بورتريه لأسامة فوزي. تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أسامة فوزي: الذي بدأ متحررًا قبل أن يقيده المجتمع

منشور الأربعاء 21 أبريل 2021

عادة ما يتدرج الفنان بين رؤى يكونها لذاته والمجتمع والعالم من حوله، حيث المحيط الأكبر، وغالبًا ما يصل إلى التحرر العقلي والفكري في تلك المرحلة، لكن بالتدقيق في تجارب المخرج أسامة فوزي (1961- 2019) السينمائية نلاحظ أنه سَلك سبيلًا مغايرًا لتلك القاعدة، حيث بدأت أعماله من التجرُّد، مسلطة الضوء على قيم التمرد والتحرر في أبطالها المغايرين للسائد في المجتمع، كما هو الحال في فيلمي عفاريت الأسفلت، وجنة الشياطين، ثم عاد من جديد للاشتباك مع المجتمع والغوص في مشكلاته المباشرة كما في فيلمي بحب السيما، وبالألوان الطبيعية، فهل ارتد أسامة فوزي عن الحرية التي اكتسبها في تجاربه الأولى التي اتسمت بالاختلاف والتجريب؟

1996، و1999، و2004، و2009 هذه هي السنوات التي قدَّم فيها المخرج أسامة فوزي إسهاماته السينمائية التي اتسمت بالتجريب والتمرُّد في أغلب الأحيان، وشكَّلت جدلًا سينمائيًا ومجتمعيًا أيضًا، أربعة أفلام هي جل موروث فوزي السينمائي استهله بفيلم عفاريت الأسفلت وكان الختام مع فيلم بالألوان الطبيعية.

فوزي الذي مرَّت ذكرى ميلاده الشهر الماضي، سبق أن عمل مخرجًا مساعدًا مع حسين كمال، وحسن الإمام، وأشرف فهمي، ورضوان الكاشف، ويسري نصرالله، ما يربو عن عشرة أعوام قبل أن يصنع فيلمه الأول، في منتصف التسعينيات، تلك الفترة التي شهدت تحولات في مسار الفيلم المصري وظهور جيل جديد يحمل رؤية مختلفة عمَّا سبقه من أجيال وأفلام.

جمع فوزي عددًا من الخبرات أثناء فترة عمله مساعد مخرج، خاصة مع تباين الأساليب الإخراجية للأسماء المذكورة سلفًا، بدأها مع أشرف فهمي وأفلام هامة مثل المجهول 1984، وسرعان ما انتقل إلى مدرسة إخراجية أقل تجريب وأقرب إلى الأصالة في منهجيتها وهي مدرسة المخرج حسن الإمام بما تحمل من تفاصيل خاصة امتازت بها أفلامه على ما يقارب أربعين عام في الحقل السينمائي، ومع أفلام أكثر عصرية ومحاولة لمواكبة واقع الثمانينيات كان تعاونه مع المخرج حسين كمال، أيام في الحلال 1985 ومن قبله أرجوك أعطني هذا الدواء 1984.

مع اقتراب نهاية الثمانينيات واختلاف موازين القوى في السينما المصرية، وصعود جيل جديد يحمل رؤى مختلفة عن سلفه السابق، انتبه فوزي إلى رغبته في مواكبة هذا الجيل وغامر بإنتاج فيلم الأقزام قادمون 1986 إخراج شريف عرفة في أول أفلامه، رغم تمتع فوزي بموهبة الإخراج لكنه لم يقدم على هذه الخطوة سريعًا، تحرر من قيد اللقب والكرسي داخل اللوكيشن وآثر أن يعاون أصدقائه في مشروعاتهم، كما فعل مع رضوان الكاشف في ليه يا بنفسج 1993وفيلم مرسيدس في العام نفسه، لمخرجه يسري نصرالله، حتى جاء اليقين مع عفاريت الأسفلت.

شاركت التجربة السينمائية الأولى لأسامة فوزي عفاريت الأسفلت في الدورة 19 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ولاقى الفيلم استحسانًا وإشادة كبيرة من النقاد.

مشهد من فيلم عفاريت الأسفلت


سيد نظن أنه بطل الفيلم الأوحد، لكنه شريك في رحلة الصعلكة التي يعيشها الجميع من حوله، عالم من الجامحين المُحطِّمين لكل شكل من أشكال التقليدية المجتمعية والعلاقات القائمة على أخلاقيات وقيم الطبقة البرجوازية، سيد يتمتع بوقته مع بطة، زوجة الأسطى محمد الحلاق الذي يحب أم سيد، فيما يغازل زوجها عبدالله أبو سيد زاهية أرملة صديقه وأم رينجو الذي يحب انشراح أخت سيد وابنة عبدالله؛ مجموعة من العلاقات المتشابكة ترسم ملامح تلك الشخصيات التي تعيش في عالمين، الأول يحمل الملامح التي يتقبلها الواقع المحيط، والثاني عالم خاص أشبه بالأسطوري، تغلفه حكايات الأسطى محمد المستندة على عالم ألف ليلة وليلة، حيث يشبع كل عاشق حبه مع معشوقته، ويغذي كل منهما الجوانب الحسية في الآخر.طبَل أو المعروف في رواية أحدهم باسم "منير رسمي"، الرجل البرجوازي المحافظ، طبل ومنير وجهان متناقضان للإنسان، طبل هو وجه الجموح المطلَق بينما يمثل منير جميع من حوله؛ كل من يعيش في العدم. عاش منير كابتًا رغباته ومشاعره حتى حرره طبل وحوَّله من رجل محافظ إلى صعلوك كما قال الكتاب.

حالة تحرر

حياة الصعلكة التي رسمها مصطفى ذكري بنصوصه وصورها أسامة فوزي في سينماه لا تلوم أو تحكم، بل هي أعمق من ذلك؛ سينما تتنقل بخفة بين الظاهر والباطن، بين ما نحن عليه وما نريد أن نكونه، تغلفت بعالم أسطوري في تجربتهما الأولى، عفاريت الأسفلت، واتخذت ملامح الفانتازيا والواقعية السحرية في تجربتهما الثانية، جنة الشياطين.

حالة من التحرر عاشها فوزي خلال هاتين التجربتين، استمدها من كتابات مصطفى ذكري التي تجنح للتجريب والتخلص من العالم المحيط والغوص في العمق البشري واللذة الحسية بطرح فلسفي، فلا نرى الشهوة فاحشة أو القبلة شهوة، الرمزيات تحكم الصورة والكلمة والشخصيات، الجميع حاضر لخدمة الفكرة البطل، تلك الفكرة التي تُعنى بالدراما ذاتها دون الانتباه إلى المعطيات المجتمعية، فلا تقف في وجهها أو تساندها وكأنها تسبح في عالمها الخاص.

رغم أن الميكروباص هو عالم سيد الذي يجوب به شوارع القاهرة لكننا لا نعيش داخل طرق العاصمة وإنما طريق سيد نفسه، ذلك الذي رسمه ذكري وفوزي لشخصية سيد؛ نستمع إلى شريط الصوت المملوء بالأغاني الشهيرة في تلك الفترة التي غلب عليها طابع السرعة والتكرار والصخب، قد يكون شريط الصوت هو أكثر عناصر التعبير عن حالة طريق سيد، صاخب وجامح ويستمتع باللحظة، غير منشغل بالناس من حوله. في رحلة طبل مع أصدقائه نونا، وبوسي، وعادل، لا نرى الناس، لا أحد، العالم خالٍ إلا من سواهم، يملكون عالمهم الخاص، الشوارع خالية، نخرج منها إلى الطريق الرئيس حيث المدينة خالية من الجميع، وصدى صوتهم يجلجل كلما تكلموا أو ضحكوا.

نونا وبوسي وعادل هم تلاميذ طبل، صعاليك صغار لمعلمهم الكبير الذي يموت ميتتين ويحيا مرتين، التلاميذ الثلاثة ينفذون وصية معلمهم حيث "الحي أبقى من الميت"، هذا الشعار الذي يرفعونه لتبرير كل شيء يفعلونه، لكن طبل لا يقف مكتوف الأيدي بل يلاعبهم وهو ميت أيضًا كما كان يفعل وهو حي يجوب معهم الطرقات. يحمل الأصدقاء الثلاثة جثة صديقهم الذي يقرر بدوره ما يريد رغم موته، لكن حواسه ما تزال حاضرة وتقوده، درب من الجنون يعيشه أصدقاء طبل ومحبوبتاه حبة وشوقية، في مقابل عائلته المحافظة.

الحال نفسه مع طبل وجماعته، لا يحاكمهم أو يحكم عليهم فوزي وذكري، الجميع لا يقف خلف أسوار محاكمة مجتمعية وكذلك لا ينتظر تصفيقًا حادًا، بل على العكس هم أناس لا يهمهم المجتمع ولا الآخر، يعيشون بقواعدهم الخاصة، يصلون إلى مرادهم ويسيرون إلى أقصى حدود المغامرة.

 

لقطة من فيلم عفاريت الأسفلت. الصورة: IMDB

مخاوف طبيعية

على العكس من شخصيات فيلمي عفاريت الأسفلت وجنة الشياطين، تأتي شخصيات بحب السينما وبالألوان الطبيعية، شخصيات مقيَّدة، تائهة، لا تعرف ماذا تريد وكيف تعيش، شخصيات تسعى وراء المُثُل لكنها لا تؤمن بها بل تخشاها، شخصيات مهزوزة في جوهرها وتحاول ضبط مظهرها الخارجي حتى تكتسب احترام من حولها، هؤلاء الذين لا يختلفون عنهم في شيء، الجميع خائف ومتشكك، يحاول التشبث بأي شيء؛ عقيدة، أو فكرة أو إنسان، لكن دون جدوى، دائمًا ما تتصارع تلك الشخصيات مع محيطها الذي يظهر على الشاشة السينمائية، شاشة مزدحمة بالتفاصيل والأشخاص، هناك شعور متزايد بالثقل على عكس خفة العفاريت أو ساكني الجنة، حيث عاشواغير عابئين بالمجتمع، على عكس محبي السينما والباحثين عن الألوان الطبيعية.

هاني فوزي الكاتب والمخرج الذي دائما ما يشتبك مع المجتمع بأفلامه يجذب أسامة فوزي إلى عالمه وليس العكس، فنرى عدلي في بحب السيما يخشى من حياة طبل ويوسف في بالألوان الطبيعية يتمنى أن يجمح كما فعل سيد، رغم اختلاف القصص، لكن الشخصيات تبحث عن ما وصلت له سابقاتها، لا ننكر أهمية الطرح الذي يقدمانه على وجه خاص في فيلم "بحب السيما"، إذ يتجاوز الكنيسة والمجتمع ويطرح سؤال خفي، هو جوهر النزاع الذي نشب بعد مشاهدة الفيلم وهو "هل يريد الله منا أن نحيى خائفين؟".

يشكل الخوف جوهر عقيدة البعض؛ لا نحب الله بل نخافه، لا نصلي حبًا في الصلاة وإنما خشية عواقب تركها، وهكذا، كما هو الحال مع يوسف الذي يحاول الابتعاد عن دراسة الفنون الجميلة خوفًا من كونها جرمًا، يواجه هاني وأسامة الخوف بالصراخ في وجه المجتمع بأفلامهما، لكنه صراخ مباشر مقيَّد، يرى الآخر المجتمع هو الطرف الأقوى في المعادلة على عكس العفاريت وساكني الجنة، هؤلاء الذين لا يرون المجتمع من حولهم.

يوسف، وعدلي، ونعمات، وإلهام، وغيرهم من شخصيات الفيلمين يخافون التمرُّد، يخشون المحاولة. ربما يكون عدلي هو الوحيد الذي تحرَّر من قيود الخوف وتذوق حلاوة الدنيا ثم مات، لا يشكِّل الموت حزنًا في أفلام أسامة فوزي، "عم علي، طبل وعدلي" جميعهم ماتوا في الأفلام لكنه موت بعد اكتفاء، موت لا نخشاه وإنما ننتظره كلقاء صديق عزيز.

الحرية ممارسة؛ قد لا تكون مقبولًا مجتمعيًا لكنك تحب نفسك كما فعل طبل، وأحيانًا تخاف أن تُكشف لكن الجميع متورط معك كما هو الحال مع سيد، وقد تضيع السنوات هباء وأنت تجري خلف سراب حتى تكتشف الحقيقة وترتاح كما حدث مع عدلي، أحيانًا تحتاج الوقت للبحث أكثر كما هو الحال مع يوسف، الجميع يحاول البعض ينجح في الحصول على حريته وآخرون يحتاجون الوقت لبلوغ هذه الغاية.

بالنظر إلى تجربة أسامة فوزي السينمائية فإنه بدأ متحررًا بشخوصه التي لا تخشى التورط وتقبل على المخاطر وتكسر المحاذير، وانتهى مع شخصيات تخشى المجتمع والآخر، حتى إنها تخشى نفسها، فبدا التجريب في الصورة السينمائية والسرد البصري مقيَّدين كما هو حال شخوصه؛ أسامة فوزي مخرج قدم الحرية والتجريب وبحث عنهما بعد ذلك.


المراجع: 

  • السينما والمجتمع في العالم العربي القاموس النقدي للافلام إبراهيم العريس، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2015.
  • الأفلام المصرية 96، كمال رمزي، عدد 62 من سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1997.