1
هناك شيء مغرٍ وجذاب في حياة كل من الأمير عمر طوسون (1872- 1944) حفيد والي مصر محمد سعيد باشا، ابن محمد علي، وأحمد حسنين باشا (1885- 1946) رئيس الديوان الملكي؛ ذلك الشغف، وتحويل الطاقة التي منحتها السلطة لهما، إلى رغبة في التنقل والسفر والكتابة والكشوف الجغرافية والأعمال الخيرية. على سبيل المثال، وبعيدًا عن العلاقات النسائية الصاخبة لأحمد حسنين باشا، فقد قام باكتشاف واحة "الكفرة"، في صحراء ليبيا، عام 1925 بينما قام الأمير عمر طوسون بعده بثلاث سنوات باكتشاف لآثار 52 ديرا من أديرة وادي النطرون المندثرة.
ربما جاءت هذه الاهتمامات كنوع غير مباشر من مقاومة المستعمر، واستعادة الوطن كذاكرة كما فعل الأمير عمر طوسون في بحوثه وترحاله الروائي عبر الزمان والمكان والحدث. ربما بدأ هذا الاهتمام يزداد بإلهام من الكتابات الاستشراقية، بعد زيارة العديد من الرحالة الأجانب لمصر، بداية من القرن السابع عشر والثامن عشر، وترجمة أعمالهم. بدأ هذا النوع الجنيني في النمو، وأصبح الاهتمام الجغرافي، الأرض والتاريخ على رأس اهتمامات طائفة من المثقفين بداية من محمود باشا الفلكي (1815 - 1885) وعلى باشا مبارك (1823- 1893). اتسمت هذه الكتابات ليس بالدقة العلمية فقط، ولكن بالحس الروائي، وكأن التاريخ رحلة داخل رواية كبيرة تجمع المكان والزمان والحدث، وهو مايظهر في يوميات رحلة أحمد حسنين باشا لواحة الكفرة، وأيضا يظهر بوضوح في كتاب تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية، الذي يجمع بين الدقة التاريخية والروائية معا. روح جديدة في الكتابة الجغرافية، أو "أدب الرحلة" بشكل عام، بدأ في الظهور.
2
استأثر "نهر النيل" بكتابات عديدة لعمر طوسون، فقد كتب كتابًا عن أهمية السودان لمصر، ثم كتابًا آخر عن نهر النيل وتاريخه، ثم كتاب تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية عن الحملات التي قام بها الخديو اسماعيل لتأمين منابع نهر النيل. يكتب في مقدمته "لا ريب أن الفكرة التي اختلجت في نفس الخديو إسماعيل، والتي دفعته إلى فتح مديرية خط الاستواء وضمها إلى السودان، أو بالأحرى إلى الأملاك المصرية، فكرة جد صائبة، إذ بها تم لمصر الاستيلاء على نهر النيل من منبعه إلى مصبه، وأصبح في قبضتها تلك البحيرات العظمى التي يخرج منها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار حياة البلاد".
كانت هذه المديرية، كما يصفها عمر طوسون في مقدمة الجزء الأول "جنة أفريقية" أو "الفردوس الأرضي المفقود"، بتعبيره، الذي فقدته مصر، بعد أن استحوذت عليه في عهد إسماعيل، حتى عام 1889، وكانت رغبة الأمير من تدوين هذا الكتاب، الذي يهديه لأبناء وادي النيل، استرجاع هذا "الفردوس الأرضي المفقود".
يشرح في المقدمة، أن هذه المديرية أهم لمصر حتى من الإسكندرية. وعند وضع دستور 23، يرسل لحسين رشدي باشا يذكره بأن تبدأ اللجنة أعمالها مذكرًا بأهمية السودان، واعتباره ضمن حدود البلاد، كما كان قبل الاحتلال الانجليزي على مصر، وأهمية تشكيل مجلس نواب من السودانيين والمصريين على حد سواء. وفي كتابه "مصر والسودان" يقول بوضوح "توحيد البلدين حاجة ماسة، ولا يجب أن تخسر مصر السودان، حتى لو كان الثمن هو أن يكون السودانيون حكامًا على المصريين".
3
تلقى عمر طوسون تعليمه الأول في قصر والده، ثم سافر إلى سويسرا حيث درس القانون والعلوم السياسية والاقتصاد وأدب الرحلات. خلال رحلة تعلمه أجاد أربع لغات: التركية، الفرنسية، الإيطالية، والإنجليزية، بالإضافة إلى العربية. عند عودته من دراسته، لم يكن له دور في الحياة السياسية، وربما لم يسعَ إلى ذلك، فاتجه بكليته لتعويض هذا "الدور المفقود" بالأعمال الخيرية وبالرحلات والكشوفات الجغرافية، وأيضا بكتابة التاريخ، كونه أحد رواته وأيضًا أحد صانعيه بحكم نسبه العائلي.
بدأ، مع أحمد حسنين باشا، في خلق صورة جديدة لرجل السلطة المغامر، وأدخل نوعًا جديدًا من أدب الرحلة، ليس الهدف منه المتعة أو التريض الروحي فقط، ولكن البحث العلمي، والتعلم والاكتشاف، المقترنين بالتعب والبحث والمغامرة، وهي صورة جديدة قريبة الشبه بصورة ودور الرحالة المستشرقين، ولكن باتجاه الداخل.
كان عمر طوسون مؤرخًا هاويًا لم يدرس مناهج التاريخ الحديثة، ولكنَّ وضعه العائلي وقربه من وثائق الدولة، حفزا فيه هذا الدور، وربما كان يستعين بمن يقوم بالترجمة وجمع المعلومات، واستخلاص البيانات ورسم الخرائط، وهي الفرصة التي لم تتوفر للكثيرين من المؤرخين في عصره. الفرصة نفسها التي أتيحت لمحمد حسنين هيكل أثناء حكم عبد الناصر، فجاء سرده للتاريخ له الشكل الروائي، معلومات غزيرة داخل سلاسل زمنية متصلة، كما عند عمر طوسون. فرغم عدم تخصصه، كان له منهجه الذي يعتمد على الإحصاء وعرض الأرقام، مع إرفاق العديد من الوثائق الحكومية التي تدعمها، فمعظم كتاباته كانت تعتمد على التسلسل الدرامي للأحداث عبر "اليوميات" كما في كتابه تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية .
كانت لعمر طوسون مزاجية روائية في كتابة التاريخ والجغرافيا، تستهويه هذه القصص الهامشية التي لها الطابع الدرامي الحاد، مثل تأريخه لـ "بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك". هذه "الأورطة" التي ذهبت للحرب في المكسيك، ومات منها 140 جنديًا. هذا الاختيار التاريخي والروائي في آن، الذي غذَّى الأدب، وهذه "البطولة" التي أعاد الروائي محمد المنسي قنديل كتابتها في روايته كتيبة سوداء. هذا النوع من التأريخ الروائي الذي يكثر الآن. ولكن بدون مبالغة، كانت اختيارات تتسم بالجدة وموضوعاتها سابقة على زمنها، والتي بدات تظهر لها تخصصات بعد ذلك في الجامعات، مع ظهور دراسات "ما بعد الاستعمار".
4
في عام 1937 أصدر عمر طوسون كتابه تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية بأجزائه الثلاثة، يؤرخ فيه لقصة "فتح وضياع" هذه المديرية (1869- 1889)، تناول فيها الروابط التاريخية للسودان بمصر، ووثق بالتفصيل لسيطرة مصر، والحملات التي قام بها حكامها، لتأمين منابع نهر النيل الاستوائية في جنوب السودان، وصولا لبحيرتي فيكتوريا وألبرت في أوغندا، ووضعها جميعا تحت الحماية المصرية.
يصف عمر طوسون في الجزء الأول من الكتاب الذي يغطي من الأعوام (1869- 1879) الحملة التي أمر بها الخديو اسماعيل لتأمين منابع النيل، ووضع على قيادتها الرحالة والمستكشف الإنجليزي صمويل بيكر، ومن بعده الكولونيل جوردون.
صاحبت فترة حكم اسماعيل (1863- 1879) فترة نشاط استعماري بين انجلترا وفرنسا، تخللها افتتاح قناة السويس، وإرسال البعثات الاستكشافية في إفريقيا، ثم سيطرة فرنسا على مجموعة من الدول الإفريقية وسمتها السودان الفرنسي. عندها قرر الخديو إسماعيل فرض سيطرة الدولة المصرية على منابع النيل. فقام بتكليف صمويل بيكر وهو أحد الرحالة المستكشفين البريطانيين، بشن حملة عسكرية تبدأ من جنوب مصر وصولًا إلى منطقة البحيرات العظمى، والسيطرة عليها، حماية للأمن القومي المائي المصري، والوقوف ضد النفوذ/ الصراع البريطاني الفرنسي في جنوب مصر وشرق إفريقيا.
يذكر الكاتب إيهاب عمر في مقاله حرب إسماعيل من أجل مياه مصر على موقع المرصد المصري، أنه "بحلول عام 1872 كان العلم المصري قد ارتفع على منطقة البحيرات الكبرى، وأعلنت مصر رسميًا ضم تلك المناطق إلى أراضيها بشكل قانوني، وشملت مجرى نهر النيل من مصر إلى البحيرات الكبرى باستثناء إثيوبيا، حيث سيطرت مصر على أغلب مساحة أوغندا، ولاحقًا سيطرت مصر على شرق إفريقيا عبر رفع العلم المصري على كامل أراضي إريتريا، وكامل أراضي الصومال وسواحلها المطلة على خليج عدن والمحيط الهندي وتحديدًا مدينة كيسمايو عاصمة جمهورية جوبالاند، رغم أن الصومال ليست دولة مطلة على نهر النيل إضافة إلى سلطنة هرر الواقعة اليوم في جنوب إثيوبيا، وسميت هذه الأراضي جميعا مديرية خط الاستواء المصرية".
5
بعد مؤتمر برلين 1885، لاحقت القوى العظمى في أوروبا أي أراضٍ متبقية في أفريقيا لم تكن بالفعل تحت سيطرة إحداها. سميت هذه الفترة في التاريخ الأفريقي "فترة التدافع" من أجل أفريقيا. كانت القوتان الرئيسيتان المشاركتان في هذا التدافع هما بريطانيا وفرنسا، إلى جانب ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا.
يكتب عمر طوسون في الكتاب المذكور عن تصرف إنجلترا بعد هذا المؤتمر"كانت هذه المديرية المصرية آخر المديريات التي ظلت تحت الحكم المصري أثناء الثورة المهدية وكانت انجلترا تعلم أهميتها وتعلم أن الذي يتحكم فيها في حياة مصر كلها، فسعت أثناء الثورة المذكورة لإبعاد الهيئة المصرية الحاكمة عنها، وإبقاء الجنود المصريين النظاميين مع ذخائرهم وأسلحتهم فيها ريثما ترسل إليها رسولًا من قبلها يتحد مع هؤلاء الجنود ويضمهم إليه فتوطد قدمها في تلك الجهات بواسطة الجنود المصرية المتروكة هناك على حساب مصر".
أي أن مصر هي التي دفعت الفاتورة وانتقلت هذه المديرية إلى إنجلترا، بعد أن وضعت يدها على الحاميات والجنود المصريين الذين أرسلوا إلى هناك، وهو التصرف الذي ساعد انجلترا على احتلال أوغندا ومنطقة البحيرات العظمى في عهد الخديو توفيق الذي بدأ معه الاحتلال الإنجليزي لمصر (1882 – 1952).
6
سيطرت حالة من الفوضى على مجرى نهر النيل، بسبب سيطرة عصابات تجارة العبيد والعاج؛ فجهز الخديو اسماعيل حملة عام 1869 بقيادة الرحالة الإنجليزي، الذي تحدثت عنه سابقا، صمويل بيكر الذي كانت له خبرة بالمنطقة وقبائلها. وكان أهم أهداف الحملة هي القضاء على هذه "الحالة الهمجية" التي تنتشر على ضفتي النهر، وبث قيم "التمدين"، وكذلك ضمان السيطرة على منابع النيل التي تستمد منها مصر ثروتها.
يكتب عمر طوسون في الكتاب نفسه "حتى عام 1868 كانت أقصى نقطة وصل إليها الحكم المصري في السودان هي فاشودة، ( في جنوب السودان) أما الأقاليم الواقعة جنوب هذه الناحية فكانت إلى بحيرات خط الاستواء العظمى، التي يخرج منها نهر النيل، خارجة عن هذا الحكم، ويتردد عليها الرواد والنخاسون، وكان من بين هؤلاء الرواد الذين يترددون على هذه النواحي الرحالة الانجليزي المسمى صمويل بيكر، كما كان يتردد عليها في كثير من الأوقات بعض عصابات مسلحة يستخدمها النخاسون وتجار العاج الذين كانوا يجوبون أرجاءها ويبثون الفزع والجزع أينما ساروا، أو حلوا ابتغاء الحصول على متاجرهم البشرية وغيرها".
رغبة السيطرة على هذه الحالة "الهمجية" التي تنتهجها القبائل التي تعيش في هذه الأراضي، والتي تهدد سريان مياه النهر؛ كانت أحد أهم أفكار الحداثة التي أتى بها محمد على، المتمثلة في فرض العقل والنظام على كل شيء، ضد الهمجية التي تقف الغريزة من ورائها. بجانب منع تجارة العبيد وتجارة العاج. فقد رغب الكولونيل جورودن باشا، الذي تولى الحملة بعد صمويل بيكر، لهؤلاء الأهالي"أن يتنسموا ريح المدنية ضد ريح البربرية".
على هامش السيطرة التي تمت بالفعل على مجرى النهر وتأمين المنابع، تم تحديث خط التلغراف، ورسم خريطة النيل الأبيض رسمًا دقيقًا، وشق طريق بين جندوكور في جنوب السودان والبحيرات العظمى، لتسهبل الملاحة، بجانب تشييد محطات ومراكز للحكومة في عدة نقاط لتوطيد الأمن، وإرسال العلماء الدينيين من مصر لتعليم هذه القبائل الإسلام، وإلغاء الرق. بالإضافة ان الحملة اختصرت الطريق لمديرية خط الاستواء، بعلاقات المنفعة التي اقامتها مع شيوخ القبائل الذين كانوا يغيرون على أي عابر، فرسمت خطا مستقيما، للمسافر، بدلا من الخط المتعرج.
7
في كتابه عصر إسماعيل، كتب المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عن خسارة مصر لحربها مع الحبشة، وهو الصراع الذي دار بين الخديو إسماعيل والإمبراطور يوحنس الرابع إمبراطور الحبشة في الفترة من 1868 إلى 1876، وانتهى بانتصار الأخيرة.
ويسرد الرافعي في كتابه " تكبّدت مصر في هذه الحرب العقيمة التي حدثت للاستيلاء على الحبشة خسائر فادحة في الرجال والمال، وتصدّعت هيبتها لما أصابها من الهزائم المتوالية، وكلفت الخزانة المصرية نحو ثلاثة ملايين من الجنيهات آنذاك، في وقت كانت تنوء بالديون الجسيمة، وتعاني أشد ضروب الارتباك المالي".
يضيف عبد الرحمن الرافعي "كان الحلم الذي راود إسماعيل هو أن يجعل النيل كله مصريًا بعد أن أحاط بالحبشة من كل الجهات، فأغراه المرتزقة الأجانب الذين كان يعتمد عليهم وعيّنهم قادة للجيوش المصرية، وأوهموه بأن فتح الحبشة سهل بقوات صغيرة، فكانت الهزائم المتتالية".
8
في الكتاب، الذي بين يدي تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية يلجأ عمر طوسون لطريقة روائية في صياغة وتجسيم المشاهد، فيضيف لأي حدث بعده الروائي، الزمان والمكان والحدث. بالطبع هناك حصيلة كبيرة من المعلومات أطلع عليها، ولكنه تعامل معها بشكل تتابعي معتمدا على تسلسل التواريخ، وأحيانا يترك السرد التاريخي المتسلسل ليقفز للأمام، أو تعترضه فكرة ما، فيسير وراءها، فيخرج من الحاضر لزمن آخر. يلاحظ أيضا أنه يأخذ دور الراوي الثاني للحدث بعد الراوي الأول له وهو صمويل بيكر، عبر الدخول في صوته، وأحيانا يختلق حوارات لاستكمال جوانب هذا المشهد.
"رأى السير صمويل بجلاء أن السياسة السيئة التي ينحوها الوطنيون، تنحصر في تجويع الجيش حتى تضطر الحملة إلى الرجوع إلى الخرطوم، وعلى ذلك أفهم اللورون الخطر الذي ينجم عن اللعب مع أسد جائع، فكشر اللورون عن نابه بابتسامة وقال: أتريد ماشية؟ هذا شيء حسن. سأعطيك أدلاء وعليك أن تذهب فتغير على واحد من جيراني، وتستولي على قطعانه فتغنيك زمنا طويلا".
أحد التسبيهات الروائية يظهر في توثيق علاقة صمويل بيكر مع زعيم القبيلة اللورون، الذي كان يطلب منه أمداده بالمواشي لإطعام الحملة بعد أن وعده بدفع النقود لهم.، بينما هو يتمنع لتجويع الحملة والقضاء عليها، يصف عمر طوسون هذا المشهد كطرف ثالث.
وعن دقة الوصف للمكان أنقل هذه الفقرة الدالة من الكتاب "وتمتد الطريق الموصلة إلى قرية بلنيان ثلاثة كيلومترات في منطقة جرداء. وبعد هذه المسافة دخل الجيش في غابة مظلمة جدًا لاقى فيها مصاعب شتى، في جر المدفع الذي كانت دواليبه تشتبك في كل لحظة في جراثيم الشجر وجذوره. ومما زاد الطين بلة كثرة الغدران في تلك الجهة فكانت الخيول تسوخ أرجلها في الطين، وكان الإنسان لا يستطبع أن يرى المواضع الموحلة لشدة الظلام. ففي هذه الأمكنة كان يلزم لجر المدفع ثلاثون جنديا، وخيف من عواقب التأخير أن تكون وخيمة. وبعد انصرام الليل أخذ المطر يهطل من فروج السماء، وبعد مضي ساعة وصلت الفرقة إلى أرض جافة غير مستوية ليست بها أشجار وتبددت الغيوم وانقطع المطر".
9
تذكرتي رحلة صمويل بيكر ومن بعده جودرون باشا، برواية قلب الظلام لجوزيف كونراد. تصف الرواية الرحلة التي قام بها مارلو قبطان سفينة العاج باتجاه نهر الكونجو للعودة بـ كورتيس، مندوب الشركة، إلى أوروبا، من أجل العلاج من مرضه الشديد. خلال رحلة الاستعادة الصعبة، للوصول لكورتيس، يشعر مارلو، وسط رقص وغناء وصيحات الأهالي، بأنه خارج الزمن، يسير بالمركب نحو بداية الخليقة، ويجد لكل هذه الأصوات والصيحات أثرا عميقا يتردد داخله، كأن هذه الحياة جزءًا من حياة قديمة قد عاشها، أو عاشها أسلافه البيض، وكأن هذا البعد "الهمجي" أو "الغريزي" جزء من حضارة الرجل الأبيض، باختلاف الزمن.
عندما عثر مارلو على كورتيس، يجده قد تحول إلى إله وثني لهذه القبائل، يقومون بعبادته، ويرفضون مغادرته لهم، بعد ان أصبح جزءا منهم، ويعيش حياتهم بكل تفاصيلها و" همجيتها"، بالرغم من أن الغرض الأصلي هو أن يبشر بينهم بحياته وثقافته المسيحية "الحداثية". علاقة مركبة بين المستعمِر والمستعمَر، كأن كورتيس لبى هذا النداء القديم في نفسه رغبة في التساوي مع هذا الأثر بداخله، بينما مارلو لا يرصد إلا هذا التساوي عبر أصداء الزمن. يرفض كورتيس الخروج من هذا الزمن الأول "البدائي"، بالوصف الأوروبي، ويتخلى عن هذه الحداثة، وفي الوقت نفسه لم يعد يتعرف على نفسه بعد حالة المزج التي حدثت بين ثقافته وثفافة القبائل، ويصل لحالة من اليأس الممض من اي نجاة، فيرفض الانتقال مع مارلو، ولكن الأخير ينجح في سبحة للقارب بالقوة، وسط رفض الأهالي، وخلال رحلة العودة يموت كورتيس.
10
ملاحظة أخيرة جاءت على الهامش في كتاب تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية، ذكر عمر طوسون وجود اثنين من المترجمين من أبناء القبائل (شرون ومورجان) يعرفان اللغتين، لذا كانا وسيطين بين صمويل بيكر والأهالي، وهو الدور الوسيط بين المستعمِر والمستعمَر الذي أشار له "تودوروف" في كتابه فتح أمريكا- مسألة الآخر، الذي يدور حول غزو أمريكا اللاتينية. انتشرت الحضارة على أسِنَّة ألسنة المترجمين. يبرز هنا الدور الذي لعبه "المترجم" في التقريب بين ثقافتين، إحداهما مستعمِرة، والأخرى مستعمَرة. هذا الدور، القالب، الذي سينتشر بعد ذلك، حتى بعد اختفاء المستعمِر والمستعمَر بصورتهما الواضحة، تحت العديد من الأقنعة. ربما هناك قوالب مكررة جاهزة يحدث داخلها التفاعل بين المستعمِر والمستعمَر.
هذا المقال مدين للعديد من المقالات والمعلومات الموجودة على الشبكة العنكبوتية.