزاجي جيد أفضل من أن أموت وأنا مزاجي سيئ. على الأقل حينما يحاسبني الملائكة سيكون مزاجي جيدًا وسأعتذر عما اقترفته، ولكن لو لم أدخن سيكون مزاجي سيئًا، وحينها سأدخل جهنم مرتين لا مرة واحدة"، حينها ضحكت من رده، ودائمًا ما أتذكر هذه الحكاية حينما أدخن، كأحد أنماط خداع الذات".
يبرر رمزي عشقه للتدخين؛ "مهنة النقد صعبة وقاسية جدًا. عليك أن تختار الألفاظ والفقرات إذا كنت تهتم بجماليات الكتابة. بعض الكتَّاب تقرأ لهم فتشعر أنك تأكل وجبة لمجرد سد جوعك، بينما آخرون تأكل وجبتهم وأنت مستمتع جدًا. على الناقد أن يجعل القارئ يستمتع وأن يشعر أيضًا بالاستنارة".
سألته وما رأيك في حال السينما المصرية اليوم كمستوى فني وصناعة؟ أجاب "من ناحية الإبداع فهو متوفر، ولكن المناخ في العالم كله ومصر بالتحديد غير قابل للإبداع. ولكن رغم ذلك توجد الكثير من الأفلام الجديرة بالاحترام. كل عام تجد مثلًا خمسة أفلام فيها نهوض ورؤية وأداء. ولكن هذا العديد القليل لا يعطيك قوة اقتحام في السوق، بعكس السينما الأمريكية التي تنتج مثلًا خمسة عشر فيلمًا جيدًا وسط مئات الأفلام سنويًا. هذه الأفلام قليلة من ناحية صناعة السينما، ولكنها كثيرة من ناحية جمهور العالم الذي يكفيه هذا العدد من الأفلام الجيدة سنويًا. الصناعة كلها في مصر تكاد تكون مهددة بسبب قلة دور العرض والأجور المتدنية للفنيين، وأيضًا إيقاف عروض الأفلام وبالتأكيد سعر تذكرة السينما المرتفع".
لم يعد كمال رمزي يكتب النقد. اعتزل بشكل غير رسمي، يكتب أحيانًا قليلة نادرة ولكنه لم يعد مواظبًا على الكتابة اليومية مثلما فعل لعقود عدة. هل يرى أن النقد اليوم مؤثرًا مثلما كان من قبل؟ كان هذا سؤال الأخير، الذي رد عليه بأن النقد سيستمر طالما وُجد العمل الفني؛ "حتى لو تخيلنا جدلًا أن كل الأعمال توقفت ستجد عشرات الآلاف من الأفلام التي من الممكن أن يُكتب عنها مرة أخرى. وهو ما يسمى بإعادة الاكتشاف. من الممكن أن ترى أفلام يوسف شاهين أو فطين عبد الوهاب أو كمال الشيخ بوجهة نظر جديدة تمامًا. في تقديري النقد أطول بقاء من السينما".