كاتبة مجهولة، لها رواية واحدة غير ذائعة الصيت، المعلومات عنها شحيحة، فلا هي في الذاكرة الجمعية ولا حتى في ثقافة الهامش، تنهي حياتها القصيرة بيدها، ما الذي يدفعك إن لم تكن مثقفا مشغولًا بهموم "نسوية، أدبية، إلخ..." أن تفتح كتاب في أثر عنايات الزيات، أن تستغرق معه حتى النخاع، أن تصير لعنايات صورة مجسمة مركزية في رأسك، أن تشعر بتماسها مع نقاط الأعصاب والدم والتفكير حتى بعد أن تنتهي من قراءة الكتاب.
سمعة إيمان مرسال الكبيرة وحدها كشاعرة لا تكفي للإجابة، ففي تجربتين نثريتين متتالتين، كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها وفي أثر عنايات الزيات، تحقق التفاتًا لا يمكن إنكاره من "مينستريم" أكثر رحابة من دائرة القراء الضيقة والمضمونة، وتحقق نجاحًا، ملحوظًا، على مستوى المبيعات عبر موضوعات نخبوية. بل تزرع في حقل الثقافة نفسه مركزًا جديدًا يجذب الاهتمام والتفكير والمساءلة.
يلفت كتابها عن الأمومة النظر إلى المسألة من زواية الصدع، لا مثالية الأمومة المضحية، يبدأ كتابها عن عنايات في تحقيق أثر أشبه بمتتالية الدومينو، فيعاد نشر روايتها الوحيدة الحب الصمت، ويعاد التفكير في مصائر كاتبات أخريات، ولا أظن أن المسألة ستتوقف عند هذا الحد، بل هي فقط تبدأ. أثر يُذكر بترجمتها لرواية بيرة في نادي البلياردو، لوجيه غالي، يتلاحق في ترجمة لمذاكراته وباقي أعماله.
إذن تزرع إيمان في كل مرة ما هو أكبر من كتاب، تكسي الأشباح لحمًا، وتمنحهم طريقًا، أتلد كقابلة أم كأم؟
فلنعد للسؤال، لمَ كتابة إيمان مرسال، ابنة الثقافة العميقة والاختيارات النخبوية التي اختارت الهامش والصدع، صار لها من الجاذبية والقابلية للانتشار أسرع خارج الدائرة؟
لا يمكن طبعًا اختزال إيمان مرسال أو أي كتابة، في بضعة دروس ونصائح، ما يشغلني بشكل شخصي، هو إيجاد حلول، غير ملزِمة، لأسئلة تقنية بحتة، تساعد شخصًا مثلي يميل لأن يكون انطوائيًا، لم ينفتح على معرفة كتَّاب أكثر خبرة بشكل شخصي، وليس أمامه وسيلة للتطور إلا تعلم الكتابة عبر الكتابة والقراءة، فعلى عكس جملة محمد حافظ رجب "المتشنجة": نحن جيل بلا أساتذة، أظن أن على العبارة أن تكون أكثر واقعية ومرونة، ماذا عن جيل يختار أساتذته، لا يأخذهم إجمالًا، بل يتخير ما يعجبه فيهم، ما يناسبه، ويلفظ ما لا يعجبه أو لا يهمه. حيث كل ما هو جيد ومتقَن في الكتابة لا الشخص هو أستاذي، كل ما لا يعجبني لا يعجبني؟
ما أكتبه إذن من ملاحظات سريعة غير نهائية ليس عن إيمان مرسال، بل هو نسختي الخاصة منها التي قد تعينني ككاتب، ما أصدقه في تلك اللحظة عما تعنيه الكتابة، ولعلها، كرسالة في زجاجة، ربما تكون مفيدة لشخص ما.
راوغ ما تؤمن به
ينطلق تصور الكتابة عند كل كاتب من أساس، قد يكون مسارًا ضيقًا بالضرورة، يستبعد أكثر مما يضم لأن فعل الكتابة انتقائي بطبعه، طالما لا تخلط بين هذا وفرض مسارك على الكتابة ككل، لكن لدى إيمان درس آخر، فعلى عكس ادعاءات العقل الباردة والقاطعة، لأن الغيب شُطب وفق مانفيستو العقلانية، لا تتورع عن أن تستمع إلى همسات الأشباح الآتية من الغيب، العقل لم يُمح، بل هو حجر الأساس، لكنها لم تغلق الباب أبدًا أمام الأحلام أو هواجس المخيلة النشطة، ألم تطارد شبحًا في كتابها "في أثر عنايات الزيات"؟ تتبعت صدى، بل تواصلت معه، هداها كنجم. لديها إذًا ما هو أكثر من عقل، روح أكبر من تصور نهائي.
ازعم الموت
اللغة عند إيمان تبدأ باردة وحيادية، بتقشف واقتصاد لغوي، يمارس عملية تشريح بارد، تستخدمه للولوج إلى نصها، تحديدًا عندما تجابه خرافة أعنف مثقلة بالشجن والبلاغة الميتة، ربما هو الحل الوحيد في مواجهة كائن يدعي الموت والحياة، وما تثيره جثث الموتى الأحياء من رهبة، ربما علينا أن نزعم موتًا مماثلًا، بوجه يدعي القسوة، كي نحمي أنفسنا من الخوف أو الشفقة، وإلا لاستمرأت الجثث قوتها المرعبة، وعادت لتقتل طبيبها الأخير.
لا تعبد اللغة
لغة تنفر من الغموض، سلاسة تعكس رغبة عميقة في التواصل، لم تستبعد التراث أو تتكاسل في قرائته، فإحدى اقتراحات إيجاد لغة صالحة للحاضر وربما تبقى في المستقبل، قد لا يتأتى إلا عبر خوض شاق في الماضي، خوض لا يعبد ولا يستنسَخ ولا يتفاخر ببلاهة، ولا يوظفه كاستعراض للقوة، أو التنمر باسم فقه اللغة وسلطتها، لا تعود من رحلتها إلا لتفكِّر في الآن، شرطها الأساسي أن يكون ما عادت به دقيقًا حيويًا، وقابلًا لأن يندرج في اليومي.
لا تبتذل خدعة الساحر
للبرود وظيفة أخرى؛ تمهيد الطريق إلى التوتر، الذي يسبق العاطفة، والحميمي، تعمية على ما هو جوهري في الأساس، خدعة ساحر، لن يبتذل حقيقة ما هو مؤلم و شديد الالتصاق بإنسانيته وإنسانية قارئه، ولا ما هو مفزع فيما يكشفه، إلا في حينه، هكذا لا تبتذل العاطفة أو الحرفية أو المخيلة أو الإدراك، ليصبح كل مسٍ مبارك وفعال.
اللجام والحمى
تملك إيمان قلبًا وذاكرة وعينًا راصدة، وكما قلنا سابقًا، عقلًا كحجر أساس، فيه تبدأ الشرارة المنبهة التي تتحول فيما بعد إلى جسد حي تملؤه العواطف والأفكار، بمعزل عن صانعته، في البداية تستقبل كل ما حولها دون أن تتأثر، كي تتمكَّن من جمع علاماته بلا أحكام، إنها تؤجل التأثر، تنطلق بيد تقبض على اللجام، لكنها تعرف متى ترخيه من أجل الحمى، ستتأثر دون أن تثمل، وفي اللحظة المناسبة ستدرك قارئها من الغرق. فاللجام لا يفلت من اليد لكنه يرخى بمقدار، ولا يُنسى أمام سطوة الحميمي.
عند الدرجة صفر لا تناقض بين الأشياء
أدعوكم لقراءة فصلها البديع في كتابها كيف تلتئم..عن الأمومة وأشباحها، يوميات عن يوسف الابن، تتخطى الجمال إلى ما يجعل هذا الجمال مربكًا، لأن معياره ليس الطيبة والتناسق، ليس كل ما نحسبه خيرًا، وهو في حقيقته صنو السذاجة جمالًا، بل إنه يضم في أريحية كل شر، كل خوف، كل هاجس، كل ضعف بنظرة متعالية على التناقض، يتجاور فيها الشيء ونقيضه تحت بصرها معا دون تقسيمات مانوية، لأن في الجوهر لا تناقض، بل أفكار أخرى للإله/ للإنسان، طرق أخرى للعيش.
تبدأ اللغة في فصل "الابن" بنفس الحياد والبرود الذي يشرح اللحظة، رباطة جأش أمام غليان التناقض، ترويض لعويله وهدهدة لاضطرابه واستباق لنيرانه، ما قبل الدرجة صفر بين الشيء ونقيضه بقليل، تتوتر اللغة وترتبك، تفشي عن حملها، ولا يعود مهمًا أيضًا أن تكشف، أخيرًا، عن ادعائها لرباطة الجأش، ينتقل إليك الحِمل أخيرًا عن طريق اللغة، عندما تتردد ما بين البرودة وشحنة المشاعر، الصمت والكلام، التردد في البوح والإقدام، الثبات والانهيار، حتى تصل بنا، دائخين ثملين، إلى ذروة تكتسح قارئها، قبل أن تعيده إيمان إلى حيث أرادت، الدرجة صفر بين الشيء ونقيضه، لقد أدرك الآن، وتقبَّل، أن الأشياء تتساوى إذا أردت الرؤية عن حق.
تخير سلالة وامقتها
إنها لا تزدري وتمقت سوى ما أدركه دون كيشوت في نهاية رحلته الطويلة "وأنا الآن عدو لأماديس دي جول ولكل العشيرة التي تعد من نسله" فرسان غير حقيقية، مضلِّلة، خرجت من التاريخ، لأنها وقفت ضده، رغم بلوغها ذروة النضج والسُلطة ذات يوم، ما اكتشفه سيرفانتس الذي كان من قبل بلا شك هو دون كيشوت هو ما انتهت صلاحية سريانه، هكذا تستنطق إيمان عنايات الزيات، لتحررها من رؤى حبيسة أفكار أنيس منصور، مصطفى محمود وغيرهم.
فلتحدِّد إذن سلالة أماديس الخاصة بك، إنها تتجدد في كل لحظة، بسقوط الافتتان، يتحول كل دون كيشوت داخلنا إلى سيرفانتيس، فقد كانه ذات يوم.
ببساطة لأنها امرأة
أعلم أن سببًا كهذا، قد يستفز أيديولوجيات عصبية، لكنني أؤمن أن علينا ككُتاب بغض النظر عن تصنيفنا الجندري، أن نتعلم كيف ننفتح على جانبنا النسوي والأنثوي؛ حساسية الاحتواء، والأمزجة المتقلبة بين حرفية القابلة وعاطفة الأم، حيث الشيء ونقيضه هما توأمان، ترعاهما العين العادلة للأمومة، مزيحين انحيازات أيدلوجية ثقيلة، تعمي عن الرؤية، لننفتح على الإنساني بمعناه الأشمل.
اكبح شهوة الاستعراض
لا يتعلق الأمر أبدًا، من وجهة نظري بأن الأعمال صغيرة الحجم، تحمل معنى أكثر أصالة للكتابة من الأعمال كبيرة الحجم، وفي هذا لا أوافق من يردد تلك العبارة، لكن بإمكاني التعديل: كل حشو لا لزوم له هو ابن شهوة الاستعراض، الجزء النرجسي التافه الذي لا يكف عن المطالبة بالظهور، إعلان فج عما نظنه عظيمًا واستثنائيًا في أنفسنا، ككوننا أكثر ثقافة، أكثر ذكاءً، أكثر تقدمًا من رعاع وغوغاء، أكثر بلاغة، أقوى مخيلة، ذلك خطأ قد يرتكبه الكاتب في عشر كلمات أو ألف صفحة. وهو ما تنجح إيمان في كبته، عبر اقتصاد وتقشف، ولغة تجعل الثقافة مهضومة داخل نسيج ما تكتبه، لا تبرز على السطح في استعراض إلا نادرًا، ربما لتذكرك أنها قادرة على الذهاب باللغة إلى حيث تريد، وكما غزلت النسيج في سلاسة، فبإمكانها تعقيده.